عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 
أنت في : الغلاف » أرشيف أعداد عـود الـنـد » الأعداد الشهرية: 01-120 » السنة 8: 84-95 » العدد 89: 2013/11 » البديعيات: فن بلاغي يحتاج إلى التأمل

د. يسري عبد الغني عبد الله - مصر

البديعيات: فن بلاغي يحتاج إلى التأمل


عندما نقول "البديعيين" فإننا نقصد بهؤلاء الذين تحدثوا عن الصور البلاغية تحت اسم (البديع)، وأرادوا بها ما يندرج غالبا تحت علم البيان وعلم البديع في عرفنا الحاضر.

وإن كان ضياء الدين بن الأثير صاحب كتاب "المثل السائر في أدب الكاتب والشعر" الذي حققه د. أحمد الحوفي، بالاشتراك مع د. بدوي طبانه، وصدر في القاهرة سنة 1962 م، أطلق كلمة بيان، وأراد بها ما أراده زملاؤه البديعيون، وعلى هذا الأساس يجعله بعض البحاثة معهم من باب التغليب، لأنه ينهج نهجهم، ويسير على طريقهم.

وبعض هؤلاء العلماء يتحدثون عن الإيجاز والإطناب والمساواة، وهو علم المعاني في عرف المتأخرين، وما تفرع منها تحت اسم البديع.

وأول عالم من هؤلاء كان في أواخر القرن الخامس، وأول القرن السادس الهجري، وهو أبو زكريا الشيباني التبريزي، المتوفى سنة 502هـ، صاحب "شرح الحماسة" لأبي تمام، و"تهذيب المنطق" لأبن السُكيت، و"شرح سقط الزند" للمعري، و"شرح المفضليات" للضبي، و "شرح القصائد العشر المعلقات"، و"الوافي في العروض والقوافي" الذي تحدث فيه عن الصور البلاغية.

ويلي التبريزى في أواخر القرن السادس الهجري، الشاعر الفارس أسامة بن منقذ، المتوفى سنة 584هـ في كتابه "البديع"، الذي قام بتحقيقه د. أحمد بدوي، بالاشتراك مع د. حامد عبد المجيد، وصدر في القاهرة، سنة 1960م.

وبعد ذلك جاء ضياء الدين بن الأثير، كما ذكرنا، وهو وإن لم يتكلم عن البلاغة، فإنه غلب عليها اسم البيان، لأن البيان في نظر أصحاب هذا الاتجاه يشمل البيان والبديع في عرف المتأخرين.

وبعد ذلك نجد ابن أبي الإصبع المصري، ذلك الرجل الذي وهب نفسه للجمال الأدبي والبلاغي، وفكره للخيال، وعقله للتفنن والابتكار، والذي ولد سنة 585هـ أو 589هـ، وتوفي سنة 654هـ، وهو صاحب كتاب "تحرير التحبير" الذي حققه د. حفني شرف (رحمه الله).

البديعيات

لم يسر هذا المنهج في الدراسة البديعية كما أراده ابن المعتز، وعبد القاهر الجرجاني، وأسامة بن منقذ، وابن الأثير، وابن أبي الإصبع المصري، بل اتجهت الدراسة بعد ذلك إلى صنع قصيدة على غرار البردة في مدح خاتم الأنبياء والمرسلين، الرسول الكريم محمد (صلى الله عليه وسلم)، أو مدح غيره، مشتملة هذه القصيدة على أسماء الصور البلاغية، مع صلاحية البيت الذي فيه اسم الصورة شاهداً لهذه الصورة.

وإن اختلف أصحاب هذه البديعيات، فبعضهم كان يذكر اسم الصورة مصرحاً به، والبعض الأخر يعتمد في معرفة اسم الصورة على ذكاء القارئ وفطنته. [حفني شرف، البلاغة العربية، ص 220، وما بعدها].

وابن أبي الإصبع المصري كان آخر من تكلم عن الصور البلاغية على طريقة السابقين، والمعروف لنا أنه توفي سنة 654هـ، أي في أوائل النصف الثاني من القرن السابع الهجري.

وفيما يلي سنحاول قدر الإمكان أن نستعرض أهم البديعيات بدءً من منتصف القرن السابع الهجري إلى القرن الرابع عشر الهجري، محاولين التعليق عليها بإيجاز، آملين أن نتناولها في دراسة موسعة إذا كان في العمر بقية.

استعراض لأهم البديعيات وتعليق عليها

منتصف القرن السابع الهجري

في النصف الثاني من القرن السابع الهجري يطالعنا صاحب أول قصيدة أو بديعية، وهو علي بن عثمان الأربلي، الذي نظم قصيدة في أحد معاصريه، وقد توفي سنة 680هـ، ولكن لم تصل لنا بديعيته، وبمعنى آخر لم نتوصل إليها، وعليه فلم نستطع أن نعرف عدد الألوان البديعية، ولا المنهج الذي سلكه في صياغتها.

في القرن الثامن الهجري

=1= ثم ننتقل بالبديعيات إلى القرن الثامن الهجري، فنجد العلامة عبد العزيز ابن سرايا بن أبي القاسم بن أحمد بن نصر بن أبي العز الحلي الطائي، المولود في يوم الجمعة، الموافق الخامس من شهر ربيع الآخر، سنة 677هـ، والمتوفى سنة 750هـ، ومطلع بديعيته هو:

إن جئت سلعاً فسل عن جيرتي العلم

واقرأ السلام عن عرب بذي سلم

(ونشير إلى أن: سلع، وعلم، وسلم، أسماء جبال).

وقد بلغت القصيدة التي كتبها الحلي الطائي مائة وخمسة وأربعين بيتاً من بحر البسيط، وإن ضمن الحلي كل بيت صورة بديعية، إلا أنه لم يصرح باسمها في النظم. [شوقي ضيف، البلاغة تطور وتاريخ، ص 36 وما بعدها].

وأطلق الحلي على هذه القصيدة اسم (الكافية البديعية في المدائح النبوية)، ثم قام بشرحها تحت اسم (النتائج الإلهية في شرح الكافية البديعية في المدائح النبوية).

كما قام بشرحها العلامة عبد الغني النابلسي، شرحاً سماه (الجوهر السني في شرح الصفي)، ولعله يقصد (الحلي) أي بديعية الحلي الطائي.

=2= وفي نفس القرن (الثامن الهجري) نلتقي بالعلامة شمس الدين بن أبي عبد الله محمد بن أحمد بن علي بن جابر الأندلسي (ابن جابر الأندلسي أو جابر الأندلسي، الذي عاش فترة من الزمان بالإسكندرية المصرية، ودفن بها)، المولود سنة 698هـ، والمتوفى في شهر جمادى الآخرة سنة 780هـ، نلتقي به في بديعيته المسماة (الحلة السيراء في مدح خير الورى)، ومطلعها:

بطيبة أنزل وتمم سيد الأمم

وانثر المدح، وانشر طيب الكلم

وقد شرحها ابن جابر الأندلسي نفسه، ومعنى مطلع البديعية يوضح لنا بأن هذه براعة ليس فيها إشارة تشعر القارئ أو السامع بغرض الناظم، بل أطلق التصريح، ونثر المديح، ونشر طيب الكلام.

والبديعية لا بد لها من براعة تهدف إلى حسن التخلص، وحسن الختام، وهذا بالطبع له تأثير فعال في نفسية المتلقي، فإذا كان مطلع القصيدة مبنياً على تصريح المديح، فإن حسن التخلص لا يكون له محل ولا موضع.

وهذه البديعية لابن جابر الأندلسي قام بشرحها أبو جعفر الرعيني المتوفى سنة 779هـ، أي قبل وفاة ابن جابر الأندلسي بعام واحد تقريبا.

=3= كما نلتقي في القرن الثامن الهجري بالعلامة عز الدين الموصلي، المتوفى سنة 789هـ، فنراه ينظم بديعيته على غرار قصيدة ابن جابر الأندلسي، ومطلعها:

براعة تستهل الدمع في العلم

عبارة عن نداء المفرد العلم

ونلاحظ أن الموصلي يمتاز عن الحلي الطائي وابن جابر الأندلسي بأنه يصرح في بديعيته باسم اللون البديعي أو البلاغي ضمن نظمه، على عكس السابقين، فإنهما كانا يكتفيان بذكر الصورة البديعية أو البلاغية أمام البيت (أي على الهامش).

وهذه البديعية قام بشرحها عز الدين الموصلي بنفسه، شرحاً ضافياً، سماه: (التوصيل بالبديع إلى التوصل بالشفيع).

في القرن التاسع الهجري

=1= ثم نترك القرن الثامن الهجري إلى القرن التاسع الهجري، وفيه نلتقي بالعلامة تقي الدين أبي بكر علي بن محمد، الذي نعرفه باسم ابن حجة الحموي، المتوفى سنة 837هـ، في بديعيته التي مطلعها:

لي في ابتداء من حكم يا عرب ذي سلم

براعة تستهل الدمع في العلم

فنجده قد نهج منهج عز الدين الموصلي في تضمين البيت الشعري في بديعيته اسم الصورة البديعية، وإن كان لم يعجبه هذا النهج أو هذا المنهج فانتقده لما فيه من الثقل والتكلف (من وجهة نظره).

ولكن ابن حجة الحموي يلتمس العذر لنفسه بذلك، بأنه مع تصريحه باسم الصورة البديعية أو البلاغية فقد أجرى فيها الرقة والسلاسة.

ثم قام ابن حجة بشرح بديعيته شرحاً مسهباً مطولاً، تحت اسم "خزانة الأدب وغاية الأرب"، وهو الكتاب المتداول بيننا الآن تحت اسم "خزانة الأدب" لابن حجة الحموي، وهو بالطبع غير كتاب "خزانة الأدب ولب لسان العرب"، الذي خلد اسم عبد القادر البغدادي (المتوفى سنة 1093هـ) وجعله زعيماً لللغويين في القرن العاشر الهجري.

ولذلك عندما نقول صاحب الخزانة فنعني عبد القادر البغدادي، وعندما نقول عبد القادر البغدادي قلنا بعدها مباشرة صاحب الخزانة.

نعود لنقول: في هذا الشرح المستفيض المسهب أكثر ابن حجة من الشواهد لكل لون وصورة من الشعر العربي القديم، وشعر معاصريه في القرن التاسع الهجري، مما جعل خزانته الأدبية بحق وحقيق تمتاز على جميع البديعيات التي عرفناها، وذلك لأنها جمعت كل ما يحتاجه الباحث في الصور البديعية أو البلاغية، وبمعنى آخر كل ما نحتاجه لمعرفة المذهب البديعي في الأدب العربي.

=2= وفي نفس القرن، نلتقي بالعلامة شرف الدين إسماعيل بن أبي بكر، المعروف لنا بابن المقري، المتوفى سنة 837هـ، وله بديعية مطلعها:

شارفت ذرعاً فذر عن مائها الشيم

وجرت تملي فنم لا خوف في الحرم

وقد جمع ابن المقري في بديعيته مائة وخمسين صورة بديعية، وقد سلك فيها مسلك من يهمل اسم الصورة في النظم مكتفياً بذكره أمام البيت أو على هامش القصيدة البديعية.

وقد عدى المقري (أي جعلها فعلاً متعدياً) كلمة (ذر) بعن على تضمينها معنى تنح أو أُترك، وقد قال المولى جل علاه في محكم آياته: ... ثم ذرهم في خوضهم يلعبون [الأنعام: 91]. والمعنى: دعهم في أباطيلهم، فلا عليك لوم بعد هذا التبليغ، وإلزام الحجة

فلم يسمع عن العرب (ذر عنه)، والتضمين لا يقاس عليه، وفي رأينا: إن ارتكاب هذا الخطأ اللغوي من جانب ابن المقري في مطلع قصيدته البديعية مناف للذوق السليم، ولا يصح بأي حال من الأحوال أن نعلله بالضرورة الشعرية.

=3= وفي نفس القرن (القرن التاسع الهجري)، نلتقي بالإمام الحافظ الموسوعي جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، المتوفى سنة 911هـ، وذلك في بديعيته المسماة (نظم البديع في مدح خير شفيع)، ومطلعها:

من العقيق ومن تذكار ذي سلم

براعة العين في استهلالها بدمي

في القرن العاشر الهجري

وننتقل إلى أوائل القرن العاشر الهجري، حيث نلتقي بالشيخة الصالحة أم عبد الوهاب عائشة بنت يوسف بن أحمد بن خليفة الباعوني (في بعض المصادر الباغوني، والصواب ما أثبتناه)، المتوفاة سنة 523هـ، في بديعيتها التي بلغ عدد أبياتها مائة وثلاثين بيتاً، مطلعها:

في حسن مطلع أقماري بذي سلم

أصبحت في زمرة العشق كالعلم

وهذه البديعية قامت صاحبتها بشرحها تحت عنوان: (شرح الباعونية)، ولعائشة الباعونية شرح آخر لبديعية أخرى يبدو أنها قد كتبت في عصرها، وعنوان هذا الشرح (الفتح المبين في مدح الأمين)، وأولها:

مبتدأ خبر الجرعاء من أصم

حدث ولا تنس ذكر البان والعلم

وقد التزمت عائشة الباعونية في بديعيتها، وكذلك في البديعية التي قامت بشرحها، التزمت أن تذكر كل محسن من المحسنات البديعية.

القرن الحادي عشر الهجري

=1= ننتقل بالبديعيات إلى القرن الحادي عشر الهجري، وفيه يكون اللقاء بالعلامة الشيخ شهاب الدين محمد بن عبد الرحمن بن أحمد بن علي الحُميدي المصري، المتوفى سنة 1005هـ ، وذلك في بديعيته التي مطلعها:

رد بع اسماً واسمي ما يرام رم

وحي حياً حواها معدن الكرم

نجد الحُميدي في هذه البديعية يسير على نهج من ترك اسم الصورة في نظمه، وقد شرحها شرحين: (أ) الشرح الصغير، وسماه (منح السميع في شرح تمليح البديع بمدح الشفيع). (ب) الشرح الكبير، وسماه (منح البديع بشرح تمليح البديع).

والذي نلاحظه على الحُميدي في بديعيته، أنه برغم عدم تصريحه باسم الصورة البديعية أو البلاغية، أو توريته عنها أحياناً، إلا أن نظمه كان ركيكاً بشكل واضح، نلاحظ فيه تكرار الحروف، مما جعل هذا النظم ثقيلاً على نفس القارئ أو السامع، مما يؤدي إلى أن يمجه أو يكرهه الذوق السليم، وتأنفه النفس السوية المطبوعة على الجميل من القول.

=2= كما نلتقي في نفس القرن بالعلامة أبي الوفاء بن عمر الشافعي، أو الذي نعرفه باسم الشيخ أحمد القِصَرِي الخَلواتي من علماء القرن الحادي عشر الهجري، وذلك في قصيدته التي مطلعها:

براعتي في ابتداء مدح الذي سلم

قد استهلت بدمع قاص كالديم

فوجدناه فيها كأغلب من سبقه من علماء البديعيات في التورية عن ذكر الصور البديعية ضمن البيت، وقام أبو الوفاء بشرح بديعيته تحت عنوان: (فتح البديع في حل الطراز البديع في مدح الشفيع).

في القرن الثاني عشر الهجري

=1= ثم انتقلنا بالبديعيات إلى القرن الثاني عشر الهجري، وفيه نلتقي بالعلامة صدر الدين السيد علي بن نظام بن محمد بن معصوم الحسن الحُسيني، المولود سنة 1052هـ، والمتوفى في أصبهان في حدود سنة 1120هـ، عن عمر يناهز (68) عاماً، فنجده يبدأ بديعيته بقوله:

حُسْنُ ابتدائي بذكري جيرة الحَرم

له براعة شوق تستهل دمي

وقد نسج في بديعيته على طريقة عز الدين الموصلي ومن تبعه في ذكر اسم الصورة في البيت، ثم شرحها شرحاً وافياً سماه (أنوار الربيع في علم البديع) وسلك فيه منهج ابن حجة الحموي في الإكثار من الشواهد القديمة والحديثة، كما ناقش كثيراً من علماء البلاغة السابقين، ونقل عنهم، وعزا ما نقل إلى أصحابه، ولهذا فإننا نعتبره أنضج أصحاب البديعيات بعد ابن حجة الحموي، كما قدم لأنوار الربيع بمقدمة مهمة ذكر فيها شيئاً مختصراً عن تاريخ المذهب البديعي في الأدب العربي. [علي الجندي، في علم البديع، ص 3، وما بعدها، بتصرف].

=2= كما التقينا في القرن الثاني عشر الهجري بعلي بن محمد تاج الدين الملكي الحفني فألفيناه يؤلف يديعيه مطلعها:

براعة المطلع ازدانت من الحكم

وانسبلت تستهل الجود من الكرم

وهو فيها يورى عن الصور البديعية ضمن ألفاظ البيت.

=3= ثم التقينا في القرن الثالث عشر الهجري بالعلامة الشيخ عبد الغني بن أحمد بن إبراهيم المعروف بالنابلسي المولود في دمشق السورية في الخامس من شهر ذي الحجة سنة 1150هـ، والمتوفى في عصر يوم الأحد الرابع والعشرين من شهر شعبان سنة 1243هـ، فوجدنا له بديعيتين، الأولى منهم فيها منهج من ورى باسم الصورة البديعية ومطلعها:

يا حسن مطلع من أهوى بذي سلم

براعة الشوق في استهلالها ألمي

وتسمى هذه البديعية (مليح البديع في مدح الشفيع)، كما ألفيناه (أي العلامة النابلسي) يكتب بديعية أخرى، مطلعها:

يا منزل الركب بين البان فالعلم

من شعر كاظمة حييت بالديم

وسماها (نسمات الأسحار في مدح النبي المختار)، وقام النابلسي بشرحها شرحاً ضافياً سماه (نفحات الأزهار)، وهو في هذه البديعية ينهج منهج من لم يذكر اسم الصورة البلاغية أو البديعية ضمن البيت من الشعر.

وقد كتب النابلسي في مقدمته لشرح بديعيته الأولى ما نصه: "نظمت هذه القصيدة الميمية المسماة بنسمات الأسحار في مدح النبي المختار على طريقة تلك القصائد (البديعية) معرضاً عن نظم اسم النوع البديعي في أثناء البيت، لأن رأيت ذلك إنما يكسب تنافر الكلمات، وغرابة المباني، وقلاقة المعاني، وليت شعري مع التصرف في اسم ذلك النوع ضرورة نظمه من كلمات البيت، وكيف يظهر لمن لم يعرفه أن اسمه كذا ما لم يكن فهمه باسمه ورسمه، وبعد ذلك لا يحتاج إلى تسميته بالكلية ". [عبد الغني النابلسي، شرح بديعية مليح البديع في مدح الشفيع، ص 3].

في القرن الرابع عشر

وفي القرن الرابع عشر الهجري التقينا بأربعة من أصحاب البديعيات، فوجدناهم لم يزيدوا عمن سبقهم من كتاب البديعيات شيئاً، وهم على النحو التالي:

=1= العلامة الأديب الشيخ محمد بن أمين بن خير الله الخطيب العمري، من علماء القرن الرابع عشر الهجري، وبديعيته مطلعها:

حسن ابتاء كلمي يوماً بذي سلم

براعة المدح في استهلال نعمي

=2= الشيخ طاهر بن محمد بن صالح الجزائري، المتوفى بدمشق السورية سنة 1341هـ، في بديعيته التي مطلعها:

بديع حسن بدو ذي سلم

قد راقني ذكره في مطلع الكلمي

وقد أنشأها في مدح الرسول الكريم محمد (صلى الله عليه وسلم)، وقد قام بشرحها شرحاً جامعاً سماه (بديع التلخيص وتخليص البديع)، ويختلف الشيخ طاهر الجزائري عن سابقيه بأنه جعل مبدأها حسن التخلص، ومنتهاها حسن الختام.

=3= الشيخ عبد الحميد قدسي بن محمد بن علي الخطيب المدرس بالمسجد الحرام، في بديعيته المسماه (نظم البديع بمدح الشفيع)، ومطلعها:

من ذكر رامة والريان والعلم

عقيق دمعي جرى والشوق كالعلم

وشرحها تحت اسم (طالع السعد الرفيع في شرح نور البديع على نظم البديع المتضمن لمدح الحبيب الشفيع).

=4= العلامة السيد عبد الهادي بن السيد رضوان نجا الإبياري، المتوفى سنة 1205هـ، في بديعيته التي مطلعها:

بحمد مبدع الأمور عابد الهادي

نجا مصلياً على الرسل

وقد قام الإبياري بشرح بديعيته شرحاً أطلق عليه (طرفة الربيع في أنواع البديع).

والذي نلاحظه أن الشيخ عبد الحميد قدسي في البديعية الثالثة، وكذلك العلامة الإبياري في البديعية الرابعة، أنهما لم يوريا عن الصورة البديعية بخلاف ابن خير الله العُمري في البديعية الأولى، والشيخ طاهر الجزائري في البديعية الثانية، فإنهما يصرحا بذكر الصورة، وهم جميعاً من كتاب وعلماء القرن الرابع عشر.

البديعيات في الميزان

لقد كانت هذه أشهر البديعيات التي عرفت في تلك القرون المتطاولة (من القرن الثامن الهجري إلى القرن الرابع عشر الهجري)، ولا يمكن للباحث أن يترك هذه المرحلة في تطور البلاغة العربية دون أن يبدي الرأي فيها.

يجمع الباحثون على أن أهم ما يمكن لنا أن نلاحظه على بلاغة هذه المرحلة هو الضحالة (إلى حد ما) في اللغة، والاضمحلال في الأدب، والبلادة في الحس، والضعف في الذوق، مما أدى إلى الاتجاه بالبلاغة العربية إلى ذلك المنهج القائم على الاختصار، وذلك بصياغة الصور نظماً، والإسراع في التسابق في هذا النظم، والعمل على جمع الألوان مهما كانت تافهة لا تغني ولا تسمن من جوع، ثم الإطالة في الشرح الذي لا يؤدي بالبلاغة إلا إلى التعقيد والضعف والكثرة في الأسماء.

ويعلق د. شوقي ضيف (رحمه الله)، فيقول: إن طولها كان في الحواشي والشروح، ولكنه طول في غير طائل، أو طول خارجي عماده المنطق والفلسفة، طول لفظي عماده شرح الألفاظ المبهمة في المنظومات البديعية. [شوقي ضيف، البلاغة تطور وتاريخ، ص 367].

وبذلك نجد أهل البحث البلاغي والنقدي يقولون في صراحة: إن البلاغة العربية من أوائل القرن الثامن أصيبت بالجمود والتعقيد الذي وصل إلى حد الألغاز.

ولنا رأي:

بالطبع نحن نحترم ونقدر كل ما قيل عن البديعيات في تاريخ البلاغة العربية، والنقد الذي وجه إليها، ولكن لنا بعض الملاحظات المتواضعة، والتي نرى أنها من الممكن أن تضيف شيئاً في مجال الكلام عن البديعيات، وهذه الملاحظات نوجزها فيما يلي:

أولا: إن معظم الكلام عن البديعيات جاء وصفياً، ولم يشر بشكل أو بآخر إلى العوامل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية التي أدت إلى الضحالة والاضمحلال والبلادة والضعف (على حد قول من تحدثوا عن البديعيات) كمثال للتأليف في البلاغة خلال الفترة الممتدة من القرن الثامن الهجري إلى القرن الرابع عشر الهجري.

ثانيا: ليست كل البديعيات تتصف بضحالة اللغة، أو الاضمحلال في الأدب، أو البلادة في الحس، أو الضعف في الذوق، فالقراءة المتأنية لهذه البديعيات تكشف لنا عن وجود بديعيات على درجة كبيرة من النضج الأدبي والفني والبلاغي، تستحق الوقوف أمامها، والاستفادة منها تاريخياً وفنياً.

ثالثا: الشروح والحواشي والمتون التي أحياناً ما نسخر منها، لا يجب أن ننكر أنها كنوز رائعة تعلمنا الكثير، وتحوي في داخلها درراً ثمينة لمن أراد العلم والتعلم، وكم من علماء أجلاء استفادوا منها، وأفادوا بها طلابهم، وما نحن إلا عيال على هذه الشروح والحواشي والمتون.

رابعا: إن عملية الاختصار بصياغة الصور البديعية أو البلاغية نظماً، والإسراع والتسابق في هذا النظم، والعمل على جمع الألوان مهما كانت، ذلك كان له ما يبرره، فمع القرن الثامن الهجري بدأ ما يسمى بعصر التجميع العلمي لكل الثقافة العربية والإسلامية، خوفاً من ضياعها وشتاتها، وذلك بعد سقوط الأندلس على يد الأسبان، وسقوط بغداد عاصمة الخلافة الإسلامية على يد التتار، ولعل ذلك ما دفع العلماء إلى عملية اختصار وصياغة البلاغة أو نظمها وجمعها.

خامسا: إن البديعيات تعد بمثابة وثائق بلاغية يجب علينا دراستها دراسة علمية ممنهجة، تكشف لنا عن تطور البلاغة العربية، وفي نفس الوقت تعرفنا بنظرات صائبة سبقت عصرها، وتستحق التأمل.

سادسا: إن البديعيات تذخر بالجوانب البلاغية والنقدية المهمة التي يجب أن نعرف بها الجيل الجديد، وذلك بالوقوف عليها وتحليلها، ورصدها رصداً علمياً متأنياً، في إطار السياق العام لدراسة البلاغة العربية في نشأتها وتطورها.

= = = = =

الأسانيد

(1) أسامة بن منقذ، البديع في نقد الشعر، تحقيق أحمد بدوي وحامد عبد المجيد، مطبعة البابي الحلبي، القاهرة، 1960م.

(2) ضياء الدين بن الأثير، المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، تحقيق أحمد الحوفي وبدوي طبانه، مكتبة نهضة مصر، القاهرة، 1962م.

(3) حفني محمد شرف، البلاغة العربية: نشأتها وتطورها، مكتبة الشباب، القاهرة، 1973م.

(4) عبد الغني النابلسي، شرح مليح البديع في مدح الشفيع، المكتبة الأزهرية، القاهرة.

(5) شوقي ضيف، البلاغة: تطور وتاريخ، دار المعارف، القاهرة، 1977م.

(6) علي الجندي، في علم البديع، مكتبة الشباب، القاهرة، بدون تاريخ.

D 24 تشرين الأول (أكتوبر) 2013     A يسري عبد الله     C 0 تعليقات