عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

الصفحة الأخيرة - عدلي الهواري

هجاء الأعراب في الكتابة عن أحداث تاريخية


د. عدلي الهواريلا أدري بمن يجب أن أبدا: بالصحيفة التي تسمح بنشر كلام مسيئ لفئة من البشر، أم بالكاتب صاحب الكلمات المسيئة. الصحيفة تكرر القول إنها تقف في صف المقاومة والممانعة، وأقصد صحيفة "الأخبار" اللبنانية. الكاتب ناشر وباحث، وبأي من الصفتين يُستغرب أن يلجأ في كتابته إلى استخدام لغة تحقيرية لفئة من الناس، واقصد د. زياد منى، وهو صاحب دار نشر اسمها "قدموس" ويكتب في صحيفة "الأخبار".

في العادة أقرأ ما ينشر للكاتب في "الأخبار". وعندما ذهبت إلى صفحة الرأي في عدد الصحيفة الصادر يوم الاثنين 14 تشرين الثاني (نوفمبر) 2016، وجدت مقالة منشورة له بمناسبة مرور مئة سنة على "الثورة العربية الكبرى"، التي أعلنها في عام 1916 أمير مكة، الشريف الحسين بن علي، وكانت بداية خروج العرب من الإمبراطورية العثمانية.

صدمتني الفقرة الأولى في المقالة بقوة لأنها تستخدم لغة تحقيرية في الإشارة إلى فئة من الناس، فهم قطعان ويأكلون القمل، والقمل يعشش في رؤوسهم. ونص الفقرة كما يلي:

"في الثامن من شهر حزيران [يونيو] عام 1916 انطلقت من الحجاز نحو شماليّه، قطعان أعراب، من أكلة القمل من أعشاشه في شعور رؤوسهم، كما صوّرهم فيلم لورانس العرب، الذي يعتز به أحفاد كبير السحرة والعمالة الحسين بن علي، مرجعًا لما تسمى الثورة العربية الكبرى".

دعوا التاريخ جانبا، ولننتبه للغة. الناس في اللغة المستخدمة "قطعان"، وهذه وحدها تكفي لتسيء للمقالة. ولكن لا يكتفي الكاتب بذلك، بل يعتبرهم أيضا "أعرابا"، وهذه إساءة ثانية، فقد انتهى منذ زمن بعيد عصر الأعراب الذين ذكروا في القرآن الكريم: "الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ" (سورة التوبة؛ الآية 97).

ولا أظن أن استخدام الكاتب لـ"أعراب" كان من منطلق ديني. الأرجح أنه استخدم كلمة "أعراب" بدلا من "عربان" التي تستخدم كثيرا في بلاد الشام في سياق تحقيري.

ويزيد الكاتب من عيار التحقير بوصف الذين انطلقوا نحو شمال الحجاز بأنهم "أكلة قمل". ولأنهم لم يقتربوا يوما من الماء للاستحمام، فللقمل "أعشاش في شعورهم" . أما كيف عرف الكاتب ذلك، فهو يعتمد على الصورة التي أظهرهم فيها فيلم "لورانس العرب" (1962) للمخرج البريطاني ديفيد لين.

فيلم "لورانس العرب" ليس فيلما وثائقيا يؤرخ لحقبة زمنية بنزاهة، بل فيلم تجاري من سلسلة أفلام لها علاقة بأمجاد الإمبراطورية البريطانية. الفيلم عن ضابط بريطاني اسمه توماس لورانس، الذي كان بين المكلفين بالتنسيق مع أبناء الشريف حسين لتنفيذ ما يسمى بالإنجليزية (The Arab Revolt) التي يمكن ترجمتها إلى العربية بالثورة العربية، أو التمرد العربي، أو العصيان العربي. والمصطلح المستخدم في الأردن الثورة العربية الكبرى، فأحد ابناء الشريف حسين بن علي، عبد الله، أصبح أميرا لما عرف لفترة بشرق الأردن، ثم ملكا بعد تحويل الإمارة إلى مملكة.

كانت لبريطانيا مصلحة في انفصال المناطق التي يعيش فيها العرب عن الإمبراطورية العثمانية، فتركيا دخلت الحرب إلى جانب ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، فأصبحت عدوا رسميا لبريطانيا وفي حالة حرب معها.

شجعت بريطانيا الشريف الحسين بن علي على الإنفصال مقابل وعد بأن يكون ملك العرب، دون تحديد للمنطقة التي سوف تتكون منها المملكة (انظر/ي مراسلات الحسين-مكماهون؛ 1915). لم تف بريطانيا بوعدها للشريف حسين، فقد تقاسمت سرا مع فرنسا (1916) المنطقة العربية وفق الاتفاقية الشهيرة، سايكس-بيكو.

كتب الكثير عن الحدث، ولمن يرغب بالاطلاع على وجهة نظر أردنية يمكن الرجوع إلى كتاب "تاريخ الأردن في القرن العشرين: 1900-1959" (ط2؛ 1988) لمنيب الماضي وسليمان موسى. ولوجهة نظر مختلفة يمكن الرجوع إلى كتاب "الهاشميون والثورة العربية الكبرى" (1966) لأنيس الصايغ. ومن يحسن الإنجليزية يمكنه الرجوع إلى كتاب "أورينتيشنز" (1945) لرونالد ستورز.

موضوع هذه الكلمة الموجزة ليس التاريخ، بل اللغة التي استخدمت في المقدمة المذكورة أعلاه. اختلاف وجهات النظر في تحليل وتقييم أحداث تاريخية، أو نتيجة أوضاع سياسية معاصرة، امر شائع، ولكنه لا يجيز استخدام لغة تحقيرية. هل كان تقييم الكاتب لهذا الحدث سيتغير لو كان الذين اتجهوا نحو شمال الحجاز حسني الهندام، معطري الأجساد، وأكلة كافيار، وغير ذلك من مظاهر العيش الرغيد؟ لا أتوقع ذلك، فتقييم حدث ما وتحليله يعتمد على الأدلة والحقائق لا على مظهر المشاركين فيه أو مكان ميلادهم أو لون بشرتهم.

اللغة التحقيرية لا مكان لها في الكتابة البحثية، ولذا استغرب من ناشر وباحث استخدامها. ولكن بما أنها كتبت، فإنني أستغرب نشرها في صحيفة "الأخبار". نشر المقدمة الصادمة في المقالة يشير إلى احتمالين، أحدهما أن الشخص المسؤول عن صفحة الرأي في "الأخبار" لم يقرأ المقالة ونشرها كما وردت. أما إذا قرأها ونشرها كما هي، فهو يستحق قدرا أكبر من اللوم. في الحالتين تتحمل الصحيفة نصف المسؤولية، أو أكثر.

اللغة التحقيرية لا تقوي الحجة ولا تسهل الاقناع. العكس هو الصحيح.

= = =

رابط المقالة في صحيفة "الأخبار":

http://www.al-akhbar.com/node/268014

JPEG - 19.4 كيليبايت
غلاف كتاب عن تاريخ الأردن
JPEG - 14.8 كيليبايت
غلاف داخلي لكتاب
D 1 كانون الأول (ديسمبر) 2016     A عدلي الهواري: بحوث ومقالات وقصص     C 1 تعليقات

1 مشاركة منتدى

  • أحسنت في مقالك ياأستاذ عدلي بتذكيرنا بآداب الكتابة والنقد، وهما مجالان للأسف لايحظيان بالكثير من الاهتمام في عالمنا العربي المعاصر. هناك آداب للكتابة وآداب للنشر ومناهج للنقد وقواعد لمخافة الرأي والرؤية وهي كلها ضرورية للحفاظ على الهدف الرئيس من الكتابة والنقد، أي الحوار وتبادل الآراء والأفكار والتأويلات. المثال الذي طرحته غيض من فيض في الدوريات والصحف العربية اليوم، وبشكل خاص، للأسف أيضاً، تلك التي تدعي الانتماء لليسار والفكر التقدمي. بئس هكذا انتماء إذا كان مايصدر عنه تسفيه وتحقير ومسبة. ولكن ساحة الكتابة بحاجة لمن يذكر ممارسيها دائماً بواجبهم بالتحلي بآداب الكتابة، فشكراً لك لممارسة هذا الدور.


في العدد نفسه

كلمة العدد الفصلي 03: الثقافة الفلسطينية إلى أين؟

تجليات الصحراء في أعمال منيف والكوني

من تكون؟ + صغيرتي والقمر

شمس

أغلى أماني الحياة