عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 
أنت في : الغلاف » أرشيف أعداد عـود الـنـد » أرشيف الأعداد الفصلية: 2016- » أعداد السنة 18 » عود الند: العدد الفصلي 32: ربيع 2024 » مفهوم الحرية في رواية "روح البُعد المفقود" لإبراهيم الكوني

فادي أبو ديب - السويد

مفهوم الحرية في رواية "روح البُعد المفقود" لإبراهيم الكوني


مقدمة

فادي أبو ديبيشكل مفهوم الحرية أحد أهم الموضوعات التي تطالع قارئ الروائيّ والمفكر الليبيّ إبراهيم الكوني (1948- )؛ فأعماله الروائية والقصصية التي يتخذ معظمها من بيئة الصحراء مجالاً حيوياً لأبطاله وأحداثه، بالإضافة إلى أعماله الفكرية، زاخرة بتأملات في مفهوم الحرية وعلاقته بمفاهيم متعددة ونواحٍ مختلفة من نواحي الحياة البشرية وأنماطها المعيشية. وبسبب اتساع مجال ظهور هذا المفهوم في أعمال الكاتب الليبيّ، سينحصر هذا البحث في عمله المتأخر "روح البعد المفقود" (2018)، مع الإشارة إلى أعمال أخرى تُعين على فهم أدقّ وأوضح لمفهوم الحرية وعلاقاته مع أفكار أخرى ضمن عمله المذكور.

يعرّف الكوني كتابه "روح البُعد المفقود" بأنّه "سيرة رؤيوية"؛[1] فالكتاب في إطاره العام يروي مشاهد من حياة الكاتب في جبال الألب السويسرية ويتأمل الحياة ضمن طبيعة ذلك المكان، وهو يروي بشكل خاص حكايته مع زهرة البونساي اليابانية. وفي سياق هذه المقتطفات السِّيَرية يتأمل الكاتب/ الراوي مفهوم الحرية في تجلياته العديدة وفي ارتباطاته مع عدد من المفاهيم الأخرى. ولعلّه من اللافت للنظر أنّه ضمن هذا الكتاب الذي يتأمل الطبيعة وحياة الإنسان فيها وموقفه منها، بالإسقاط أيضاً على حياته في الصحراء الكبرى التي أتى منها الكاتب/الراوي، يظهر مفهوم الحرية متعلقاً بالطبيعة والبيئة المحيطة، لا ينفصل عنها ولا يمكن أن يُفهم من دونها.

وفي الواقع فإنّ هذه الموضوعة تشكّل همّاً مركزياً من هموم الأدب الذي يقدمه إبراهيم الكوني، ولذلك يكتب صبري حافظ عن رواية الصحراء عند الكوني وسؤال الحرية المركزي فيها، مستعيناً بدراسة مفصلة يقوم بها عن رواية "الفم"، حيث يبحث في فكرة الصحراء بوصفها فضاءً قادراً على منح الشعور الأقصى بالحرية.[2] فالكوني كما سيتبين لاحقاً يشابك ما بين الحرية والترحال ويراهما أمرين يشترط أحدهما الآخر. في هذا السياق يبدو الكوني مكمّلاً لفكرة وُجدت لفترة طويلة في الأدب العربي، كما عند أبي تمام الذي دعا الإنسان إلى التجدد (ويمكن القول التحرر من القديم) عن طريق الاغتراب: "فاغترب تتجدد".[3] لا بل إنّ الكوني يعبّر عن هذه المقولة تعبيراً شبه حرفيّ حين يقول: "ولكننا نغترب لأننا نتحرر من بعد الوجود، لنسكن، بالهجرة، البعد المفقود!" (ص 90)

النظرية وسؤال البحث ومنهجه

كون الكتاب المذكور آنفاً يشكّل جزءاً من سيرة الكاتب الليبي إبراهيم الكوني، فمن الضرورة أخذ سياق الكاتب وخلفيته بعين الاعتبار، وهذا بالتالي يجعل البحث بحاجة للنظرية الهرمنوطيقية التي بدأت مع فريدريش شلايرماخر. ومن ناحية أخرى، فإنّ وجود دلالات وهموم بيئية واضحة في النص سيجعل التطرّق للأمر من وجهة نظر النقد البيئي ضرورياً.

وتُعتَبَر النظرية الهرمنوطيقية أقدم النظريات التفسيرية، وتأخذ بعين الاعتبار جميع أنواع النصوص، لأنها متوجِّهة نحو معنى النص. تحاول هذه النظرية ربط النص بمؤلفه وسياقه والعادات والتقاليد المحيطة به، وفهمه من خلال العديد من العلاقات الشبيهة.[4] ويؤكد نبيل راغب بأنّ "العلاقة بين المؤلِّف والنص من أهمِّ المباحث النَّقدية والتحليلية التي ركزت عليها النظرية التفسيرية [الهرمنوطيقية]".[5] وكان شلايرماخر هو الذي نظّر لهذه النظرية، ناقلاً إياها من حيز القراءة الدينية للكتاب المقدس إلى حيز الأدب بعمومه. وهو ينظر إلى الجانب اللغوي في النص وإلى الجانب النفساني عند الكاتب؛ فالجانب اللغوي هو عالم اللغة نفسها وقواعدها الراسخة وخصائصها، أما الجانب الذاتي النفساني فيتعلق باستعمال المؤلف للّغة وإبداعه فيها وتوليده لِمعانٍ وتراكيب خاصة به. وبحسب راغب، يسمي شلايرماخر الجانب اللغوي الموضوعي بالدائرة التفسيرية، أما تفاعل العناصر الموضوعية والذاتية فتدخل ضمن الدائرة الهرمنوطيقية.[6]

أما ديلتاي فقد رأى أنّ مهمة التفسير هو فهم التجربة الحياتية، وهكذا تصير اللغة الوسيلة التي تجعل التجربة الحياتية قابلة للفهم والنقل، بين المؤلف والقارئ، حيث "تنهض عملية الفهم والتفسير على نوع من الجدل أو الحوار بين تجربة المتلقي الذاتية الخاصة به، والتجربة الموضوعية المتجسدة في العمل الأدبي".[7] وفي سياق هذا البحث، ستساعد هذه النظرية في تفسير أجزاء النص في ضوء بعضها البعض وفي ضوء حياة المؤلف أيضاً.

ومن ناحية النقد البيئي فقد بدأ بالظهور في أوائل التسعينيات من القرن العشرين متأثراً بالحركات البيئية التي تزايد نشاطها وتأثيرها في ذلك الوقت. ومن أهم مساعيه دراسة مفهوم "الطبيعة" و"البرّية" وكيف يظهران في الأعمال الأدبية وغيرها من الأعمال الفنية والإعلامية والتقارير والقوانين الحكومية، بالإضافة إلى كيفية بناء العالم الطبيعي في هذه الأعمال التي تقدم من جهة أخرى نظرة معينة تجاه الحيوان وعلاقة الإنسان بالطبيعة والتأثيرات المتبادلة بينهما بشكل عام.[8] ومن هذا المنظور تظهر أهمية النقد البيئي بسبب تمحور الكثير من كتابات الكوني، ومنها العمل موضع البحث، حول فهمه لبيئته الطبيعية وتأثيرها في الإنسان وطبيعة اجتماعه وروحانيته.

يعالج هذا البحث ما يمكن تلخيصه بالسؤال التالي: ما هو مفهوم الحرية في كتاب "روح البُعد المفقود" لإبراهيم الكوني؟

وللإجابة عن هذ السؤال سوف يتم رصد المقاطع التي يتحدث فيها المؤلّف عن مفهومه للحرية ودراسة معنى هذا المفهوم عن طريق فهم علاقته بعدد من المفاهيم الأخرى التي تظهر في سياق العمل، مثل الجمال والفردوس والمفارقة، وعلاقة كل هذه المفاهيم بالبيئة الطبيعية، وخاصة بيئة الصحراء.

الحرية كسمة من سمات الطبيعة الأم

منذ بداية "روح البعد المفقود" تظهر الحرية صفة للعالم الطبيعي الصحراويّ متجسداً في الغزلان التي "لا تهفو لشيء كما تهفو للحرية" (ص 13)، والتي ترفض أن تكون حبيسة الحياة الحضرية المستقرّة. في هذا المشهد الذي يتلمس من خلاله الكوني بعضاً من ملامح طفولته يباين الكاتب ضمنياً بين سعي الغزلان الحثيث نحو الحرية في أحضان الصحراء-الطبيعة وسعي الإنسان في الاتجاه المعاكس نحو الاغتراب عن الأم-الصحراء-الطبيعة—في هذا المشهد يقدم موضوعة فرعية أخرى ستنال نصيباً من النقاش في مرحلة لاحقة من كتابه، وهي موضوعة سعي الإنسان نحو حرية مزيفة يظنها تتحقق في بعده عن الصحراء وحياة الترحال. هذه الحرية المزيفة يحكمها ما يُسمّى بناموس الاستقرار (ص 14).

وهكذا فالحرية التي تتجسّد في الغزلان تعود لتظهر مجدداً سمة للأرض في جبال الألب، حيث يصوّر الكوني جبال الألب الشاهقة علامةً على سعي الأرض إلى التحرر من استوائها فتنتفض وتحلّق في الفضاء (ص 24). وتتوافق نظرة الكوني لهذه العناصر والكائنات الطبيعية مع توجّهات النقد البيئي من وجهة نظر هانس برتنز الذي يرى بأنّ "النقد البيئي...يفحص تمثّلات الطبيعة في النصوص الأدبية...ويركّز بشكل خاص على السؤال الذي يتناول كيفية بناء هذه التمثّلات. كما يمكن أن يقدَّم عالم الحيوان بوصفه عذباً لطيفاً ووفياً."[9]

وهنا يمكن ملاحظة نوع من التناقض في مكانة العلو في نظر الكوني؛ فالعلو الذي تكتسبه الأرض هنا هو علامة على الحرية والتحرر، في حين أنه على العكس تماماً حين يسعى الإنسان إليه ضمن هيئة العمران البشري، حيث قد يكون علامة على العبودية والاغتراب عن الأرض (ينظر ص 14). فهذا العلو أو "السموّ"، بلغة الكوني، يشبه التحديق في الأبدية، لا ردّ عليه سوى الموت (ص 42). والحقيقة أنّ الكوني لا يدين فقط حياة الاستقرار المدينيّ بل حتى حياة الاستقرار في واحات الصحراء نفسها. ويلاحظ صبري حافظ أنّه في نظر الكاتب الليبيّ يظهر "التحوّل من حياة البسالة والحرية المطلقة في الصحراء إلى نمط القِنانة [العبودية] وحياة التبطَّل عند الفلاح بوصفه أمراً مرتبطاً بالتدهور والانحدار".[10]

وبسبب إدراك الكوني لتجذر الحرية في الطبيعة الأم وفي الحيوانات بشكل خاص فهو يرفض استئناس الحيوانات حتى تلك المحسوبة أليفةً وأنيسة للبشر منذ آلاف السنين، مثل القطط؛ فهو يرى أنها "لم تُخلَق لنستدرجها من فردوسها في الطبيعة الأم إلى معتقلات جدراننا البغيضة، كأن قدرها أن تدفع ثمن إغترابنا [الخطأ من المصدر] نحن عن الطبيعة فنسجنها معنا ما دمنا قد قررنا أن نسجن أنفسنا" (ص 36). وهكذا فالكوني يعتبر أنّ سعي الإنسان لسجن الحيوان هو نوع من الخديعة للأخير إلى جانب كونه نوعاً من الانتقام من تلك العناصر والكينونات التي لم تقع في شَرَك العبودية التي وقع هو فيها.

ومع هذا الميل إلى إدانة حياة الاستقرار إلا أنّ بعداً آخر يتعلق بعلاقة الإنسان بالحرية يظهر في هذا العمل من أعمال الكوني، وهو يتمثّل في عنصر المفارَقة الذي يحكم هذه العلاقة، من حيث إنّ ما يعتقده الإنسان حرية أو تحرّراً يؤدي إلى نقيضه، والعكس بالعكس أيضاً.

المفارقة في مفهوم الحرية

مفهوم المفارقة (أو السخرية) هنا هو Irony كما تضعه بعض الترجمات العربية.[11] وأحد مدلولات هذا المفهوم هو كيف يتحول الشيء أو السلوك إلى نقيضه. ويلفت الكوني النظر إلى أنّ سعي الإنسان إلى الحريّة قد أوصله بالفعل إلى نقيض الحرية؛ فالإنسان في نظره أراد التحرر من سطوة الطبيعة الأم فبنى المدن وانتقل إلى حياة الاستقرار ظناً منه أنّه يهرب نحو حريته. ولكن الكاتب الليبي يؤكد على أنّ "يقيننا الخفيّ باقترافنا خطيئة في حقّ الأمّ هو ما جعلنا نبتني البيوت لا لنؤكّد على حرّيتنا وحسب، ولكن لنستجير بها من غضبة الأمّ، ونسينا أن جرثومة الأمّ دسيسة تسري في الدمّ، ولا سبيل للخلاص منها إلّا بالفرار إليها، لا الفرار منها" (ص 76-77).

وتتخذ المفارقة التي تحيط بالحرية وممارستها بعداً آخر أكثر تجريداً وبعداً عن البيئة الطبيعية عند الكوني، هذا البعد يتعلّق بالمعرفة التي يجسّدها الكتاب؛ فالمعرفة هي من دون شك في بعدها الروحيّ "غنيمة حرية" (ص 92). ولكن هذه المعرفة-الحرية المختزنة في الكتب، والتي تتطلب مكتبات لحفظها والاستعانة بها حين يدعو الداعي، تأتي معها بعبودية من نوع آخر. ويشرح الكوني هذا الأمر كالتالي:

والمعرفة إذا كانت قيمة روحية، أي غنيمة حرية، بيد أن وجودها حبيسةً بين دفّتي كتاب، يحيلها شَرَكاً يدين بالولاء لدين الملكيّة. في هذا البرزخ ينشب الجدل: فنحن بالمعرفة نهفو لأن نتحرّر، ولكن كي نتحرّر بالمعرفة لا بدّ أن نتحمّل وزر استجلاب هذه المعرفة من ذخيرة مختزنة وراء قضبان كتاب. فإذا تعدّدت الخزائن الحاوية لغنيمتنا فهذا سيعني وجوب أن نتنازل لا عن وقتنا وحسب بقصد اقتناصها، ولكن يجب أن نضحّي بنصيب من حرّيتنا أيضاً كي تستسلم لنا، وهو ما يعني أن نستسلم لها أيضاً بأن نرابط على بلاطها، ما دمنا لا نستطيع أن نحملها عبئاً على ظهورنا، ونفرّ بها عبر العالم. (ص 92-93)[12]

ومن الممكن أن يحيل هذا الاكتشاف المرء إلى العودة إلى التفريق القديم بين المعرفة الشفهية ونظيرتها الكتابية، لكي يعيد من جديد التأكيد على سموّ الأولى مقارنة بالثانية. ولكن الكوني لا يذهب هذا المذهب بشكل واضح رغم أنّه يلمّح إليه بكل تأكيد حين يستجلب إلى الذاكرة الأسطورة الأمازيغية القديمة التي تدور حول استبطان الوصايا الإلهية وامتلاك فحواها قلبياً وليس على وسيط مادّي خارجيّ. إنّه يقرّ بعدم إمكانية تحقيق هذه الأسطورة في حياته الواقعية: "فكيف أحقّق حلماً هدهدته دوماً بأنّ أتجرّع سيول فحوى المكتبة كاملة، بدفعة واحدةٍ، كي لا أضطرّ للبحث لها عن بيتٍ يشدّني معها إلى الأرض، ثمّ أحرّر نفسي من كل واجباتي الدنيوية كإنسان من لحم ودم لأتفرّغ لإنجاز هذه العملية الجراحية الميثولوجيّة في غمضة، لأن الوقت هو المارد الذي لم أضمنه كحليف يوماً!" (ص 95)

وهكذا فمسعى الحريّة يقود الكوني إلى حافة الأسطورة والميثولوجيا، وهو يستنتج إذن ما يمكن تلخيصه بأنّ الحريّة هي مطلب ميثولوجيّ أو رحلة ميثولوجية. وهنا تكمن مفارقتها؛ فالإنسان الذي يطلب الحرية يطلب سرّاً من أسرار الوجود وأمراً يتجاوز ممكنات الحياة المادية المحدودة ضمن الزمان (الوقت) والمكان. ومن يضمن هذين؟! وهو أيضاً يواجه قوى القدر كما في المأساة الإغريقية؛ فأوديب في التراث الإغريقي يهجر مدينته هرباً من نبوءة تفيد بأنه سيقتل أباه غير عالمٍ أنّ هربه يعني هجر أبيه بالتبنّي وأنه بالفعل في طريقه إلى قتل أبيه الحقيقيّ.[13] هكذا إذن يرى الكوني بأنّ السعي خلف الحرية يؤدي بالفعل إلى فقدانها تماماً، سواء من خلال مطاردتها ضمن الحياة البعيدة عن شظف العيش في الصحراء أو حتى من خلال مطاردتها كغنيمة روحية عبر الكتب والحرية الفكرية.

وفي مفارقة أخرى، ترتبط الحرية في نظر الكوني أيضاً باللامكان، الذي هو عمق الصحراء إن صحّ التعبير، ولكن هذا اللامكان لا يعني في هذا السياق مجرّد الفضاء الخالي الحرّ من مطالب الاستقرار أو من ضجيج الوجود البشري. اللامكان هنا يبدو رديفاً للموت، للتحرّر من الجسد. في هذا اللامكان يستدرج فطر الكمأ "ضعاف النفوس" إلى "حيث يستطيعون أن يلفظوا أنفاسهم، ويتنصّلوا من أجرامهم [أجسادهم]" (ص 63). وهنا تعود الفكرة التي أشار إليها أشرف عيسى في معالجته لقصة "نذر البتول"، حيث تظهر الحرية في ذلك السياق في شكل موت الطمّاعين عطشاً في قلب الصحراء".[14] فالحرية في هذا السياق غالية الثمن، والحصول عليها لا يكون إلا ’بإنقاذ‘ الإنسان من وجوده الجسديّ الأرضيّ.

رغم كل هذه المفارقات، فإنّ الكوني يتلمّس ملامح ما يمكن أن يمنح الإنسان حريته، متغلباً بذلك على عنصر المفارقة الذي يحيق بالحرية لا بل ويقبع في لبّها. ومن هنا تأتي نظرته للجمال في علاقته مع الحرية. ومع ذلك فالمفارقة لا تغيب كلياً عن الجمال ودلالاته الفردوسية في العلاقة مع الحرية، ولكنها الآن تصبح جزءاً من الإدراك الذي يمنح الجمال والحرية وجودهما الحقيقيّ.

الحرية، الجمال، الفردوس

علاقة الإنسان بالحرية تمرّ إذن في نظر الكوني بإدراك الجمال وإدراك المفارقة فيه. وضمن تفاصيل السيرة في هذا الكتاب يظهر الكوني وهو يحاول إقناع مريم (شريكة حياته) "بأن الجمال لا يكون جمالاً إن لم يكن بالسّليقة عابراً. [لأن] الجمال بطبعه هبة وقتيّة" (ص 33). هنا تبدو المفارقة في مفهوم الجمال، والتي تنتقل بالضرورة إلى مفهوم الحرية من جديد، حيث إنّه "في حضور الجمال فقط تتحقّق حرية الحدود القصوى" (ص 78). فإذا كان الجمال عابراً بالسليقة، ألا تكون إذن، بالضرورة، الحرية في حدها الأقصى أمراً عابراً بالسليقة أيضاً، أي في جوهرها؟ يبدو أنّ الكوني لا ينتبه إلى دقة تفصيل هذه المسألة؛ فهو يرى في جمال الطبيعة الوسيلة التي تجعل الحرية التي فقدها الإنسان جرّاء اغترابه عن الطبيعة الأم ممكنة (نفس المرجع السابق). ومع ذلك فإنّ ما يصرّح به الكوني في هذا الموضع ليس تناقضاً كاملاً مع رؤيته للجمال بوصفه أمراً عابراً، حيث يمكن فهم تصريحه عن علاقة الجمال الطبيعيّ بتحقق الحرية بأنّه عبارة عن تأكيد على شرط توفّر الحرية وليس على إطلاقيتها وديمومتها.

ويرى الكوني أنّ الحرية شرط لوجود الفردوس (ص 57). وبمعنى آخر فإنّ الفردوس هو الحالة التي يحقّقها وجود الحرية، وبالتالي وجود الجمال الطبيعيّ. الحريّة المقصودة هنا هي حريّة الروح التي لا ترتبط بحياة الاستقرار التي يندفع إليها الإنسان توقاً إلى حرية الجسد (نفس المرجع السابق). ومع ذلك فإنّ إدانة الكوني للاستقرار وتمجيده لحياة الصحراء بوصفها حرية اللامكان لا يمكن فهمهما من دون إدراك كمون المفارقة في جوهر الحرية ونمط الحياة الموافق لها؛ فالكوني يعرّف الفردوس بأنه "ما لا نطمئن إليه، وقدرنا أن نهجره لأن مقامنا فيه يجعله يكفّ عن أن يكون فردوساً، لأن الوطن الذي يليق بالفردوس هو الحلم بوجود فردوس، وحضوره ينفي هويّته كفردوس. ولهذا السبب يقرع الوجدان الأجراس ليستفزّ فينا النداء القديم" (ص 100). وهكذا يبدو أنّ طبيعة الفردوس هي من طبيعة الجمال، أو بالأحرى إدراك الإنسان لهذا الجمال، أي أنه عابر أيضاً في جوهره، لأنه في جوهره حلم مصمَّم ليدفع الإنسان للتوق والبحث عما يتوق إليه. ولذلك فليس من غير المعقول أن يكون فهم الكوني للحرية في علاقتها بالجمال والحالة الفردوسية أساساً للقول بأنّ حياة الصحراء التي يرثيها الكوني لا تشكّل في ذاتها ضماناً للحرية وتلمّس الحياة الفردوسية، لا بل إنّ ضياعها هو بالتحديد مصدر هذه الحرية التي يكتب عنها الكوني مُديناً بها حياة الاستقرار.

وهنا تكمن المفارقة الكبرى التي تختصر كل المفارقات الصغرى التي تم المرور بها حتى الآن. لقد كتب الكونيّ ’قصائد الحرية‘ التي تحفل بها أعماله الكثيرة وهو خارج الصحراء؛ فكيف استطاع تلمّس ملامحها وعلاقتها بالجمال والحالة الفردوسية وهو لا يسكنها؟ في الواقع فإنّ الصحراء هي التي تسكنه. وهذا ما يعبّر عنه هو صراحةً، حين يعتبر أنّ استعادته للهوية الصحراوية التي فقدها مُكرَهاً (لأسباب سياسية) لا يكون إلا بواسطة حيلة تقوم على "تحويل العالم كلّه صحراء أخرى، بديلة لصحرائي الكبرى، فعملت كل ما بالوسع كي أستخدمه كمطيّة رحيل" (ص 57). كما يعبّر مؤخّراً في مقالة له عن غيبية المكان الصحراوي، حيث إنّ "مكان الصحراء بُعدٌ غيبيّ، ولهذا السبب يلعب دور الدليل في سِفر الحرية".[15] ويمكن هنا تفسير مكان الصحراء على وجهين: وجه يعترف بسلطان المكان نفسه على الإنسان وقيمته الغيبية الجوهرية، وآخر يقرّ بأنّ الغيبية هي التي تمنح الفضاء الصحراوي معناه. ولعلّ هذا المعنى الثاني هو ما تلمّح إليه شذرات أخرى للكوني، حيث يعترف فيها بأنّ "الصحراء بالموقع الطبيعي، عدم؛ ولكنها بسلطان الروح، فردوس"، وأنّ "الصحراء بالموقع الجغرافي، فراغ؛ ولكنها بحضور الأسطورة، أدغال".[16]

ولهذا فالأسطورة أو الميثولوجيا تلعب دوراً كبيراً في فهم الكوني للصحراء والحرية التي تنتمي إليها. فالأسطورة هي التي تمنع المكان معناه وتجعل الفردوس فردوساً؛ فالأنبياء استثمروا كنوز الصحراء الروحية، على حد تعبيره، بعد أن غيّروا ما بأنفسهم ووُلِدوا ثانية.[17] لا بل يعترف الكاتب الليبيّ بأنّ الميثولوجيا "تلفّق" واقع المكان، معتبراً أنّ "هذه الميثولوجيا هي التي تبدع هوية المكان...لتمييزه عن أيّ مكان؛ فهي وحدها المفوّضة بتلفيق واقع المكان، الذي لن يكون في النتيجة سوى ذخيرة المكان، ثروة المكان، التي ستسوّق كحجّة تصنع مجد المكان".[18]

وبالعودة إلى موضوعة الحرية، فالكوني يوضّح بعده المفقود أو "البعد الضائع" في مقالته "في طلب الفردوس الميثولوجي"، حين يربط الميثولوجيا بما يتجاوز المكان الجغرافي، بالأبدية نفسها، مستشهداً بنصّ خطاب القديس بولس عن المرئيات الوقتية واللامرئيات الأبدية في رسالته الثانية إلى أهل مدينة كورنثوس اليونانية. هذا البعد المفقود أو الضائع هو موطن الحقيقة (المنسيّة) التي تكتشفها أو حتى تكوّنها الميثولوجيا التي تقوم في حركتها على الحريّة. إنّ الحرية، التي تتجسّد في الإبداع، هي إذن ما يمنح المكان بعده الغيبيّ الذي يتجاوزه حدود الزمان والمدان والتاريخ المتعارف عليه. الحرية هي منبع الأسطورة وقوتها المحرِّكة وهي روح البعد الضائع، حيث "في هذا البعد لا يعود المكان الجغرافيّ مستودع ميثولوجيا، ولكن المكان الغيبيّ، المسكون بالحرية، يغدو هو المستودع. المستودع الذي يبتلع المكان، ويستوعب كل الأمكنة، لتستعير الميثولوجيا عبقرية المكان، لأنها الحجّة التي وُجدت لتنفي وجود المكان، بماهيّتها كروح مكان".[19]

وهكذا يسير الكوني في المكان على درب نفي المكان لأنه يبحث عن روح هذا المكان، وبالتالي يبحث عن حقيقة غيبية تستعير المكان لتجسّدها تاريخها البديل. وهذا ما يمكن أن يفسّر اعتقاده بأنّ "الصحراء مكان اللا مكان [الخطأ من المصدر]، لأننا لا نُقبل عليها لكي نسكنها، ولكننا نحلّ في حرمها كي نهجرها".[20] فالهجر هنا علامة التحوّل نحو البعد الغيبي، عالم الحرية الذي يتجاوز مفردات الزمان والمكان، أي عالم الأبدية.

خلاصة

رغم تمحور مفهوم الحرية عند إبراهيم الكوني في "روح البعد المفقود" حول البيئة الطبيعية ونمط معيشة الإنسان بين الترحال والاستقرار، الصحراء والمدينة، إلا أنّه يمكن القول إنّ الهمّ البيئي هو الهمّ الرئيسي عند الكوني، إلا بقدر الدلالات التي تؤدّي إليها عناصر البيئة الطبيعية في نمط حياة الإنسان ومعانيها. فمفهوم الحرية يرتبط بشكل وثيق أيضاً بمفهوم الجمال والبحث عن الفردوس المفقود، وهو أيضاً مرتبط بمفارقة تجعل فهم الحرية وإدراك أبعادها مرتبط بشكل وثيق بفقدانها. ولهذا فحرية الصحراء تصبح حالة مجازية تتجاوز الصحراء الطبيعية، لأنها مرتبطة بالميثولوجيا (الأسطورة) وبحياة الإنسان الروحية، كما يعبّر الكوني نفسه عن هذا الأمر، لتصل إلى معنى غيبيّ يبتكره الإنسان في أي بقعة من بقاع العالم. وهكذا فالحرية لا ترتبط بالمكان الصحراوي بل باللامكان الميثولوجيّ الذي يبدعه الإنسان في الأبدية التي تتجاوز الزمان والمكان.

= = =

الهوامش

[1] إبراهيم الكوني، روح البُعد المفقود، ط1 (بيروت: دار سؤال للنشر، 2018).

[2] Sabry Hafez, “The Novel of the Desert: Poetics of Space and Dialectics of Freedom,” in La Poétique de l’espace dans la littérature arabe modern, éds. Boutros Hallaq, Robin Ostle, & Stefan Wild (Saint Étienne: Presses Sorbonne Nouvelle, 2002), 60.

[3] Huda Fakhreddine and Bilal Orfali, “Against Cities: On Hija' al-Mudun in Arabic Poetry',” in The City in Arabic Literature: Classical and Modern Perspectives, ed. Nizar F. Hermes & Gretchen Head (Edinburgh: Edinburgh University Press Ltd., 2018), 39.

[4] ينظر نبيل راغب، موسوعة النظريات الأدبية، ط1 (الجيزة: الشركة المصرية العالمية للنشر-لونجمان، 2003)، 212.

[5] نفس المرجع السابق، 213.

[6] نفس المرجع السابق، 214 وما يليها.

[7] ينظر نفس المرجع السابق، 219.

[8] Hans Bertens, Literary Theory: The Basics, 2nd ed. (London & NY: Taylor & Francis, 2007, e-book), 200–2, ProQuest Ebook Central, http://ebookcentral.proquest.com/lib/dalarna/detail.action?docID=325220.

[9] Ibid., 200.

[10] Hafez, 69.

[11] ينظر نجاة علي، "مفهوم المفارقة في النقد الغربي"، مجلة نزوى، 1 يناير 2008، يمكن الحصول عليها على الرابط التالي:

https://www.nizwa.com/%D9%85%D9%81%D9%87%D9%88%D9%85-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%81%D8%A7%D8%B1%D9%82%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%82%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%BA%D8%B1%D8%A8%D9%8A/

يمكن أيضاً تتبع الخلط بين مفهومي المفارقة والنقيضة (البارادوكس) من

Manisha Kumar, “Difference Between Irony and Paradox,” DifferenceBetween.net ]online[. http://www.differencebetween.net/language/difference-between-irony-and-paradox/

[12] التركيز الداكن في النص على عبارة "غنيمة حرية" من المصدر. من ناحية أخرى، يبدو أنّ هناك خللاً في تركيب بداية هذا المقطع، حيث يبدأ بجملة شرطية ليس لها جواب شرط، ولعلّ الأصح القول: "والمعرفة إذا [أو: إذ] كانت قيمة روحية، فهي غنيمة حرية، بيد أن وجودها حبيسةً بين دفّتي كتاب، يحيلها شَرَكاً يدين بالولاء لدين الملكيّة."

[13] See Britannica, “Oedipus,” last Updated Nov 30, 2022, https://www.britannica.com/topic/Oedipus-Greek-mythology

ومع ذلك يجب الانتباه إلى أنّ قصة أوديب قد لا تنطبق في جميع أفكارها أو مفاصلها الرئيسية على مفهوم الكوني للمفارقة؛ فأوديب لم يمكن يمتلك خياراً في عدم التوجه إلى طيبة. لقد تربى أوديب في كورنثوس، وكان يعتقد أن ملكها هو أبوه الحقيقي. وحين سمع من العرّاف أنه مقدّر له أن يقتل أباه، ظن أن المقصود هو ملك كورنثوس، فهجر المدينة متوجهاً نحو ثيبس. ومع ذلك يبقى السؤال: هل كان الإنسان مخيّراً بالفعل للبقاء في الصحراء أو تركها؟ أم أنّ هذا الخيار مجرّد وهم نظريّ، أو ميثولوجيا شخصية ينسجها الكوني؟

[14] Ashraf Eissa, “Poetics of the Desert in Ibrāhīm al-Kawnī’s ‘The Maiden’s Wāw’,” in La Poétique de l’espace dans la littérature arabe modern, éds. Boutros Hallaq, Robin Ostle, & Stefan Wild (Saint Étienne: Presses Sorbonne Nouvelle, 2002), 88.

[15] إبراهيم الكوني، "نزيف الحرف في معزوفة الروح"، موقع سكاي نيوز عربية، منشور بتاريخ 28 نوفمبر 2022، تم الوصول إليه في 5 ديسمبر 2022، من الرابط:

https://www.skynewsarabia.com/blog/1575565-%D9%86%D8%B2%D9%8A%D9%81-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D9%81-%D9%85%D8%B9%D8%B2%D9%88%D9%81%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%88%D8%AD

[16] نفس المرجع السابق.

[17] نفس المرجع السابق.

[18] إبراهيم الكوني، "في طلب الفردوس الميثولوجي"، موقع سكاي نيوز عربية، منشور بتاريخ 10 أبريل 2022، تم الوصول إليه في 5 ديسمبر 2022، من الرابط:

https://www.skynewsarabia.com/blog/1513345-%D8%B7%D9%84%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%B1%D8%AF%D9%88%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%8A%D8%AB%D9%88%D9%84%D9%88%D8%AC%D9%8A

[19] نفس المرجع السابق.

[20] الكوني، "نزيف الحرف في معزوفة الروح".

المصادر والمراجع

الكوني، إبراهيم. روح البُعد المفقود. ط1. بيروت: دار سؤال للنشر، 2018.


. "نزيف الحرف في معزوفة الروح". موقع سكاي نيوز عربية. منشور بتاريخ 28 نوفمبر 2022. تم الوصول إليه في 5 ديسمبر 2022. من الرابط:

https://www.skynewsarabia.com/blog/1575565-%D9%86%D8%B2%D9%8A%D9%81-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D9%81-%D9%85%D8%B9%D8%B2%D9%88%D9%81%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%88%D8%AD


ـ. "في طلب الفردوس الميثولوجي". موقع سكاي نيوز عربية. منشور بتاريخ 10 أبريل 2022. تم الوصول إليه في 5 ديسمبر 2022. من الرابط:

https://www.skynewsarabia.com/blog/1513345-%D8%B7%D9%84%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%B1%D8%AF%D9%88%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%8A%D8%AB%D9%88%D9%84%D9%88%D8%AC%D9%8A

راغب، نبيل. موسوعة النظريات الأدبية. ط1. الجيزة: الشركة المصرية العالمية للنشر-لونجمان، 2003.

نجاة، علي. "مفهوم المفارقة في النقد الغربي". مجلة نزوى. 1 يناير 2008. يمكن الحصول عليها على الرابط التالي:

https://www.nizwa.com/%D9%85%D9%81%D9%87%D9%88%D9%85-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%81%D8%A7%D8%B1%D9%82%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%82%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%BA%D8%B1%D8%A8%D9%8A/

Bertens, Hans. Literary Theory: The Basics. 2nd ed. London & NY: Taylor & Francis, 2007. ProQuest Ebook Central, http://ebookcentral.proquest.com/lib/dalarna/detail.action?docID=325220.

Britannica. “Oedipus.” Last Updated Nov 30, 2022. https://www.britannica.com/topic/Oedipus-Greek-mythology

Eissa, Ashraf. “Poetics of the Desert in Ibrāhīm al-Kawnī’s ‘The Maiden’s Wāw’.” In La Poétique de l’espace dans la littérature arabe modern. Éds. Boutros Hallaq, Robin Ostle & Stefan Wild. Saint Étienne: Presses Sorbonne Nouvelle, 2002.

Fakhreddine, Huda & Orfali, Bilal. “Against Cities: On Hija' al-Mudun in Arabic Poetry'.” In The City in Arabic Literature: Classical and Modern Perspectives. Ed. Nizar F. Hermes & Gretchen Head. Edinburgh: Edinburgh University Press Ltd., 2018.

Hafez, Sabry. “The Novel of the Desert: Poetics of Space and Dialectics of Freedom.” In La Poétique de l’espace dans la littérature arabe modern. Éds. Boutros Hallaq, Robin Ostle & Stefan Wild. Saint Étienne: Presses Sorbonne Nouvelle, 2002.

Kumar, Manisha. “Difference Between Irony and Paradox.” DifferenceBetween.net ]online[. http://www.differencebetween.net/language/difference-between-irony-and-paradox/

D 1 آذار (مارس) 2024     A فادي أبو ديب     C 0 تعليقات