إيناس ثابت - اليمن
خمسة وعشرون عاما من العشق
(1) غزل البنات
في الرابعة عشرة من عمري كان عشقي حلما وخرافة. في منتصف ذلك العمر الجميل حملتني سحابة وردية، ناعمة كالقطن، شهية المنظر، كالأم الكبيرة لغزل البنات، وحولي فراشات صغيرة وضاءة تتلألأ كالثريات بكل ألوان الكون.
كم اعشق هذه الحلوى منذ أن كنت أصغر سنا! يذوب نصفها في فمي والآخر في فم الشمس والهواء، حتى أن حارس بنايتنا كان يسمين "غزل البنات". كان يقول إن لي خدين ورديين، وقلبا من السكر، وبراءة حلوة كحلوى غزل البنات.
غاص جسدي في السحابة حتى وصلت إلى أرض كلها غزل بنات، لها سلالم من ذهب تتدلى من أشجارها الزهرية؛ وقمر من بين السحاب يضحك، يرقص على ظله البجع؛ وعصفور سحرني بقصيدة غزل؛ وتلال من ياسمين؛ ونخيل سعفه كأشعة الشمس لم تستطع عيناي أن تراها بوضوح؛ وشمس صغيرة في بحيرة تسبح، وقطع السكر تزين سماءها؛ وسماؤها تمطر حلوى فتنبت ورودا من كرز.
وفجأة دق ناقوس في الفضاء فغردت الأطيار لحنا حلو الأثر، ودندنت البلابل: أنشودة المطر، أنشودة المطر، فغرد الجميع أنشودة المطر، رقيقة الألحان، عذبة الكلام، وصوت كالملاك أكمل النشيد فكدت أن أنام من أثر الصوت الجميل حتى لمحت زوارق الليمون تحمل الكثير من غزل البنات فركضت نحوها اجري. حملت الكثير منها في ثوبي وركضت حتى وجدت نفسي فجأة في منزلي، نظرت إلى ثوبي فلم أجد شيئا. أكان حلما أم خيالا؟ لا أعرف غير أني كنت مجنونة غزل البنات.
(2) قطعتان من السكر
كنت في التاسعة عشرة من عمري حين قال لي وهو يجلس متصفحا كتابا وأنا أضع له فنجان الشاي: "قطعتان من السكر".
ابتسمت وحملت بين إصبعي قطعتين من السكر، وسرحت في سماع صوته الرخيم الذي بدأ على الفور يحدثني عن السياسة والثقافة التي لم أفقه فيهما آنذاك الكثير، إلا أن كل ما تنطقه شفتاه يأسرني، فأسافر بروحي بعيدا، أراقب عينيه المتوهجتين، ابتسامته الذكية، وشعره الفحمي، وأقسم أنه فارس ينتظر الجواد ليحمل هذا القلب المتيم معه إلى جنة بعيدة عن الأرض.
رشف الشاي بخفه وأكمل حديثه مازجا الحضارة بالفنون والعلوم. كان حديثه كالشاعر الحالم، أرى الجمال حوله يطوف وإن نطقت شفاهه بحرب أو قتال.
تسارعت نبضات قلبي، واحمرت وجنتاي وتمنيت أن يتأخر والدي وتطول ساعتي مع فارسي النبيل.
أنهى فنجان الشاي ونظر إلى ساعته فأسفت على قرب رحيله. حمل كتابه معه وابتسم، فكدت أن أذوب من فرط الخجل، ثم وقف وقال مودعا: "لعل لحديثنا بقية، وأتمنى أن أجد والدك في المرة المقبلة. ولا تنس حينها أني اشرب الشاي بقطعتين من السكر".
أغلق الباب وحلق قلبي وراءه نظرت إلى يدي، ما زالت قطعتا السكر بين إصبعي.
(3) خمسة وعشرون عاما من العشق
في الخامسة والعشرين من عمري ولم ينعمني عقلي بالهدوء منذ عام، بينما ارتبط قلبي بمحبة الإنسان ابيض واسود، وكيف اغرس القمح في أفواه الجائعين؟ ومن أي ارض سيولد السلام؟
قدماي تقفان على الرصيف، وكتفي الأيسر يحمل حقيبة عشبية كمرج لم أره، وبين يديّ الكثير من الورق.
الزحام شديد أمامي ورأسي يكاد ينضج كبيضة من أثر حرارة الشمس فوق رأسي وأنا انتظر سيارة أجرة تقلني إلى منزلي. وقت الظهيرة هو وقت ازدحام الشوارع، ضجيج السيارات، ارتفاع الحرارة، وغلي الدماء.
بدأت أراقب أطفال المدارس أثناء انصرافهم، أتطلع إلى مشاكساتهم علّني أجد في ذلك سلوى لي ومضيعة للوقت إلى أن تأتي السيارة المنشودة، حتى انتهى الحال بي إلى مراقبة امرأة تفترش الرصيف بخمارها الأزرق ووجهها المحمر وقطرات العرق المتساقطة على وجهها وهي ترتب الحلوى التي تبيعها للمارة بصبر وإلى جوارها سلة خبز كبيرة.
عاد عقلي للتفكير: ما الذي يحملها على تحمل حرارة الشمس القوية، وثقل بعض الناس ودوس البعض لبضاعتها دون رحمة أو اعتذار؟ أفقيرة حد الجوع؟ مطلقة أم أرملة؟ أم أن أحدا أرغمها على هذا العمل؟
ثار عقلي في وجهي: كيف سمحتِ لها بذلك؟ لا لن أدعكِ فريسة لبعض البشر، لن أدعكِ تتحملين حرارة الصيف وبرد وقسوة الشتاء، ولن أدع اليأس والتعب يتسلل إلى وجهكِ البريء.
لدي العديد من الأفكار ستنقذها وتنقذ كل سيدة وطفل مثلها. نسيت انتظاري للسيارة وتبعت السيدة وهي تلملم حاجياتها لترحل. تبعتها حتى مررت بسيدة مثلها، فدق قلبي فزعا: رباه. عليّ أن أنقذ كل هؤلاء، عليّ أن أغير الكون، وعليّ أن أبِر بفكرة حملتها يوما في مخيلتي. تتابعت الويلات في قلبي وأنا اتبعها بخجل محاولة الحديث معها.
سقطت أوراقي. لممتها بسرعة فتباعد خمارها الأزرق عن ناظري، حاولت اللحاق بها ولكنها اختفت ولم اعلم أي طريق سلكت، ولم أرها منذ ذلك اليوم. غير أني لا أزال على عشق بالإنسان، وعلى حلم بصنع الإنسانية وإنقاذ إنسان ذات نهار.
◄ إيناس ثابت
▼ موضوعاتي
المفاتيح
- ◄ قصة قصيرة
- ● وماذا بعد؟
- ● النظّارة
- ● خرابيشُ خطّ
- ● بقرة حسين
- ● تاريخ
6 مشاركة منتدى
خمسة وعشرون عاما من العشق, إبراهيم يوسف - لبنان | 27 تشرين الأول (أكتوبر) 2014 - 17:19 1
للإنصاف..؟
نصٌ رشيق وصافٍ؛ وخالٍ من الإفراط والتكلف. الكبار أيضاً يا صديقتي يعشقون غزل البنات، "يذوب نصفه في الفم، والنصف الآخر يسيلُ في عين الشمس والهواء". أكادُ أقول: التعبير لا يقل جمالاً عما قاله في نثره نزار قباني- عن البنادق والعيون السود- وهو يصف ثغر المجنَّدة المحبوبة بنصف كرزة حمراء، لا تعرف من الطعام إلاَّ الشمس والهواء وجيرة العصافير.
للأمانة..؟
لا "تنسي" حينها أني أشربُ الشاي بقطعتين من السكر..؟ حتى أن حارس بنايتنا كان "يسمِّيني"..؟ "غزل البنات"- ما دام الخطاب إلى أنثى. كدتُ أن أذوب وكدتُ أن أنام..؟ هذه "الأن" المشاكسة لم تخدم تناغم العبارتين.. وقمر يضحك من بين السحاب..؟ لعلها الصيغة الأفضل..؟
خالص مودتي وتقديري.
1. خمسة وعشرون عاما من العشق, 27 تشرين الأول (أكتوبر) 2014, 19:53, ::::: ايناس ثابت اليمن
شكراً لمرورك الجميل سيدي.
أحاول الابداع وتجنب الأخطاء في الأدب لكن يسحرني كل ماهو عفوي وكأنني اقرأ القصة في أذن القاريء.
حقاً تسعدني جداً ملاحظاتك الأمينة.
خمسة وعشرون عاما من العشق, هدى الكناني من العراق | 30 تشرين الأول (أكتوبر) 2014 - 03:24 2
ايناس ثابت / اليمن
عزيزتي
حروفك الرقيقة كغزل البنات ، أخذتني من يدي واسكنتني غيمة بنكهة الطفولة لتستفيق في داخلي تلك الصبية التي لطالما حاولت ان اسكت جوعها المزمن لطفولة ما غادرتها ابدا؛ طفت في كل المروح الوردية التي زرعتها كلماتك واستسلمت لعالم، علُ حلاوته ، تُزهق مرارة الايام .
اعذريني اذ نافستك غيمتك ؛ إذا جعت ساتغذى حلوى وإن اعطشت ساملا كاسي بعصارتها.
أما نصك الثاني ، فما أبدع من يحلي شايه بقطعتي سكر ما فارقت يديك بل ذابت في جمال عينيك.
كم عال الرقة؛ إحساسك
بالتوفيق
هدى الكناني
1. خمسة وعشرون عاما من العشق, 2 تشرين الثاني (نوفمبر) 2014, 17:06, ::::: ايناس ثابت اليمن
عزيزتي هدى.
يسعدني مرورك الراقي كأنتِ.
لكِ مودتي.
خمسة وعشرون عاما من العشق, هدى أبو غنيمة الأردن عمان | 2 تشرين الثاني (نوفمبر) 2014 - 18:00 3
أجواء نصك صافية نقية نقاء عالم الطفولة لا أدري لماذا تذكرت بيت شاعر اليمن الكبير البردوني :عندما تصبح العيون قلوبا من حنين ترى حضور التغيب .دمت بخير.
1. خمسة وعشرون عاما من العشق, 2 تشرين الثاني (نوفمبر) 2014, 18:52, ::::: ايناس ثابت اليمن
الشكر لمروركِ العذب النقي.
لكِ كل المودة.
خمسة وعشرون عاما من العشق, زهرة يبرم / الجزائر | 3 تشرين الثاني (نوفمبر) 2014 - 12:04 4
نصوص ماتعة بطعم (شَعْرِ البنات) غزل البنات وحبات السكر.
نصك الأخير يحمل فكرة عميقة وهما إنسانيا كبيرا.
إن كنت في البداية، فأمامك مستقبل واعد في عالم الكتابة والفكر.
أحييك إيناس ثابت/ اليمن..
1. خمسة وعشرون عاما من العشق, 5 تشرين الثاني (نوفمبر) 2014, 19:56, ::::: ايناس ثابت اليمن
لكِ كل الشكر زهرة ولحرفك الكريم في حقي.
امتناني لكِ.
خمسة وعشرون عاما من العشق, جليلة الخليع /المغرب | 5 تشرين الثاني (نوفمبر) 2014 - 23:24 5
بغزل البنات وقطع السكر ، كان البوح ينسج تفاصيله القطنية المترسبة في كوب العشق، لنرتشف بنشوة نكهة الحرف اللذيذة.
دمت بهذه الروعة إيناس ثابت المتألقة.وكثير محبة.
1. خمسة وعشرون عاما من العشق, 6 تشرين الثاني (نوفمبر) 2014, 21:44, ::::: ايناس ثابت اليمن
شكراً للطف كلماتكِ جليلة.
كل المحبة لكِ.
خمسة وعشرون عاما من العشق, أمة الله الحجي من اليمن | 19 تشرين الثاني (نوفمبر) 2014 - 07:45 6
رائعة غاليتي إيناس .. ما اجمل حرفكِ .. كنت هنا اقف بتأمل ..
1. خمسة وعشرون عاما من العشق, 19 تشرين الثاني (نوفمبر) 2014, 14:14, ::::: ايناس ثابت اليمن
مسرورة بجمال قلبك المتأمل في حرفي.
تحياتي لكِ عزيزتي.