عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

فنار عبد الغني - لبنان

زمن العزلة القادمة


فنار عبد الغنيمضى أكثر من عقد من الزمن على قراءتي الأولى لرواية «مئة عام من العزلة» للكاتب الكولومبي جابرييل غارسيا ماركيز الحائز على جائزة نوبل للآداب، وهي الرواية التي فرض فيها الكاتب على نفسه العزلة التامة والتفرغ لإنهائها في مدة وجيزة لم تتجاوز الثلاثة أشهر حسب ما أذكر. وكان قد كتب قبل ذلك رواية مشابهة عن نفس القرية، ماكوندو، التي تدور فيها أحداث الروايتين، وهي رواية «عاصفة الأوراق».

تتناول رواية “مئة عام من العزلة» حياة عائلة هوزيه اركاديو بوينديا على مدى مئة عام، وهو رجل غريب الأطوار، ورث أولاده وأحفاده عنه طبعه الغريب. أما زوجته فقد كانت سيدة عاقلة وهي التي كانت تتولى إدارة شؤون العائلة بسبب غرابة أطواره هذه.

أذكر أنني قمت برسم خريطة مفاهيمية للأبناء والأحفاد من أجل فهم سير الأحداث المتكاثفة في الرواية، ورسم خريطة أخرى لفهم العلاقات بين الأبطال والشخصيات. وكنت أعتقد أن الرواية مختفية في تلافيف ذاكرتي، وأنها رواية عابرة رغم أهميتها العالمية والتي اكتسبتها من التأويل المستمر للقراء غير العاديين لها والنقاد والمهتمين بالأدب العالمي.

لقد قرأت تلك الرواية بشكل متقطع. كنت أطالع بعض الفصول وأهجرها ثم أعود للمتابعة من جديد. يشي عنوان الرواية بالعزلة القاسية التي عانت منها القرية وأهلها، حتى يبدأ الناس باكتشافها والقدوم للعيش فيها. وهنا تبدأ برأيي العزلة الحقيقية للقرية، فقبل اكتشاف القرية، كان السكان يعيشون دون أن يدركوا حقيقة الأمر بطمأنينة وسعادة، وكانت القرية ملكهم، وفيما بعد أصبحت مطمعاً للغرباء أو الباحثين عن حياة جديدة كالغجر أو الطامعين كشركة الموز التي تتسبب بقتل ثلاثة ألاف شخص، والتي جلبت الحظ السيئ للقرية وقضت عليها.

ولكيلا أطيل الحديث عن تفاصيل الرواية السحرية والمذهلة وأضيع هدفي الأساسي الذي أعادني للرواية، ألا وهو توقعات الكاتب نفسه لمصير البلاد المشابهة لماكوندو، وتشابك الخيال بالواقع والحلم بالعلم والنظرية بالتطبيق، وكأن ماركيز من خلال الغجري ميلكياديس يصور الأحداث التي سيعيشها كل من شابهت حياته حياة تلك القرية المنعزلة.

برأيي أن العزلة الحقيقة حدثت فعلا عندما تمرد الإنسان على فطرته النقية وتجاهل صوت ضميره الداخلي حتى قتله، ثم بدأ باستبدال قيمه الفطرية بقيم مادية لا تلائم حقيقته كإنسان خُلق ليعمر هذه الأرض بالخير لنفسه ولغيره.

ونحن اليوم على أبواب عزلة حقيقية من نوع مشابه، فبعد أن أمضينا قرابة العامين من الحجر بسبب الكورونا والتي تشبه في رواية ماركيز أحد الكوارث الطبيعية التي تخيلها، تفاجئنا صيرورة سريعة من المتغيرات الهائلة من حولنا، التي أشك بوجود عقل بشري استطاع التكيف معها، كجرائم السرقة الممنهجة والغلاء وخسارة قيمة العملات الوطنية، ويليه خسارة قيمة رواتب الموظفين والعمال وازدياد عدد العاطلين عن العمل والفقر وارتفاع نسبة الفسق والفجور والتخوف من كوارث طبيعية تعاقب البشر على شرهم.

ما يحدث لنا اليوم فاق تخيلات ماركيز، أصبح العالم ككل يعيش عزلة داخل عزلة داخل عزلة. عزلتنا عن أهلنا، عزلتنا عن بعضنا، عزلتنا عن أنفسنا، وكأن الإنسان أصبح منعزلا أيضاً عن ذاته.

أشعر وكأن شخصيات ماركيز خرجت من الرواية وهي تسرح وتمرح وتملأ الأرض فساداً، فتلتقي بكل من يتسبب لك بالعزلة من لصوص ومحتلين ومراوغين ورجال دين وسلطة وكل التجار الذين تحولوا إلى نخاسين، وأخيرا تجار الموت الذين لم يذكرهم ماركيز: محتكرو الأدوية وحليب الأطفال والمواد الغذائية والمحروقات. هؤلاء الذين يريدون إعادة الأرض والبشرية إلى أزمنة العبودية والرق، إلى زمن عزلة حقيقية قادمة بلا ريب إلى كل البشر.

أردت أن أكتب عن هذا الزمان القادم قبل اختفاء التيار الكهربائي وأنا أنظر في الوقت نفسه إلى رواية ماركيز لأتأكد أنها مغلقة بالفعل، وأن كل ما يحدث هنا من حولي ليس بخيال.

= = =

JPEG - 55.8 كيليبايت
غلاف 100 عام من العزلة
D 1 أيلول (سبتمبر) 2021     A فنار عبد الغني     C 10 تعليقات

10 مشاركة منتدى

  • ها نحن ذا نخوض هذا الزمن
    وصلنا الى الدرك الأسفل فيه
    نعم كما قلت لقد فاق زمننا هذا توقعات غابرييل ماركيز
    بأشواط
    وقبلها وقعت فنزويلا بما تخيل الكاتب وكأنه كان يعلم
    أصبت يا صديقتي بإنتقاء ما يقارب مصائبنا مع أن ما نمر فيه فاق كل التوقعات🙏🙏🌷


  • عزيزتي الأخت فنار تحية طيبة وتقدير لمقالتك عن مئة عام من العزلة التي استشرف فيها ماركيز بواقعيته الصادمة للوعي الإنساني مستقبل الشعوب المقهورة واتساع الفجوة بين الدول الغنية والفقيرة .حينما قرأتها كنت أنسى في بعض فصولها أنه يتحدث عن بلاده فحسب بل يتحدث عن عالم المقهورين في كل العالم وهذا البعد الإنساني هو سبب شهرتها وإقبال الناس على قراءتها . لقد أجدت باختيارك لهذا الموضوع والعالم كله يعاني أزمات الأوبئة وتداعياتها الاجتماعية والإقتصادية , ولعله لو كان حيا لعبر روائيا عن زمن التفاهة الذي تناوله آلان دونو في كتابه زمن التفاهة دمت مبدعة عزيزة ومثابرة.


  • ربط موفق من الكاتبة بين رواية غابرييل ماركيز والواقع المزري الذي نعيسه نحن بحاجة الى معجزة الهية نتقذ هذا الكوكب.


  • تحياتي وتقديري . الاحداث المريرة المحدقة بنا أعادتني الى تلك الرواية التي لم اعد اشك انها من خيال المؤلف. انه استشراف للمستقبل الذي ينذر بالاخطار.اتمنى ان تحدث معجزة ربانية لانقاذنا . دمت بخير.


  • تحياتي لك استاذتي الغالية هدى.
    كما ذكرت ياغاليتي لقد توقع ماركيز هذا الكم من الاحداث بحدسه الانساني العالي وكأنه يكتب عن كل المقهورين.هذا القهر المتجذر والذي يبدو للاسف لا نهاية له في ظل عالم مخادع يدعي الرقي في الفكر والسلوك ويتوارى خلف شعارات زائفة تتدعي الانسانية وحقوقها. مستقبل الانسانية كله بخطر


  • عزيزتي وصديقتي الغالية نحن فعلا بحاجة الى معجزة الهية لتنقذنا لان الوضع كارثي ولا يحتمل. نسأل الله العفو والعافية.


  • برافووووو أحسنت الربط والتحليل ما بين القصة والواقع الذي نعيشه اليوم وكأن المناطق المتنازع عليها واقاليم الصراع كلها قرية ماكوندو ، تحدث ماركيز ان جميع الشعوب المقهورة ممثلة بأهل القرية .


  • أحسنتِ الربط بين واقعنا و أحداث الرواية و كأن الكاتب ماركيز قد توقع الاحداث التى يمر بها عالمنا اليوم من صراعات و مشاكل من خلال رواية خيالية. دائمة التألق والإبداع معلمتي الفاضلة إلى الأمام و نتطلع إلى المزيد


  • صحيح أننا نعيش العزلة بامتياز، رغم بهرج الحياة من حولنا، والتعليق عليها في الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي والذي يقول "بالعام زين" كما نعبر عن ذلك في المغرب، كعزلة قد تطيح بكل ارتباط انساني سليم، وإلا بماذا نفسر هذا الاحتكاك الخطير بالذات، الى درجة العزلة عنها، كما جاء في مقالة الكاتبة، والتي أنارت لنا بأسلوبها المتميز والمحبوك بصورة جيدة وبواقعية، أن العزلة القادمة ليست في صالح أي إنسان، وأنها ستكون في المستقبل أكبر وأظلم. والمطلوب هو أن ينتبه ذووا الفطر السليمة، من أجل الوقوف بحزم أمام ذووا الفطر المريضة، بغية ارجاع المياه الى مجاريها، وإلا ماذا ننتظر، كوارث طبيعية لا تبقي ولا تذر، وكأني هنا أتخيل أن ما جعل الكاتبة تبادر الى بلورة وصناعة هذا المقال، هو الواقع المر التي تعيشه ومثال هذه الفيضانات التي مست بعذاب بعض المجتمعات، التي ركبت رأسها في ظلم النفس والعباد، فالعقاب وارد وقريب وليس بالشيء البعيد، والذي يمكن أن ينال من كل البشر خيرين وسيئين على حد سواء، وهو ملمح أخذته من الفقرة السابعة من المقال.
    في ختام هذا التعليق على المقال الممتع بالصورة التي أبدع بها، والمنذر من ناحية ما جاء في محتواه كدرس وعبرة لمن يعتبر، أسأل ماذا عن الانفتاح؟ على ضوء ما جاء في المقال:" يشي عنوان الرواية بالعزلة القاسية التي عانت منها القرية وأهلها، حتى يبدأ الناس باكتشافها والقدوم للعيش فيها. ...، كان السكان يعيشون دون أن يدركوا حقيقة الأمر بطمأنينة وسعادة، وكانت القرية ملكهم، وفيما بعد أصبحت مطمعاً للغرباء أو الباحثين عن حياة جديدة كالغجر أو الطامعين كشركة الموز التي تتسبب بقتل ثلاثة ألاف شخص، والتي جلبت الحظ السيئ للقرية وقضت عليها".


  • أخي الكريم.أصبت وأحسنت في فهم ما أردت إيصاله للقارىء. يخطىء الانسان حين يعتقد ان كل شيء تحت سيطرته. كل شيء له نقيضه أو يحمل في داخله نقيضه. وماهذه الفيضانات والاعاصير الا انذارات للبشر لكي يعيدوا النظر في مايفعلونه. شكرا لتعليقك اخي المهدي من المغرب.


في العدد نفسه

كلمة العدد الفصلي 22: حرية المطالبة بمصادرة الحرية

كتابة الرائحة للدكتور رضا الأبيض

الماء أمان: عرض كتاب

ومضات البرق + منبر الريش

تعويض