فنار عبد الغني - لبنان
بريد الأعياد
بريد الأعياد
في هذا الموسم مرّ بريد الأعياد من جادتنا متخفيا ومتنكرا في لباس غير مألوف. كانت قدماه بالكاد تلامسان الأرض، كان بالكاد يقرع الأبواب ليلقي تحيته اللطيفة المعهودة، يسلم ويستلم الرسائل وبطاقات المعايدة والهدايا بهمس وحذر.
للمرة الأولى يأتينا بريد الأعياد بشكل مريب: عيناه خائفتان وابتسامته غامضة ووجهه شاحب وقلبه يخفق مرتعشا. في العادة كان كلما اقترب من بيتها ذي النوافذ السوداء المغلقة باستمرار، تنتابه حالة من الهلع خشية لقاءها صدفة، كانت ترهبه نظراتها الحادة وسخريتها اللاذعة من العيد وتهكمها على جيرانها وعلى من يرسلون ويستلمون الرسائل والبطاقات، واستنكارها المستمر لكل الأعياد.
كانت تطرده من قبل أن يقرع بابها الحديدي الأسود وتفرغ عليه جمّ سخطها من الدنيا ومن فيها.
كان اليوم قد اعتمر قبعة سميكة غطت رأسه والكثير من وجهه، ووضع نظارة سوداء سميكة وكبيرة غطت ما تبقى من وجهه رغم أن الطقس كان هادئا والوقت لا زال باكرا. كان يقوم بعمله بشكل سري وبسرعة قياسية.
في منتصف الطريق، وقبل أن يصل إلى بيتها مقررا تجاوزه بأقصى سرعة ممكنة، اعتراه الفزع واستولت عليه الدهشة وتسمر في مكانه عاجزا عن القيام بأية حركة، وتوقف عقله لبضع الوقت عن التفكير ولم يعرف ماذا عليه أن يفعل.
لقد عرفته. ها هي تنطلق نحوه هاتفة باسمه. لا مفر منها. خلع نظارته ليمسح العرق المتقاطر فوق جبينه. فرك عينيه جيدا، أقفلهما ثم فتحهما مركزا نظره من جديد عليها. إنّها هي بالفعل.
سيدة الكآبة كما يسمّونها في هذه الجادة، تقف في منتصف الطريق، تلبس ألوانا زاهية، يقطر وجهها فرحا وتتلألأ عيناها تألقا. بدت رائعة وصغيرة في السن. تساءل في نفسه مستغربا وغير مصدقا حواسه: ماذا حدث لها؟
أسرعت الخطى متوجهة نحوه، تحمل بخفة صندوقا ثقيلا وحيته بابتسامة غير عادية وقالت له بصوت ذكره بصوت ليلى مراد: "أنا انتظرك منذ طلوع الصباح، اذا تكرمت علي أيها السيد الكريم وساعدتني في إرسال هذه الهدية لأول صديق مخلص لي سوف أكون ممتنة لك من كل قلبي".
لغة الغياب
"في غيابك يتداخل العدم مع الوجود، ترتحل الكواكب الوضاءة عن سمائي، أترقب الأقمار فلا أجدها، تركن الرياح، تحط السحب وترقد في الوديان، تتوقف الجداول عن الجريان، يتجمد البحر، تحزن النوارس، تكتسي لون الضباب، يمتد الليل، تتوحد الفصول فتغدو خريفا طويلا اصفر، تنبت الأشواك مكان الأشجار والورود وتتسلق أعالي الجبال وتتوج نفسها فوق الذرى.
في غيابك تطول ثرثرات الناس اللذين يتحدثون لغات لا افقهها، بينما يجف الكلام على لساني، تهرب الأحرف مني، أنصت لأصوات الطيور فلا اسمعها، أندهش لحالها، أراقب الأسراب البكماء وهي عاجزة عن الحركة، ماذا أصابها لتعتزل الحياة؟ لكن أنى لها الغناء والكون في حداد!
أجاهد نفسي كي تغفو قليلا آملة أن ألتقيك داخل أحلامي، أتجول في دهاليز الحلم باحثة عنك، وأعثر عليك في الطرف الآخر من الكون وخلفك الوجود يضيء بكل الأشياء التي تسعدني، هتفت باسمي عاليا وسألتني عن حالي، حركت شفتيّ لكني لم استطع التفوه بحرف، لقد فقدت لغتي عندما اعتقلني غيابك."
"في غيابك تضاعفت الحدود بيننا رغم انعدام المسافات. تعالت الجدران الفاصلة واستطالت أبراج المراقبة. اختفى الهواء النقي الذي يحمل عطرك الطفولي. تباطأت نبضات قلبي، وأخذت تخفت تدريجيا لحظة بعد لحظة. أصيب القلب بالعجز وفقد لغته معي، فأشار العقل علي بالرحيل إلى أقاصي العالم.
في طرق الرحيل بدأت أكتشف ذاتي: تيقنت بأن كل وطن لا تسكنيه غربة، وكل أرض لم تطئيها صحراء، وكل لغة لم تعرف اسمك بكماء وكل قمر لن يكتمل اذا لم يحالفه الحظ برؤية عينيك.
بدا لي كل العالم موحشا وأصابني التيه. لذلك كان علي الرحيل مجددا إلى عالم آخر. عالم فيه العدم وفيه الوجود معا. وهناك انتظرت حضورك بفارغ الحنين، دعوت خاشعا أن تتحرر روحك من غيبوبة الجسد المنهك من الموروثات القبلية والأحكام الجائرة الجامدة وأن تعرجي مثلي إلى العالم الجديد."
"أنا الغياب. يراني الغرباء عن أنفسهم عدما ويعتقدونني ظلاما دامسا ويجهلون حقيقتي. أنا الغياب، يتبعني المريدون للنور الحقيقي للذات الصادقة، يعرج إليّ المحبون الذين أذاب الجوى ثقل أجسادهم. تشتاق إليّ الأرواح المتحررة من أصفاد الأنا الجشعة. لا يدركني إلا من تيقن بأنه لا سعادة لروح لم تعمل من اجل إسعاد غيرها.
أنا الغياب: غياب الكراهية والأنانية والحقد وانعدام الظلمات داخل النفس. أنا روضة المشتاقين.
أنا الغياب. أنا الحضور الحقيقي للوجود وليس لي لغة إلا الحب الخالص. أدركوا لغتي لتدركوني."
◄ فنار عبد الغني
▼ موضوعاتي
7 مشاركة منتدى
بريد الأعياد, براء محمد غنام / عمقا | 28 تموز (يوليو) 2015 - 13:24 1
كلام رائع يستحق التقدير :-)
1. بريد الأعياد, 28 تموز (يوليو) 2015, 14:48, ::::: حلا ياسين/ لبنان
كلام جميل يستحق التقدير. شكرا لجهودك معلمتي ☺
بريد الأعياد, منى عبد الغني | 28 تموز (يوليو) 2015 - 13:24 2
أتمنى لك مزيدا من العطاء والتألق الدائم
بريد الأعياد, إبراهيم يوسف - لبنان | 28 تموز (يوليو) 2015 - 14:36 3
أ/ فنار عبد الغني- لبنان
مفردة واحدة يا سيدتي تتقدم عن مكانها أو تتأخر، قد تغير صياغة العبارة ومرونتها، وتوضح معناها أو العكس، فتتحول العبارة إلى الأحسن وربما إلى الأسوأ. ميزة ما تكتبين أنك تحسنين صياغة الجملة فتأتي المفردة اللازمة في المحل المناسب.
ينبغي للأمانة أن أنوه "بالصقر" نصك في العدد الماضي. كان موفقا للغاية بأسلوبه الوجداني البسيط.. والبركة أيضا في النص الحاضر- بريد الأعياد ولغة الغياب.
تقبلي خالص محبتي واحترامي.
1. بريد الأعياد, 13 آب (أغسطس) 2015, 06:35, ::::: فنار عبد الغني - لبنان
الاستاذ يوسف
الانسان كائن الذوق، لقد أضأت بذوقك وجداني وحفزتني على الاستمرار في الكتابة.واذا كانت الكلمات تخرج كلها لتشكل كلا واحداً في بعض ماأكتبه فالسبب يعودلثنائية الألم والحلم،اللذان لايستغني احدهما عن الآخر.شكراًلك من كل قلبي.
بريد الأعياد, Sana Al-Mawed/صفورية | 28 تموز (يوليو) 2015 - 14:36 4
رائعة جداً
بريد الأعياد, التامر لبنان | 29 تموز (يوليو) 2015 - 14:12 5
كم هي الرواية حالمة وكم هي الصورة ملكة التعبير وكم نحن نختزن لوحات الالم نعم الحياة نقتبس منه ولها هكذا هي لغتك مليئة بالحب ومغمة بالامل سنبقى معك ومع الغياب لنستطيع اعادة لغة الحضور
بريد الأعياد, زهرة يبرم - الجزائر | 29 تموز (يوليو) 2015 - 23:13 6
الأستاذة فنار عبد الغني / لبنان
بريد الأعياد ولغة الغياب والصقر...
جولة من الأفكار والمعاني والرؤى تبهر القارئ وتشده إليها..
سلم يراعك ، ودام ذوقك، وسما فكرك..
1. بريد الأعياد, 31 تموز (يوليو) 2015, 19:25, ::::: محمد ايو عرقوب فلسطيني من لبنان
ما اروعها!!!!
قصة مفعمة بالافكار و الصور و الألوان . تعابير و مفردات جعلت القارئ يسارع لمعرفة التطورات.
قصة عجز القلب عن وصفها فكيف يصفها اللسان!؟!
اخيرا اود ان اشكر الانسة فنار على هذه القصة .
2. بريد الأعياد, 13 آب (أغسطس) 2015, 05:53, ::::: فنار عبد الغني - لبنان
أستاذة زهرة بيرم
اشكرك على كلماتك الغاليةوأمنياتك القيمة.أناأيضا أتأثر بماتكتبنيه ،فهو يهز الوجدان ويستقر بالذاكرة.دمت لنا.
بريد الأعياد, ايناس ثابت اليمن | 2 آب (أغسطس) 2015 - 15:04 7
مميز ورائع ما تكتبين، راق وشفاف.
لك كل التوفيق أ/ فنار.
1. بريد الأعياد, 13 آب (أغسطس) 2015, 05:41, ::::: فنار عبد الغني - لبنان
أ/إيناس
كتابتنا تعكس النذر اليسير من ألمناوهي تعبر عن توقنالعالم نجد فيه بعض الحب والجمال وشكرالك، لقد شعرت بذلك وروحك أيضاتنتمي الى عالم الجمال السحري.