عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

غانية الوناس - الجزائر

رسائل ليست للنّشر


غانية الوناس: كاتبة جزائريةبريد مستعجل

إلى شخص لم أكتب إليه منذ بدأت الكتابة، وربّما أكثر.

كيف أنت أيّها المسافر طيرا شريدا لا تهدأ ولا تستقر؟ كيفَ عالمك المؤثّث بالغيّاب أبدا؟ أما زال باردا كما كان؟ أما زال دفء قلبك ثلجا، كلّما حاولت كسر الجليد من فوقه، استحال عاصفة تحيلني على هامش الوجع، معلقة على مشجب الإهمال، غير مدرجة ضمن قائمة الاهتمام؟

قل لي أيّها الغريب، كيف نبضك منذ زمن الرّحيل الأول؟ ألا زلت تؤمن بأن الصدف وجدت ليصدّقها الأغبياء؟

أتعرف، ما زلت غبية أصدّق أن صدفة ستجمعني بك آخر الزمان، وأنّ كلّ الأحلام المؤجلة، أجلت فقط لتكون أنت واقعها.

لا زلت أعجز عن الكذب، وما زلت أعذر كلّ الكاذبين، لربّما كان لديهم ألف سبب ليكذبوا، ولربّما كان لديك كلّ الأسباب لتغيب.

نسيان مؤجل

كان يكفينا ذلك الحلم الغبيّ الذي رافقنا سويا، ليجعلنا نغمض عينينا بالكامل، فلا نرى شيئا من الحقيقة، لا أعرف من كانَ أحمقا أكثر؟ أنا أم أنت؟ أم كلانا كنّا بذات الحمق.

أعترف أنّ الحياة كانت معجزة حقيقية حين كانت مرسومة في عينيك، كانت شبيهة بالجنّة التي لا أعرفها، لكنّي كنت أقسم لنفسي مرّات ومرّات بأنها تبدو هكذا بجمال عينيك وصفائهما، كنت أتخيّلها هكذا نقيّة، صافية، عذبة عذوبة روحك التي لم أكن أعرفها جيّدا.

قرأت مرّة أن الحمق داء ليسَ له دواء، لكنّ أحدا لم يخبرني قبل ذلك أن الحمقَ نفسه هو لبّ الحبّ، أو صورته المنمقة في أسوء الأحوال في قاموسك أنت.

هل كنتَ تعرفه حقا؟ وهل كنت تؤمن به حقا؟

أتساءل وأنا أجمع بقايا خيبتي، وأرمم تلك التصدعات الّتي خلّفتها في كياني، أحاول أن أنتشلَ ما تبقى لي من وجود في نفسي، وأربت بكفي على قلبي.

واه يا قلب كم آذيتك! كم تحمّلت منّي ومنهم! كم كنتَ واسعا كالبحر لتتحمل حماقاتي معهم! وكم كنتَ منصفا لتغفر لهم كلّ مرة، وتنسى! أكنتَ تنسى حقا؟

كيف تنسى؟ وكيف ننسى أنا وأنت أيّها الموجوع منهم حدّ التعب؟

سرّي للغاية

أما أنتَ فمختلف عنهم، لستَ بحاجة لحروف تكتب عنك، تكفي نظرتكَ إلى الأشياء لتحيلها جميلة بعدما كانت عادية جدا، يكفي المكان أن تمرّ به، ليصبح مزارا للعشاق والثائرين، يكفي الموسيقى أنّك أعذب لحن فيها، ويكفي الهواءَ أنّك تعطره بروحك وأنفاسك.

يخالني الأدب سأكبت فيك قصيدة أخلّدكَ فيها، يكفي الأدبَ أنّك أكبر من أن أجعل منكَ طيفا يسكن كتبي ونصوصي، أنتَ أعمق من كلّ ما أكبته، لذلك أسألني كلّما سألوني: لمن تكتبين؟

فأجيبني وأجيبهم، هو يكتبني بحروفي.

أما أنتَ، فأنتَ ما أعرفه وما أجهله، ما أحفظه عن ظهر حب، وما لازلت أتلعثم كلّما حاولت النطق به.

غصّة النهايات الباردة

أريد اليوم أن أقف أمامك، ولديّ رغبة جامحة في صفعك على وجهك.

أريد أن أرمي في وجهك تلكَ البدايةَ الّتي كنت فيها بكثير من الغباء الّذي يجعلني أصدق أنّك كنتَ لتصنعَ لأجلي الفرحَ، وتسكنه في قلبي وحياتي.

كنت طفلة والأطفال عادة مغفّلون. أشتهي اليوم أن أصرخ بكلّ ما في نفسي من قوة، أن أتنفس عميقا وأنا أبصق ذكرياتي لحظة بلحظة، وأنا أنتزع أوردتي المشبعة بك، وريدا وريدا، وأنا أغرس الوجعَ وتدا أبديا في القلب.

أشتهي أن أرتمي بحضن نفسي، لتحتضنني نفسي، وتربتَ على كتفي يدي. يدي ولا يد أخرى غير يدي. أشتهي أن أنثرَ غبار أحلامي أمامي، وأجلس إلى جانبها أنتحب، وأفتحَ في داخلي مجلسا للبكاء لا ينتهي.

أشتهي اليومَ أن أصادق البحرَ، وتكونَ لي قرابة مع الحزن لا تنتهي، موعدا أخيرا مع الفرح أريده مرتبا، أمام لسعة الانتظار، بحقيبة فارغة من الأمل، بحدس لا يكاد يذكر، بفم مفتوح وعينين غارقتين في الضّباب.

لا أريد احتفالا شاهق البهجة، باذخ الفرحة، أريده ساذجا مثلي، أريد نهاية على مقاس الوجع، رثّة، مزاجية، لزجة بعض الشيء، لا أريدها فضّفاضة يتسرّب الهواء منها، أريدها على امتداد الخصر ضيّقة، خانقة، حادة تذبح كسكّين.

ألست اليومَ قربانا؟ ألست ذبيحةَ ذلك الشيء العظيم الذي نما في القلب عمرا، وما أزهر في النهاية غير الصّقيع والألم؟

اعتراف

وكنت أقول في نفسي أنا قويّة جدا، بما يكفي لأغلق هذا القلب، ولا أستمع أبدا لأيّ طرق يأتيني، مهما علا صوته، سوف أصمّ آذاني عنه، وسوف لن أفتح، سأتظاهر أنّي منشغلة بترتيب فوضى قلبي ومشاعري، وأني لفرط ما سمعت أصواتا مشابهة لم يعد الطّرق يعنّيني كثيرا.

ربّما لم اسمعه حقا، هكذا كرّرت القول على نفسي. وحينَ خفّ الطرق أخيرا، وندر صوته ولم يعد يأتي كثيرا، حينَ استكان الضجيج خارج مداراتي، كوني وأزمني، فتحت نافذة قلبي، خرجت إلى شرفة كياني أستنشق عطر الحياة، غافلتني أنتَ من حيث لا أدري.

أحببتك ولا أدري كيف خذلتني حواسي، وكيف لم أنتبه لطرقك الّذي جاء مستقلاّ عن كلّ شيء. لا زلت لا أعرف، ولازلت أواصل القول بأنّي قويّة.

بوح محرّم

كانت ستقول في بداية الحديث: اشتقتك، سكتت قليلا وقالت: كيفـ" أنت "ك؟

كانَ سيردّ: "بدونك لا شيءَ" لكنّه قال "أنا بخير".

ليست مضطرة أن تقول ذلك، ولا هو مضطّر أن يردّ بشيء، هو هكذا قدر الأشياء أن تحدثْ، ربّما لأن القلوبَ الصغيرة غير المحصّنة اتجاه الخيبات لم تصل بعد إلى درجة الاستيعاب بأن الكثير مما تحبّه قد يؤذيها.

برسم الغيّاب

كنت قد كتبت لك قبل الآن مرّات ومرّات ومرّات، اعتقدت الأمر متعلّقا بذلك الحبّ الذي نشعر به في أعماقنا متراكما برغم كلّ شيء، اعتقدت أن الهشاشة التي تسكننا، والتي عادة ما تحيلنا إلى بقايا وأطلال تصارع عبثا من أجل البقاء، سبب كاف لذلك وأكثر، اعتقدت أنّه بإمكاني في جميع الأوقات الكتابة إليكَ دون الحاجة إلى الكثير من الحبر والدّمع والألم.

كانَ الوفاء هو الدّافع الأكبر لكلّ شيء، لكنّه لم يعد متيّقنا تماما من صموده الآن، صار هشا جدا، صار ضجرا جدا من كثرة الغياب، لم تعد تسعفه الذّكريات، ولا عادت تعنيه تلك الأشياء الصغيرة التي لطالما آمنَ بها، ولا عاد حتّى متأكدا من كلّ الذي كانَ.

أحدثَ حقا كلّ ذلك؟ أم أنّه كانَ شيئا موصولا بالخيال؟

أكتب إليك الآن، ليسَ لأرشقكَ بآخر عناقيد الذّكريات المتدليّة من عنق الذّاكرة المبتور لعلّك تعود، بل أكتب لأقول لك بكثير من الصّبر الذي تعلّمته: "أنتَ منحتَ نفسكَ حقّ الغيّاب، فلا تعتب على من سارَ في دروب النسيان بعدك".

شكرا للوجع

لا أعرف لماذا أضحك الآن، وأنا أتذكر كلّ كلامك؟

ما كانَ أرخصَ من الكلام، فلم يكن يكلّفك شيئا سوى حروفا ترصّ بعضها إلى بعض.

كما الأحلام الجميلة تنتهي بسرعة، وكما فقاعات الصابون الصغيرة تختفي بسرعة، كذلك كنتَ سحابةَ صيف أمطرت وهما جميلا ومضت.

كم تبدو الآن البدايات سخيفة جدا، إلى الحدّ الذي يجعلني أضحك حتّى البكاء، لكنّي لن أبكي إلاّ لشيء يستحقّ، كنتَ رثَّ المشاعر، أتذكر؟ ومع ذلك احتضنتك بقلبي بودّ كبير، بإيمان كبير، بشيء من الوفاء الذي لم تختبره يوما في حياتك.

قلت لك يومها: "إنّي أخشى الأذيّة في الرّوح"، اعتقدتني أدلي باعترافاتي إلى بئر ستحفظها، ما أدراني أنّ البئر نفسها عميقة حدّ الغرق؟

لم أغرق، لازلت حيّة أتنّفس، لكن في نفسي بقي شيء عميق تأذّى كثيرا، ذلك ما كنت أخشاه، تأذّت الرّوح وانتهى الأمر.

ومع ذلك في القلب ابتسامة رضى لا تختفي أبدا، ممتنّة للوجع كثيرا، فقد كانَ درسا آخر في الحياة.

D 25 آذار (مارس) 2015     A غانية الوناس     C 0 تعليقات