غمكين مراد - سورية
فرسان الأحلام القتيلة: قراءة
يحيون بالحريق رمادها: قراءة موجزة في رواية "فرسان الأحلام القتيلة" لإبراهيم الكوني
"قراءة الكتب حفر، حفر في أنفاق الذاكرة" جملة ترد على لسان بطل رواية "فرسان الأحلام القتيلة"، في حفره لجدران الوصول إلى الحرية، دون أن يدرك أنها تحفر في الروح رعشة التوق إلى الحياة في طريق الموت، دون أن يغادر إحساسه، حدسه، خوفه، روحنا.
على صهوة الموت يلج بنا إبراهيم الكوني إلى النفس الواحد الطويل، المعطر بولادة جديدة، لا موت الحياة المعاشة، يدور بنا في فلك الانعتاق من قضبان الخوف والكبت والصمت إلى حيث الصراخ بأعلى صوت: إنني أحيا الآن و"الدليل هذا الظمأ الغيبي إلى تلك الحرية القادرة وحدها على قلب الموت ميلادا" (ص 180).
قلب الإنسان رهين ما امتلك الإنسان، هكذا تقول الصوفية. والفرسان في حفرهم جدران الحياة الميتة للوصول إلى الحياة التي يجب أن تكون، لا يملكون سوى روحهم الجاهزة للرحيل في سبيل نقل الحياة إلى منحاها الحقيقي: "في دخيلة كل منا يتخفى شهيد، شهداء على قيد الحياة، شهداء ينتظرون الحياة، شهداء قرروا أن يستبدلوا موتا يبدو حياة بحياة تبدو موتا" (ص138).
إن التحول لا يقي من التواصل والغوص في الذات، فحين تتحول إلى فأر لا تنسى أن تقرض بأسنانك كما تحفر بيديك؛ تنتقل من جحر إلى آخر لتعيش كأنك تنتقل من بناية إلى بناية أيضا لتعيش حتى وإن كان الانتقال موتا.
الكوني يستجيب لنعت الأيقونة (الديكتاتور) إياه والفرسان بالجرذان، لكي تكون هي الدواء إلى الخلاص إلى النجاة، إلى الحياة: "لماذا لا نتخلى عن موت يبدو حياة وننحاز إلى حياة تبدو موتا كما فعل بوعزيزي الغرب وكما فعل"زيو" الشرق" (ص 133).
إنه الحريق. هكذا يسمي الثورة، الحريق الذي يحول كل شيء إلى رماد، لينبعث من الرماد عنقاء الحياة من جديد. ألم نعم، وجع نعم، موت نعم، لكنها فاتورة أن تكون، أن تحيا، "السمو تاج على رأس الألم" (ص187).
في الحريق كان لا بد من ردة فعل على الموت "فالوقفة في وجه الموت أكبر مدرب لاستعمال السلاح" (ص 150). وكان لا بد من دم أول شهيد، أول قربان للحياة المنتظرة:
"ألم تكن قطرة الدم التي سالت بمثابة غيث إلهي لإخراج أموات ظنوا أنفسهم أحياء من كهف اغتراب دام عشرات الأعوام؟ ألا يرجع الفضل لجلالة الموت الذي أيقظهم من سبات يوم اختطف من بينهم الإنسان الأجدر بأن يحيا، ولكن الموت اختاره للرسالة التي أحييت أناسا كانوا بالأمس في عداد الموت وإن حسبوا أنفسهم أحياء يرزقون؟"(ص 32).
الكوني لا يغفل عما سبق الحريق من كبت وخوف وقلق ونسيان تتحول في الخفاء إلى وقود ينتظر شرارة البدء بالهبوب في خشب الحياة التي كانت، وهذه الشرارة هي من عود إيمان راسخ روحه كبريت الخلاص: "انتفضنا لأننا آمنا، لأننا قررنا أن نؤمن، لأننا قررنا أن نحمل صلباننا ونكون رسلا" (ص 62).
وحيث يكون البدء تنتفي العودة إلى الوراء، فقط أمام ينتظر، وخلف اندحر، هو السبيل إلى الغاية: "اليقين باستحالة العودة إلى الوراء هو الذخيرة التي أخرجتنا من دين لتدخلنا إلى دين، أخرجتنا من دين الكابوس وطوحت بنا في دين الحلم" (ص 134).
هو الحلم الطريدة: " أحلامنا طرائدنا" (ص 49). هذا الحلم ذو الثمن الغالي في اقتناصه، هذا الحلم الذي لا يتأتى إلا بالموت، لأنه الوحيد السائر في اتجاه لا يحيد عنه في السبيل إلى الحرية: "الموت هو المبدأ الوحيد الذي لا يقول كلمته مرتين، أبدا (...) أليس مفارقة مفجعة أن يكون الموت منقذا من أجل الموت؟" (ص 62).
لكن مقابل ذلك هو لقاء العشق، لقاء الولـه بحبيبة امتلكت كل ذرة إحساس، كل رقصة شعور، كل نفس يختزل في المصير مفهوم الحياة، هي الحرية أبدا التي يهون في سبيلها الكل والشيء في آن: "إنه لقاء الحرية التي لا أمل أن أردد أنها القيمة الوحيدة التي تجعل الموت ميلادا" (ص 67).
هكذا يغزل الكوني نسيج الحرية من خيوط الدم من أبناء ليبيا في ثورتهم التي أعادت للحياة سلمها في حرب جديدة، هي حرب مع الحلم في اقتناص ما كان منه محروما في خلق حياة جديدة تـعيد للإنسان المقهور ثقته في أن يحيا كأي إنسان يعتنق حرية الفكر والعمل والقول، لكن بعد الانتصار على ترسبات تـجـذرت في أعوام دحرت وأشواك تنبت في مستقبل يلفه الغموض.