إبراهيم قاسم يوسف- لبنان
بانت الفضيحة وانقضى الأمر
تلك البلدة في شمال لبنان، ولا تبعد كثيرا عن الفيحاء، صعودا إلى الشرق في اتجاه باب الشمس، وغابة الأرز في بشرّي، موطن الأرواح المتمردة وجبران النّبي، والتي لا تحتاج إلى تفكير طويل، لكي يكتشف المرء أين تكون، وما اسمها بالإشارة إلى الحرف الأول من الاسم. يكفي التذكير بالكرم والضيافة والشئمة وقسوة الطباع وكلام موثوق لا رجوع فيه إلا بانقضاء الأجل.
وجرن الكبّة الحاجة البسيطة. وله في الأعراس شأن وتاريخ شعبيّ طويل، يلقي على البلدة مزيدا من الضوء. كما الرصاص يلعلع في ساحة الكنيسة أو في فضاء المآتم والأفراح، أو حتى بسبب الأفضلية على حق المرور. هذه التفاصيل الإضافية يا صديقي لكي أساعدك فتكتشف بنفسك البلدة التي أعني على وجه التحديد.
لا غرابة في أن تستباح الدماء ويؤدي الخلاف على أفضلية المرور، إلى مشهد مؤسف قد يسفر عن مصاب بضربة عصا أو كف أو جريح بسكين. أو ربما بلغت الورطة حدّ القتيل. وفي أبسط الأحوال، إذا ما استاء أحدهم من الآخر، وخانته حجّته أو ضاق به البرهان، لا يتردد مطلقا عن قذفه بالقدح والذم، كأن يقول له: يا ابن الكلب وابن الساقطة على سبيل المثال.
أولئك القوم كأنهم أحفاد أبي فراس الحمداني. لا يؤمنون بالوسطيّة أو الاعتدال (1) فيذهبون في قراراتهم وإجراءاتهم، إلى حد التّعسّف وأبعد من تخوم الخيال في الحياة وفي الموت. وفي ناحية من الإقليم أيضا ثوار ومقاومون كيوسف بك كرم الذي تصدّى بحصانه وسيفه لدبابة فرنسية و قضى على من كانوا بداخلها.
هؤلاء المناضلون الشرفاء من العرب الأقحاح ممن وقفوا ببسالة في وجه الدبابات الفرنسية واستبداد العثمانيين على السواء، وأقيمت من أجلهم التماثيل والأنصاب. وبعد الحرب الأهلية تجاوزوا بشجاعتهم بشاعة المذابح، فأوقفوا سفك الدماء ولمّوا شمل البلاد. فهل يجوز لك يا صديقي بعد كل هذه الإشارات، أن تطالبني بالمزيد من الإيضاح؟
تسأل الواحد من أبناء البلدة، أن يسلّفك مبلغا زهيدا من المال حتى يأتي آخر الشهر، فيكسر يده ويشحذ عليها ويقسم لك أغلظ الإيمان، ولا يستبعد محمدا والمسيح أن أحواله في الحضيض، ولا يملك متليكا (2) مزيّفا يشتري به "بطحة عرق" (3) أو علبة دخّان.
ويخطر لك أن تزوره لتطمئن إلى أحواله في المساء، فيكرمك الرجل وينسى طلب السلفة في النهار. ويعدّ وليمة عامرة فيذبح لك خروفا أو شاة، ثم يعزز الوليمة "بألفيّة" (4) عرق بلدي وعشرات المدعوين على شرفك إلى الطعام والشراب. وابن الحلال كان خلال النهار لا يملك "متليكا" واحدا، يشتري به "كاس عرق" أو علبة دخان.
أبو ظافر زين الشباب، من أبناء هذه البلدة الكريمة. واحد من هؤلاء الناس ممن يغضّون الطرف حياء وأنت تخاطبهم، ويحجبون عيونهم بأيديهم عندما يخجلون من الإطراء والإحراج. ولكنهم لا يقايضون كرامتهم بمال الكون، أو بما هو أدنى من الموت، إذا كان في الموت ما يعفي من العيب والعار.
هؤلاء القوم ابتلوا أنفسهم أيضا بمجموعة من الفضائل والمنكرات جنبا إلى جنب، كالسماح والعفة والتوبة والشجاعة؛ وكرم الضيافة والأمانة والشهامة، وكما السّكر والتّهور والثأر والعناد والمعصية والحب الحرام، والخيانة التي تقتصر على النساء؛ ولا تنال من الأوطان. متمردون بطبعهم يثأرون بالدم ويندّدون بالموتى، فيكيلون لهم الشتائم واللعنات عندما تضيق بحالهم الأحوال.
أسقط في يد الرجل وسبق السيف العذل. تورّط أبو ظافر في علاقة منحرفة ولجأ إلى الانتحار صونا لسمعة امرأة متزوجة، استهان بسمعتها واستخف بما يحدث من علاقة تنتج عن حب حرام. كانا معا في الريف يقومان بنزهة معزولة في الخلاء، بين أشجار كثيفة بعيدا عن عيون الناس. يتقاسمان المشاوي ويشربان العرق ويمارسان المعصية خروجا على القيم والأعراف.
والمرأة ماتت بين يديه، إثر نوبة صدرية حادة وقصور في القلب، فلم يتمكن من إسعافها أو لملمة الفضيحة. انكشف الأمر على الملأ. بانت الفضيحة وانقضى الأمر. والرجل لم يتحمل عارا ساقه على المرأة وعلى أسرتها المستباحة. لم يتحمل نقمته وغضبه على نفسه فهرب إلى الانتحار بعد دفنها بومين.
التّوتّر المتواصل وعينه التي لم تغمض لحظة خلال يومين متواليين، هو ما ساعده على تنفيذ القرار. هكذا ماتت المرأة، والرجل "الجاني" انطفأ بصيص يراعة الليل في رأسه، وخيّمت على روحه عتمة الموت، فأعفى نفسه من كامل التبعات بطلقة واحدة في الرأس، فمضى كلاهما إلى قبره ومعه ما ساقه على حاله وأسرته من العيب والعار.
ونبيل صديق عزيز وقديم من هذه البلدة بالذات، وبيننا فيض من الخبز والملح، ورابطة متينة لم تؤثر فيها ولا هزّتها العواصف والرياح التي هبّت علينا من كل صوب. كانت العلاقة بيننا وأقولها بكثير من الاعتزاز- أشد وأمتن من رابطة الدّين والقربى أو أخوّة الدّم. أسأل الله لهذا الأخ الصديق وقد انقطعت بيننا الأخبار، أن يكون سليما معافى وفي أحسن الأحوال.
لعلّه يسمعني أو يتناهى إليه قولي، ويتذكر صمودنا في وجه الحرب وكم كلّفنا الوقوف على الحياد، وليتذكر معي كم تعانقنا وبكينا حين التقينا إبان الحرب الأهلية على خطوط التماس، في منطقة المحكمة العسكرية، قريبا من المتحف وحلبة سباق الخيل بين "الشرقيّة والغربيّة" (5)، حينما كان العبور بين ضفتيّ الوطن الواحد يكاد يكون من المستحيلات.
يومها أخبرني عن أم نبيل كم اشتاقت للأولاد. تناديهم ليتوقفوا عن اللعب ويغسلوا أيديهم وهي تنقب بإبرتها عن الشوك في أصابعهم، لنباشر بالجلوس إلى الطعام. أشهى وأغنى سفرة في الكون كانت تعدها أم نبيل دون أن يساعدها أحد. ولا أنسى ما حييت الكبّة المحشوة بالجوز ونفسها الطيّب على الطعام، واللقمة الكريمة الحلال من يديها الطاهرتين.
تراودني الوداعة والحنين إلى أم نبيل، وحديثها المترفع الذي لا يحسن قوله حتى الرجال، وحضورها يفيء حبا على الصغير والكبير. أم نبيل الطوباوية التي ربّت أيتامها فلم تتزوج كرمى لعيونهم، ولم تسقط في متاهة اليأس ولا غرّها سلطان ولا مال. عاشت حياتها راهبة بتولا نذرت نفسها لأولادها والعمل ومحبة الناس. فلم لا تكون أم نبيل "رفقا" (6) رقم اثنين؟
أم نبيل التي يقف على خاطرها أهم الرجال، يعملون بمشورتها ويأخذون برأيها في الكثير من المواقف والملمّات. بشجاعتها وعفتها ورجاحة عقلها كوّنت لنفسها رصيدا كبيرا بين الناس، ما لم يحظ به الكثيرون من كبار الرجال. كم صعب عليّ يا صديقي أن أسأل عن أحوالها فأتلقى صدمة في الجواب. لكنني أمني النفس وأسأل الله أنها لا زالت بعافية وخير.
لا أحسبك تنسى يا صديقي ذلك اللقاء على خطوط التماس بين "الشرقية والغربية". كان الوضع هادئا يوم التقينا. حينها كنا نستمع إلى فيروز تغني للوطن من صوت الوطن. الوطن الذي استباحته الفوضى والعصابات ممن طوبوا أنفسهم ثوارا وغيارى على البلاد، فعمّ القتل على الهوية الطائفية، وفئة الدم.
كنا نستمع إلى الأغنية عندما بدأت تنهمر علينا القذائف تأتينا من كل اتجاه، فخرست فيروز وتعالت أصوات صافرات الإنذار. هرب الناس إلى الملاجئ، وانطلقت بأبواقها سيارات الإسعاف تجوب الشوارع والأحياء بحثا عن مصابين ما زالوا على قيد الحياة، أو قتلى ممن يتولون نقلهم إلى البرادات. ومن مات يومها من المسعفين كانت له ولأسرته من بعده رحمة الله.
كانت قذائف الـ"مورتر" تنهمر بغزارة على المكان. مفردتا الـ"مورتر" والـ"بي سڤن" وغيرهما من المفردات هي كل ما نالنا من مكاسب الحرب. حسبنا الفاصل في الدقيقة الواحدة بقذيفة أو اثنتين. تسقط الأولى فنقدّر ونتكهن أين ومتى تكون الثانية دون أن يراودنا الشعور لحظة واحدة أننا سنكون من بين القتلى.
لست أدري لم لم نخف يومذاك. هل كنا مجانين؛ أم دجّنتنا الحرب قسرا على قبول واقع الحال؟ هل هو أمل الخلاص يتجدد في النفوس من حيث لا ندري؟ أم أعمارنا الفتية عزّزت فينا الشجاعة والجنون وقلّة المبالاة، فأسقطنا الموت من حسابنا؟ من منا يعرف كيف يرد بدقة على هذا السؤال؟
أم لعله أبو ظافر المغرق في الآدميّة والشهامة والجنون، وخبر انتحاره الصاعق كرمى لعيون امرأة قاسمها الفراش. أتصعب المرأة على كرامتنا يا ناس ونستبيح كرامة الأوطان؟ أم هي الحرب تتساوى فيها المروءة والعفة والخيانة والوفاء، كما تتساوى عندها الحياة والموت؟ أم هو الإجراء الصائب والقرار الفصل الذي اتخذته أم نبيل بالامتناع عن المشاركة في تشييع الجنازة؟ أم نجاحها في لمّ الشمل وفرض الصلح على العائلتين؟
دوّختني وصدّعت رأسي كثرة الأسئلة ولم أصل بعد إلى يقين الإجابة على السؤال. مهما يكن الأمر، فأم نبيل وحدها حسمت المسألة وفرضت الصلح وتعالت فوق الجراح. وضعت نقطة في نهاية السطر وقالت آخر الكلام. وبعد يا صديقي: ألم تكن الأغنية إياها التي سمعناها:
هل جنّة الله إلا حيثما هنئت = = = عيناك كلّ اتساع بعد بهتان
تبا لنا يا صديقي؛ وتبا لفيروز ومعها سعيد عقل وكل الشعراء وآل الرحابني أجمعين ومعهم أيضا نصري أبو طربوش(7)؛ كيف يحركون مواجعنا. آه منّا وأآ علينا يا صديقي؛ أقولها بحرقة المبتلى، صادقة وحارة ومن أعمق نقطة في القلب. أتذكر كيف أخذتنا الأغنية قبل بدء القذائف، وحركت عواطفنا من الأعماق. وكم تعصب لفيروز طرفا بل أطراف النزاع في الحرب الأهلية واعتبرها كل من حصته!
والحقيقة هي قصة القمر "بيضوّي عالنّاس = = والنّاس بيتقاتلوا"، وفيروز كانت قاسما مشتركا وقمرا يضيء على الجميع بلا تحيّز ولا تمييز. حافظت على توازنها وتجردها وكوّنت حزبها المستقل لأبناء الوطن جميعهم باختلاف طوائفهم وتياراتهم، فهل يأتي يوم لفيروز تحكم فيه عقولنا، كما حكمت عواطفنا وقلوبنا؟
هل نعود مرة أخيرة لنلقي التحية على أم نبيل؟ فالأمهات كأم نبيل يا صديقي هنّ الملجأ وما بقي لنا من نعمة الأوطان، و أم نبيل لا زالت في قناعتي سيدة فريدة في النساء. وأبو ظافر خالك يانبيل. ما زال في نظري زين الرجال. بالدم غسل خطيئة ليسلم من كل عيب وعار.
هانت علينا الأوطان يا صديقي، وأبو ظافر هان عليه عمره عندما لم يهن على الشرف العار. فكيف يهون العار على الرجال؟
حاسب نفسه يومين بلياليهما القاسية الطويلة حتى اتخذ قراره وصمم على الانتحار، ليعفي نفسه من تبعات العيش في الدنيا أو حرج السؤال. هكذا شاء الخلاص لنفسه. وهكذا نجحت أم نبيل في الامتناع عن المشاركة في العزاء بإعادة اللحمة بين العائلتين المنكوبتين.
ألم تصدّقني بعد أن أم نبيل أخت الرجال؟ وتبقى العشرة الطويلة الطيبة وحدها بيننا يا نبيل؛ والخبز والملح الذي لا يهون حتى على أولاد الحرام. فما بالك ننساه أو يهون علينا يا ابن الحلال؟
= = = = =
(1) في الإشارة إلى قول أبي فراس الحمداني: "ونحن قوم لا توسّط بيننا = = لنا الصدر دون العالمين أو القبر".
(2) متليك: نقود معدنية متدنيّة القيمة.
(3) بطحة: أصغر عبوة زجاجية من المشروب الكحولي، العرق.
(4) ألفيّة عرق: وعاء زجاجي كبير الحجم يحفظونه بقش يقيه من الكسر، ويحتوي على مؤونة العام من العرق.
(5) الشرقية والغربية: المنطقتان المتنازعتان في العاصمة إبان الحرب الأهلية، وما سمي بينهما بخطوط التماس.
(6) رفقا: راهبة مارونيّة طوّبها الڤاتيكان قديسة عام 2001.
(7) نصري أبو طربوش: الفنان نصري شمس الدين.
◄ إبراهيم يوسف
▼ موضوعاتي
5 مشاركة منتدى
بانت الفضيحة وانقضى الأمر, منال الكندي | 26 كانون الثاني (يناير) 2015 - 13:18 1
هانت الاوطان والنساء والأطفال والرجال عندما صار الإنسان مجرد سلعة رخيصة في سوق النخاسين الجدد تجار الحروب، من هانت عليه الرذيلة والخيانة هانت عليه نفسه..
سلم قلمك وحرقة ستظل في النفوس حتى تتحرر الاوطان
بانت الفضيحة وانقضى الأمر, هدى أبو غنيمة الأردن عمان | 27 كانون الثاني (يناير) 2015 - 18:37 2
أ/إبراهيم كل الشكر والتقدير لهذا النص بما يحويه من لماحية في إيصال مضامين أبعد من ظاهره .بالإضافة إلى أنك قدمت النموذج الأصيل للمرأة العربية الحرة ((أم نبيل)) سلمت ودمت بخير
بانت الفضيحة وانقضى الأمر, ايناس ثابت اليمن | 27 كانون الثاني (يناير) 2015 - 22:15 3
الحرب والوطن وعميق النفس البشرية ، دندنت حولهم وفيهم في نص جذاب كالعادة.
طفت في النص وغصت في شخوصه اثناء قراءتي له، دمت عزيزا شامخا استاذي.
بانت الفضيحة وانقضى الأمر, هدى الكناني | 31 كانون الثاني (يناير) 2015 - 21:00 4
كالعادة استاذنا الفاضل اخذت عقولنا في رحلة اختبار واختيار لنضيع بين الصحيح والمفروض والاعم. دوما متالق.
لك كل تقديري. هدى
بانت الفضيحة وانقضى الأمر, أشواق مليباري | 1 آذار (مارس) 2015 - 10:53 5
الأستاذ إبراهيم
(بيكفينا ضو القمر..)
فعلا كانت فيروز قمرا يضيء على الجميع
كالأم التي تشاهد أولادها يتشاجرون ثم يعودون ليناموا في حضنها ليلا
لقد أحسنت السيدة آن ذاك ..
وأظنها اعتزلت الناس الآن أيضا لهول ماتراه من حالنا وماوصلنا إليه
ليس من الضروري أن نجعل من أنفسنا قضاة
ومهما فعل الرجل وفعل غيره
تبقى خيانة الأوطان هي الخطيئة التي لا تغتفر
أشكرك على النص
وأغبطك على هذه الحيوية والهمة العالية
تحيتي