عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

غانية الوناس - الجزائر

الشمس لن تشرق من جديد


غانية الوناستُلاحقناَ الحياةُ لعنةً دائمَةً تتبعُ خطوَاتنَا، تسْتفزُنَا، تُبكينَا، تَظْلمنَا، تَقْهرنَا تمنحنَا الفرحَ لسَاعَاتٍ، ثمّ لاَ تلبثُ أن تسْرقَ منّا كلّ شيْء، وتُحِيلُنَا مجردَ رَمَادٍ للذكريَاتْ.

كان يوما ممطرًا وباردًا جدًا، كان كل شيء خارج الغرفة يشارك المطر حزنه ودموعه، كان كل شيء يعانق التراب المبتلْ.

في لحظة التقاءٍ فريدةٍ لا تتكرر، كان السّحابُ يلّف كلّ ما كنتُ أراهُ من وراءِ نافذتي، وقفتُ طويلاً أتأملُ المطر ،كنت أشعر به ينزلُ في أعماقي، يتهادَى بنعومته ليسكن أعمقَ نقطةٍ في كياني، لطالما كنتُ أعشقُ جو المطر ،وكان هو يبادلني عشقي بأن ْكانَ يستمرُ بالهطول ،وسحرهُ يلُّفني ويُغرقني في أفكارٍ كانتْ تُراودني ، فلا أعودُ أنتمي إلى هذا الواقع في شيء.

غادرتُ بتفكيري إلى الأفق البعيد أتأمل مطري ويتأملني مطري، نتبادلُ النظرات خلسةً عن أعين الواقع المتعب ،بعيدًا عن صخبِ الحياة المملّة المنهكة. غرقتُ بالتفكير والتأمل مطوّلاً، وبدتْ لي كما لو كانت ساعاتٍ من السّحرِ والنشوةِ التي تسرقُ بهجتها من صوت المطرِ خارجًا.

أيقظني رنين الهاتف من حلم يقظتي ذاك، فالتفتُ ابحثُ عن مكانه، كان صوتُه على غيرِ العادَة مزعجًا جدًا، فدارتْ أفكارٌ في رأسي وأنا أسمعُ رنينَه يتكررُ في أُذُني وصدَاهُ يتعالَى ويتعالَى في أرجاء الغرفة.

نهضتُ بسرعةٍ أتفقدُه لأُجِيب عليه، تعثرتُ بشَيْءٍ ما فوقعتُ مكَاني، اصطدمَ رأْسِي بشيء ما فأدْمَت جبهتي، تحسَّسْتُ ذاكَ الدم بيدي فانقبضَ قلبي فجأةً، وضَاقَتْ نفسي في لحظات.

تعالتْ دقَاتُ قلبي وتسَارَعتْ نبضاتُه، وازدادَ الرّنينُ إزعاجًا، شعرتُ بشيءٍ ما ليسَ بالعادّيِ أبدًا ،توترتُ وأصابني الفزع، لم أدر ما قد يكونُ حدث ، فقط ازدادَ خوفي وتوتري، وشعرتُ بكلّ شيءٍ يدُورُ من حوْلِي، وفكَّرْتُ فقطْ في أنْ أَصِلَ إلى الهَاتف كيْ أُوقِفَ رنينه، وَأُوقِفَ معهُ هذا الفزعَ الذي أصابني في لحظاتٍ فقطْ.

أخذتُ الهاتف بسرعة، ونظرت إلى رقم المتصل، فبدَا لي غريبًا، لم أعرفهُ. كان من دون اسمٍ، فازداد قلقي وخوفي، وارتجفتْ يدي وأنَا أضغط على زر الإجابة.

"منْ معي؟ منْ يتكلّم؟ مَا الأَمْر؟"

أسئلةٌ تلاَحقَتْ وَتتَابَعَتْ منّي دُونَما أَيّ وَعْي. لمْ أدر حقًّا ماذَا كنتُ أسألْ أو أَقُولْ.

"نتصلُ منَ المستشفى، وجدنَا هذَا الرقم في هاتف أحدهم، واتصلنَا كيْ نُخبركُم بأنّه قد أصيبَ في حادثٍ و... في الواقع يؤسفنا إبلاغكم بأننا لم نستطيع القيام بشيء. لقد مات".

"لقد مات". هذا فقط ما سمعته. هذا فقط ما تذكرتهُ من كل ما قال: "لقد مات".

سقطت أرضاً، سقط الهاتف من يدي وتهاوت معه كل أحلامي وآمالي إلى أعماقِ المجهولْ. مرّ كل شيء من أمامي شريطاً أسْود لاَ ضوءَ فيه ولاَ نُور. غرقتُ بكلّ ما في نفسِي وكلّ ما حولي في مطرِ دُموعِي.

لفّني السكون واستوطنني الصمت. ما عاد شيء يقوى على إيقاف ذاك الهُطول السري في داخلي. سوف تظل تمطر وتمطر، فقد غربت الشمس إلى الأبد.

D 25 أيار (مايو) 2012     A غانية الوناس     C 10 تعليقات

5 مشاركة منتدى

  • رائع ماسطّرت أناملك ياغانية فالنص له من الدلالات ومابين السطور الكثير وأنا أعشق النهايات المفتوحة , عشت معك كل كلمة وتصوّرت ان ذاك قد يحدث مع أي منّا لكنني لم أبالي لو حصل معي فأغلب الظن ان أمطاري توقفت عن الهطول من قرون ماقبل الميلاد...


    • الرائعة أمل، كم أسعد حين أتلقّى منكٍ هذا الكمّ من التشجيع، تجتاحنِي الرّغبةُ في الكتابة دون توقّفْ،

      أتعرفين للحزن قدرة عجيبة على الغّوص في النفسِ إلى أعمق نقطة، لذلك نشعر دائماً أنّه يسكن ما بين السّطور أكثر مما يسكن السّطور أنفسها، وأنا ربّما يأسرنِي هذا الشيء، وبالمناسبة أشارككِ عشق النّهاياتِ المفتوحة،ولسبب ما لا أحبذّ كثيراً تلك النّهايات السّعيدة،
      أتمنّى أن أبتلّ ذات خريف أو شتاءٍ، لايهمّ الفصل، أتمنّى حقاً أن أبتلّ ذاتَ صدفةٍ بقطراتٍ من مطركِ، لابدّ أن هناكَ شيئاً أجمل في القادم.
      تحيّاتِي الخالصة إليكِ عزيزتِي .

  • الأستاذة غانية

    النص رائع، وأوافق الأستاذة أمل فيما قالته،إلا أن الطفلة بداخلي تحيّرها النهايات المفتوحة، و تقتلها النهايات الحزينة..!
    ربما لا تزال تبحث بين القصص عن الأميرة تتزوج الأمير و تعيش في سعادة، مايبعدها عن أرض الواقع دائماً

    نصك يمطرني حزناً وخوفاً، وعزائي ابتسامتك الجميلة

    أنتظر منك المزيد

    أذكريني حين تشرق شمسك مرتين *


    * مقال للصديقة إشراق ظافر


    • عزيزتِي أشواق، أشكر لكِ جميل اهتمامكِ،ولطفك الكبير،

      عذراً لقساوة كلماتِي ،عذراً للطفلة الّتي بداخلكِ، لعلّي أخفتها أكثر ممّا ينبغِي،
      أمّا أنا فالطّفلة بدّاخلِي، تعلّمتْ أنّ الأمير لا يتزوّج الفتاة الفقيرة أبداً، وأن بياض الثّلجِ، لنْ تنجو من سمّ خالتها زوجة الأب، وأن السّندريلا بالاساس لن تذهب إلى الحفلِ،ولن تلتقي أبداً بالأميرْ،
      مفجعة هاته الحقيقة، لكنّها تبقى أرحم من الخيالِ الّذي لا يوّرثنا سوى الخيباتْ.
      في العمر بقيّةٌ من حلمْ، والابتسامة دائماً عنوانٌ يصلحٌ لكلّ المناسباتْ،
      سعدتُ كثيرا بكِ عزيزتِي. أشكرك.

  • نص جميل وفيه من فلسفة المطر وغيوم الحزن ما يجعلنا نتأمل بعمق هذه النهاية المفتوجة لقصتك الرائعة ... دمت بكل بخير ودام ابداعك/ محبتي


    • لا أدري لماذا يرتبطُ الحزن في اغلب الأحيانِ بالمطرْ، ربما لأن كليهما يرتبطان بالهطول كلّ على طريقتهِ،
      ومع ذلك نترك دائما الباب نص مفتوحٍ، لعلّ الفرح يقررّ أن يزورنا ذات زمنْ، من يدرِي ؟!!
      أشكر اهتمامك استاذ أوس. أتمنّى أن يكون لنا دوام اللقاء عبر صفحات هذه المجلة المميزة..تحّياتِي لك.

  • كم أحببت كتاباتك عزيزتي غانية، خاصة في هذا النص حين وجدتك تشاركينني حبي للمطر وعشقي للمشي تحته دون حائل حتى أبتل بالكامل. لكن مالم أحبه هو ذاك الهطول السري في داخلك، لقد آلمني كثيرا. وذاك الغروب الابدي يخيفني و يشعرني بالقشعريرة، ولا قدرة لي على ليل سرمدي. الا ان الشمس على موعد مع الصبح و لن تخذلنا ابدا ان شاء الله.
    اتمنى ان تمتعينا بجديدك دائما.


    • عزيزتِي الزهرة،
      وأنا أحببتُ مروركِ الجميل، أحتاج حقاً في بداياتِي لكل تشجيعٍ، وأنتِ تمنحيننِي ذلك ولا شكّ،
      أحبّ المطر،وأعشقُ الكتابة عنهُ،وأحتاجُ كلما قارب الحبرُ على الانتهاء أن أستعين ببعض ماء المطر، فوحده المطرُ يبقِي الصفحاتِ طريةً، ندّيةً، عذبةً، وعلى قيدِ الحياة،
      أما ذلك الهطول السريّ،فهو ليس إلا استجابة لنداء الحزنِ الخفيّ، الّذي يظهرُ حيناً، ويختفِي أحياناً، وتبقى الشمسُ بارقة أملٍ تلوّن صباحاتنا في كل يومٍ جديدْ..
      أشكركِ عزيزتِي كثيراً..تحيّاتِي.

  • وستظل تلك الامطار تهطل.حزننا يتحدى كل القوانين الفيزيائية فمهما أمطرت لن تنطفا تلك النار التي في القلب


في العدد نفسه

عن مبدع الغلاف

كلمة العدد 72: "عود الند" تبدأ سنتها السابعة

محمد بنعمارة: شاعر الحب الإلهي

تجليات الإحباط في تشكل الذات

قراءة في "الحياة أغنية"