فنار عبد الغني - لبنان
لم يقل شيئا
كان عقرب الساعة الخشبية المعلقة على الحائط المتصدع بفعل القصف يشير إلى العدد سبعة حين دُق باب بيتنا على غير عادة في ذلك الصباح. كان الهدوء المتقطع لا يزال يعمّ صباح البيت. تسمرت مكاني. من في الباب؟
قالت لي أمي: "لا بد أنّها إحدى الجارات ترغب بمشاركتنا قهوة الصباح".
فتحت الباب وإذ بي أرى أبا عرب، جارنا القديم الذي رُحَّل عن حارتنا منذ خمسة عشر عاما.
أبو عرب!
شهقت أمّي: "خير إن شاء الله". وبعد أن ألقى تحية الصباح رمى بنفسه وجسده الضامر على الأريكة الأقرب إلى الباب، وقال: "كنت سهرانا منذ البارحة عند أختي أم سعيد، وقلت في نفسي لم لا أزور جارتنا وأختنا أم هشام".
رحبت أمي به بشدة رغم الدهشة التي غلبت على وجهها وصوتها، وأخذت تبدد من دهشتها عندما بدأت تسأله عن أخبار وأحوال أخته أم سعيد، التي لا يبعد بيتها عن بيتنا إلا مسافة دقيقتين لا أكثر. وليسامحنا الله لأننا لم نسأل عنها بعد الوضع المأساوي الذي تعرض له حيّنا من قصف ودمار، وبعد أن تفشت الكورونا وقضت على ابنة أم سعيد التي كانت تخدم والدتها العاجزة.
كنت واثقة أن هناك صوتا داخليا يحادث أمي ويخبرها أن الرجل قد مسه بلاء شديد دفع به إلى طرق بابنا، ولم يعرف إلى أين يذهب. وقد جرته قدماه إلى حارته القديمة، إلى بيت والديه. ولما لم يستطع الاقتراب من البيت بسبب إخوته الذين طردوه ظلما وأجبروه على بيع حصته بأبخس سعر، هرع إلى بيتنا.
لا بد أنه قبل أن يدق بابنا وقف بباب بيته القديم، ووقف وأطال الوقوف حتى خذلته قدماه وخنقته عبراته.
أعددت له القهوة، وأحضرت فنجانا كبيرا وكوبا من الماء. واستلم دفة الحديث. انطلق يسرد ما بجعبته من الأخبار والحوادث التي حصلت معه منذ أن ارتحل عن الحارة. وكان بين كل قصة وقصة يسردها يتوقف لحظات عن الكلام، يتبعه زفير وجحوظ وثقل في لسانه، لدرجة أنني تخيّلت لسانه قد ربط عن الكلام، ثم يعود فيرتشف بعض القهوة، يتبعها القليل من الماء ويشعل سيجارة تلو الأخرى.
وأخذ يسترسل بالأحاديث: يخبرنا عن البيت الذي ابتاعه منذ خمسة عشر عاما، وعن شهامة أخوة زوجته، أم علي، الذين أمدوه بالمال اللازم لشراء البيت، وعن الحديقة التي أعدها وزرع فيها ما كان يحلم به، وكيف أن هذه الحديقة كانت ملاذه بعد وقوع سقف أحد المباني عليه خلال عمله في أحد الورش، وكان عاملا مياوما، ولم يتم دفع أي تعويض له أو مساعدته في نفقات العلاج. وأثنى مرة أخرى على أخوة زوجته الذين ساندوه وقت عسرته.
توقف فجأة عن الكلام وصمت وأطال الصمت، ثم عاد وتابع شرب القهوة والماء، واسترسل بالصمت، واسترسل بشرب القهوة. وهمّ بأن يقول شيئا ما، ولكن لسانه خذله. وتنهد وتابع أحاديثه عن أولاده الذكور الذين رحلوا صغارا عنا وأصبحوا اليوم رجالا، وعن عثراتهم وكفاحهم وتحملهم مسؤولية البيت خلال مرضه وعجزه، وعن ابنته الوحيدة وقصة كفاحها في الحياة، وكيف درست الهندسة، لكن الجامعة لم تمنحها الشهادة بسبب عدم تمكنهم من دفع الأقساط، وأنه من الصعب استكمال ما تبقى لهم من مال بسبب وضعهم القاهر، وأن ابنته تعمل في مستشفى مقابل مبلغ زهيد يكفي نفقاتها الشخصية، وقد سجّلت في جامعة أخرى نفقاتها أقل تكلفة لتنال شهادة في التمريض: اختصاص آخر لعلها تجد ضالتها فيه.
وبعد مرور ساعتين أو أكثر من زيارته، صمت مرة جديدة، وهمّ بأن يقول شيئا ما. لكنه تلعثم وأمسك كوب الماء وارتشف ما تبقى منه، ثم حاول الكلام مرة أخرى. لكن لسانه خانه وخذله وارتبك ولم يقل شيئا. وأطرق يفكر ووجهه يزداد شحوبا، ثم عدّل من جلسته، ثم همّ بالكلام، ثم شهق. ووقف مطولا واستدار وخرج من دون أن يشعر. ولم يقل شيئا.
◄ فنار عبد الغني
▼ موضوعاتي
المفاتيح
- ◄ قصة قصيرة
- ● وماذا بعد؟
- ● النظّارة
- ● خرابيشُ خطّ
- ● بقرة حسين
- ● تاريخ