عباس علي عبود - السودان
مرافئ السراب
فصل من رواية جديدة لم تنشر بعد
كانت الظلال تغمر البنايات العالية، على مهل تختزن الأشجار العتمة، وهدوء يلفُّ الحي الراقي في العاصمة المصرية. طارق عبد المجيد وقف طويلا أمام النافذة، ليشهد مساء أخيرا، في مدينة احتوته وأحبها، رغم أيامها القاسية، والمعاناة المريرة في الوصول إليها.
قبل أكثر من عامين غادر البلدة إلى الخرطوم، ثمَّ واصل الرحلة شمالا. وصل مدينة حلفا ليلا، وما أنْ نزل من القطار حتى ركض خلف الراكضين وعلى كتفه حقيبة سوداء صغيرة. لا يدري إلى أين، ولماذا يتراكضون في سباق محموم. تجمهروا أمام مكاتب البواخر النيلية الغارقة في الظلام. أشار بعضهم إلى ضرورة تسجيل الأسماء، لتسهيل صرف بطاقات الصعود إلى الباخرة بنظام وهدوء. وسط دربكة خانقة سجَّل اسمه ثمَّ تلفت حوله. بشر يفترشون الرمال حول المكاتب، بعضهم وصل بقطار الأسبوع الماضي، آخرون قدموا على ظهور الشاحنات. قبل الشروق وجد أمامه طابورا طويلا، سأل عن قائمة الأمس فقيل له إنَّها لا تفيد. حدَّثه أحدهم بأنَّه هنا منذ عشرة أيام يلهثُ خلف بطاقة الصعود، وتأشيرة الخروج ستنتهي صلاحيتها بعد أيام، ولا بدَّ له من الحصول على البطاقة هذه المرة. وقيل إنَّ الباخرة ستقلع بعد غد، وهي مرة واحدة في الأسبوع، لأنَّ الباخرة الثانية منتظرة في ميناء أسوان للصيانة.
مضتْ الدقائق ثقيلة، ثمَّ اشتعل لهيب شمس مايو، لا ظلّ ولا شجر، رمال عارية. قال أحدهم:
"أخذوا منا نقودا كثيرة مع قيمة التذكرة، لتعمير حلفا. أين الماء؟"
حين دبَّ اليأس إلى النفوس توافد موظفو المكتب. تابعتهم العيون؛ انحسر التوتر وارتفعتْ موجات الترقب. وحين فُتِحَتْ نافذة البطاقات ساد الهرج، اندفعوا إلى النافذة، تسلقوا السياج الحديدي، اشتبكتْ الأيادي، وجوازات السفر، والتذاكر. وسط الفوضى، والصياح، والتدافع، أُغْلِقَتْ النافذة، وقيل لهم:
"نفدت البطاقات."
"وما العمل؟"
"اذهبوا إلى وكالات السفر."
تراكضوا. نساء يجرجرن أطفالهن، رجال، شباب يتضاحكون ويتبادلون السيجار والنكات. ثمَّ عادوا خائبين. تحلَّقوا حول بائعات القهوة والشاي، الجالسات على بنابر تحت ظلال الحيطان. طارق عبد المجيد رشف ثلاث جرعات من فنجان القهوة، ثمَّ أشعل سيجارة. حدَّثه جاره وعلى وجهه ابتسامة النصر وقال:
"البطاقات داخل المكتب، وعليك أنْ تدفع المعلوم."
سأل طارق عبد المجيد إذا كانت العملية تتم مباشرة أم عن طريق وسيط، طالبه الجار بالحذر فالوسطاء كثر، وعيون الأمن كذلك.
تحت لهيب الشمس تحوم أقدام المنتظرين، وحول النافذة المغلقة يترقبون، يحكون أشجانهم، يتعارفون، يتبادلون العناوين. وسط الحيرة، والقلق، نفذ عطر مثير، عروس تخطو إلى المكتب مخضبة الكفين والقدمين. ثوبها مطرز بورود حمراء، انحسر عن شعرها الكثيف المسدل. اشرأبتْ الأعناق، وصُوِّبتْ النظرات والأفكار في اتجاه واحد. انقطعت العروس داخل المكتب، اقترب البعيدون وتوافد آخرون. بعد انتظار قصير أطلَّتْ عليهم العروس تحمل جوازي سفر، وعلى شفتيها النديتين ابتسامة ساحرة.
مروح طارق عبد المجيد، اشترى سيجارة، أشعلها وشاركهم الحوار والأسئلة:
"هل دفعت لهم نقودا؟ أم بهرهم جمالها؟ لقد كانت وحيدة ولا وسيط معها. لا بدَّ أنَّهم وثقوا فيها لأنَّها عروس تنضح بالعطر والجمال."
عند الأصيل والنافذة مغلقة يحوِّم حولها المنتظرون، عَبَرَ أمامهم ثلاثة من رجال الشرطة، وسطهم عريس مخضب الكفين والقدمين. مساء تسامروا على الساحة الرملية أمام المكتب. موظفون، رعاة، أمهات، مدرسون، مزارعون، تجار، وطلاب يلوكون حكاية العروس الجميلة، والعريس المحتال، الذي خدع عمه، واستولى على جلِّ ماله، ثمَّ تزوج ابنته، وكان هاربا من البلاد عن طريق النهر.
في وادي حلفا تلملموا من أصقاع مختلفة، من المدن والقرى والبوادي. الكلُّ في انتظار الباخرة لتحملهم إلى مصر كمحطة للانطلاق إلى بلاد الفرنجة، والسفنجة، والواق الواق. الكلُّ على استعداد للرحيل إلى أيِّ مكان، رغبة محمومة للسفر هربا من حريق ماحق ضرب جميع أقطار الوطن. كأنَّ رحيلهم هو خيط نجاتهم الوحيد من ضياع محتوم.
صباحا انطلقت سيارات اللاندروفر إلى الميناء النهري. أرض صخرية، قضبان حديدية منصوبة على قواعد إسمنتية لتشييد صالة للمغادرة والوصول. سأله موظف الجمارك: "هل تحمل ذهبا." ابتسم طارق عبد المجيد وأجاب بالنفي.
أطلقتْ الباخرة صافـرتها، رويدا غادرتْ الميناء. تلال صخرية على ضفة البحيرة العظيمة، كيف شقَّ النهر مجراه للمرة الأولى؟ بعض المسافرين على السطح افترشوا البطاطين، يلعبون الورق، يأكلون الخبز والسمك المقلي.
في أسوان تجول مع بعض رفاق السفر على شاطئ النيل. الأشجارُ باسقة ومياه النهر صافية. كانت البواخر السياحية راسية، بينما رجال الفرنجة ونساؤهم، يحملون آلات التصوير، يبحثون بين ثنايا التاريخ عن معنى، ربما، أو عن احتمال. كانت محطة قطارات أسوان مطوقة برجال الشرطة، على السطوح عدد منهم في أردية سوداء وخوذات واقية من الرصاص. وصلت سيارة السجن ونزل منها شابان ملتحيان قُيِّد معصم كلّ منهما إلى معصم شرطي.
طارق عبد المجيد وصل القاهرة ومعه حفنة من الدولارات الأمريكية. شدَّته المدينة بحركتها التجارية النشطة، يتطلع إلى الواجهات الزجاجية، يقلِّب الكتب على الأرصفة، يطالع الصحف والمجلات، يلاحقه السؤال: ما العمل؟
كان فجرهُ غامضا
وزوارقُ نجاة تبحرُ في محضِ سرابْ
وهو عار تماما
إلا من شهيق عبثي
تسكع في مدينة التاريخِ
والساندويتشاتْ
في الصحراءِ المستباحةِ للشمس
حيثُ تشمخُ هندسةُ الأحجارِ العظيمة
وأبو الهول يحرسُ ذاكرةَ الإنسانْ
وانفلتَ جمرُ اللحظات
اندحرتْ أحلامُهُ
الأيامُ تخبو
ثمة عواصف
أصداءُ رحيل
وأمنياتْ
تجول في أزقة المدينة وحواريها. رآهم، سمع عنهم، أبناء بلاده في قاهرة المعز، يبيعون المساويك، وأعشاب القدرة الجنسية، و... رآهم متأهبين للرحيل إلى أقاصي العالم. في بعض المقاهي كانوا يجتمعون، يشربون الشاي، يقتسمون السجائر، والكتب، والسندوتشات. يتناقشون، يختلفون، يتفقون. طلاب قدامى، صحفيون، شعراء، صعاليك. شباب، شيوخ، فتيات. يلفهم جميعا قدر إغريقي بلا فكاك.
عمل لعدة أشهر في مصنع للورق بمدينة صناعية جديدة. ذات صباح بدأ عمله جالسا خلف المقص، في انتظار وصول أولى دفعات الورق بعد مرورها عبر المجفف. كان ساهما يفكر في زميلهم الذي ودَّعوه قبل شهور بعد حصوله على تأشيرة للعمرة، آملا أنْ يجد هناك فرصة عمل أفضل. اعتقلته السلطات السعودية وأعادوه إلى الوطن، مكث فيه قليلا ثمَّ عاد مرة أخرى إلى مصر. بعد دقائق من بداية العمل استدعاه رئيس الوردية وطلب منه تبديل ملابسه لأنَّه طُرِدَ من العمل. وقال له: "لأنَّك ظللت جالسا حينما عبر مدير المصنع بجانبك."
بدَّل ثيابه وانتظر حتى يأخذ أجره. سأله المحاسب عن الخطأ الذي ارتكبه فأجاب:
"عندما مرَّ المدير لم أره، ولكن حتى لو رأيته فلماذا أقف؟ إنَّ عملي يتطلب الانتظار لدقائق حتى تبدأ أولى دفعات الورق في الوصول، بعد تجفيفها."
حين عاد إلى القاهرة، استأجر مع زميل جامعي حجرة في الطابق الخامس. كانت الشقة تتكون من أربع حجرات، يستأجرها طالب من جيبوتي، وسوداني، وأستاذ إثيوبي. وعادت عجلة الفاقة إلى الدوران، استيقظ ذلك الصباح على أمل ما، مرَّتْ أيام وغذاؤهما الخبز والماء. يوم أمس انقضى بدون طعام، بعد منتصف الليل عاد الزميل حاملا قليلا من الفول السوداني المقلي، في كلمات قليلة قشرا الفول والتهماه؛ ازداد جوعهما، تبادلا نظرات حائرة. مرَّ الوقت ثقيلا كئيبا. نهض طارق عبد المجيد كأنَّما استدعاه هاتف، نزل الدرج إلى الطابق الأرضي، ثمَّ دلف إلى سوق الخضار. كان الوقت قبيل الفجر، ناوشت أمعاءه رائحة الخبز الساخن، وقال في نفسه: أليس من الحكمة العودة إلى الوطن؟ طرد الخاطر بسرعة قبل الاسترسال في التفاصيل.
كان الفرن خاليا من الزبائن في هذا الوقت من الليل. كانت النيران تتوهج داخل قبة الفرن، وأمامها الفران يتبادل الحديث مع زميله الجالس إلى طاولة الخبز الطازج. وقف أمام العامل وقال كلمة واحدة: "رغيف." التقط الرَّغيف وخرج. في الطريق ألتهم نصفه ثمَّ عاد للتساؤل عن ضرورة العودة إلى الوطن. يقولون إنَّ تجار الشنطة بين أسوان وحلفا، يدفعون ثمن التذكرة للراغبين في العودة، ويعطونهم قليلا من النقود مقابل حمل البضائع حتى لا يدفعوا عليها جمارك في ميناء حلفا النهري. عاد بنصف الرغيف إلى الزميل الذي استقبله متسائلا عن مصدر الخبز، أجاب طارق ببرود: "رغيف من الفرن." ثمَّ حملق طويلا إلى السقف يراوده الأمل في خلاص ما.
في الصباح استيقظ على صوت فرقعة، كان الزميل قد وضع طستا من النحاس على البلاط، سأل طارق عن مصدره، أجابه الزميل: "إنَّه من المخزن." ثمَّ طلب منه النزول لاستدعاء تاجر الروبابيكا. بعد دقائق من التفكير والتردّد هبط طارق الدرج. أسفل البناية كانت الحياة صاخبة، أبواق السيارات ونداء الباعة. وقف متسائلا عن مشروعية بيع أشياء الآخرين، وعن حجم الخطأ، أم إنَّها الضرورة. قلَّب التاجر الطست؛ قرقع على البلاط طلبا منه الهدوء لأنَّ جيرانهم في الحجرات الأخرى نيام. ماطلهم التاجر بمكر، قرقع الطست مرة أخرى، وكأنَّهم سمعوا وقع خطوات في طريقها إلى الحمام: "مَنْ يكون؟" حام حولهما السؤال. التاجر اغتنم الفرصة قائلا: "مشي حالك يا ابن النيل." وحين لاحظ تردّدهما، مدَّ إليهما النقود التي قرر أنْ يشتري بها وقال: "ما تخلص يا عمي."
طارق عبد المجيد قال لزميله: "عيني ترف؛ سأقابل أحد معارفي هكذا يقولون. وربما هو السهر والجوع وأشواق الخلاص." وحين سُئِلَ: "هل قابلت أحد معارفك بعد رفيف عينك؟" أجاب بالنفي. تملكه إحساس غامض بأنَّ عينه لا تكذب. ليلا أخذ يقلِّب الاحتمالات وقال في نفسه: ترى مَنْ سأقابل؟ زميل من الجامعة أم من زملاء التدريس؟ وكيف سيتم اللقاء، مصادفة أم عبر وسيط؟ وهل ستتغير الظروف؟
قبل أيام قابل مع زميله فتاة سودانية قادمة من أوروبا، درستْ معهما في كلية العلوم ثمَّ هاجرتْ بعد ذلك. دعتهم ثلاث مرات لعشاء فاخر ثمَّ طارت إلى الوطن فعادوا إلى الفاقة والجوع. صاحب الشقة يطالب بحقه وهما يراوغان. مضت الأيام والخبز هدف استراتيجي، وتكتيكي. صاحب الشقة طال غيابه للمطالبة بالإيجار والمغادرة. كان آخر مرة قد أمهلهما ثلاثة أيام لدفع المتأخرات والمغادرة. طارق فاجأ الزميل بقوله:
"كفي اليمنى توشوشني، إنَّها علامة استلام النقود."
قال الزميل مستسلما: "حسنا استلم النقود؛ أدفع الإيجار واشترِ الشاي والسكر والسجاير، ومجلة جديدة."
قيل له إنَّ العمل في سيناء ممكن، ولكن من أين يمكن الحصول على ثمن تذكرة السفر؟ عند عودته إلى السكن قبل منتصف الليل كان في انتظاره الزميل، في كلمات قليلة نقل إليه أوامر صاحب الشقة: "يجب إخلاء الشقة صباح الغد."
عصر اليوم التالي غادرا الشقة بعدما وضعا أمتعتهما عند البواب. الزميل ذهب إلى مصر الجديدة بحثا عن معارف. طارق عبد المجيد جاب الطرقات بحثا عن خلاص. قلق يطوِّحُ بوجدانه وخطواته تضرب بغير هدى وسط مدينة تعجُّ بالحياة، والصراع. قبل حلول الظلام توقف أمام صبي يعرض الأحذية الرجالية. على الفور بدأ البائع الصغير في عرض مختلف الأشكال في محاولة لإقناعه بالشراء. سأله طارق عبد المجيد عن العمل وهموم الحياة، أشار الصبي قائلا إنَّهم يقطنون بناية قديمة هجرها أصحابها خوفا من سقوطها، وهي الآن مكتظة بالأسر. وقال له: نسكن هنالك لأنَّه لا أحد يطالبنا بالإيجار. وعندما حدَّثه عن إمكانية السكن في مكان آخر إذا ازدهرت التجارة الصغيرة، أجاب الصبي: الأمر بيد الله.
انصرف طارق عبد المجيد مشوش الذهن والوجدان، عاجزا عن تصور أفق ليقين ما. دحرج خطواته قاصدا المقهى المعتاد وبصدره يهسهس الدعاء: دع الأمر لله. أحلامه وأمانيه تركض وسط غيوم المدى، المفتوح على إرهاص التوقع، وظلال الشك وسط أراجيح النفس. ثمَّة ومضات من الأمل تحاول الانفلات من عتمة الروح، في خضم البحث عن استراحة قصيرة، ريثما تنجلي دربكة المعاني المتواترة إلى ذهن مكدود.
في المقهى عَلِمَ بحفل يقيمه السودانيون هذه الليلة، فانطلق على الفور إلى مسرح الجامعة الأمريكية حيث احتشد عدد كبير. بدأتْ الحفل مغنية إثيوبية، صدحتْ بالغناء ورقصتْ فتجاوب معها الحضور؛ حملهم صوتها إلى مدارات الحنين والأشواق النازفة. وسط الجمهور تمايل طربا؛ فالمغنية جميلة وأداؤها رائع. وكأنَّ الأرض انشقتْ وقُذِفَ به إلى ذروة الدهشة، حين لمح ندى الحاج سعيد. بعد الحفل ركب معها تاكسي إلى المعادي. في الطريق عاتبته لأنَّه لم يكتب لها، ولم يخابرها تلفونيا. وقالت له:
"تحصلتُ على تلفون القاهرة من أمك، وفور وصولي هاتفت صاحبه الذي أخبرني بأنَّه لم يقابلك منذ فترة، ولكنك ربما تكون هذا المساء في الجامعة الأمريكية."
في المعادي قالت له:
"هذه شقتي، وأملك واحدة أخرى في الزمالك."
في اليوم التالي تجوَّل معها على كورنيش النيل. كان العشاق على المقاعد الإسمنتية يتهامسون، يزرعون آمالهم في مياه النهر. القواربُ الشراعيةُ مدهونة بألوان متعددة، تسير هادئة على السطح الساكن.
بعد أسبوع طارت ندى الحاج سعيد إلى الخرطوم، وحين عاد إلى المعادي نشب بدماغه سؤال جهنمي بلا إجابة، ولا احتمال. كلُّ صباح يشعر بأنَّه عار تماما، مهزوم الذاكرة، جريح الخاطر والوجدان. في المرة الثانية وصلتْ ندى الحاج سعيد من ماليزيا، لازمته لأكثر من شهر تحاول أنْ تبعث الحيوية في روحه الهامدة. حاولتْ سلاح الجسد، والحنان، لكنه ظلَّ خامد الوجدان كشجرة اجتاحها طوفان مدمر.
ظلَّ هائما في صحاري الأسئلة الحارقة، واليأس العميق، متسائلا عن مشروعية علاقته معها. اقترحت عليه السفر لإكمال دراسته العليا في ماليزيا، وقالت له العمر يمضي والصلع بدأ ينهش مقدمة رأسك. وقالت له طلاقي من بخيت المغربي حتمي؛ عليَّ التنازل عن بعض أملاكي، ولكن لا يهم. ابتسم خائر الروح، منصاعا لموجات متلاحقة من الغثيان. بعد ليلة كابد فيها التردّد بين البقاء والفرار، نام بين اليأس والأمل. بدأتْ أحلامه غامضة:
ريح تهدر في البعيد، ظهرتْ الجميزات عارية من الأوراق تعصف الريح بأغصانها العاتية. وقف شاحبا، ضامر الوجه. تقدم خطوتين إلى الرصيف ليتبين ما حوله، التفت إلى الوراء ثمَّ عاد يتطلع إلى النهر الجاف. انحنت رقبته وحوله أشباح سوداء يتطاير الشرر من عيونها، صاح: "الطوفان، الطوفان." ركض تطارده خطوات مرعبة. كانت أطلالُ البيوتِ خاوية، وأشجار النيم حول المسجد تهشمتْ أغصانها اليابسة، يتمايل جذع الدومة، وحوله الوطاويط الضخمة تدور وتطلق صرخات جارحة. ركض أسرع تطارده الخطوات والصرخات. توقف أمام الدار لاهثا، لا أحد في البلدة. الريح تزأر، تزمجر الرعود، والسحب السوداء تسدُّ الآفاق. تنفس مرتعدا ونظراته ترنو إلى البعيد. أبصر مريم بدر الدين تنهض من تحت النخلة، تقدَّم فغاصت قدماه في الرمال. ظلَّت الأشباح ترقص، والمطر ينهمر، وذراعا مريم بدر الدين مشرعتان في نداء أخير.
◄ عباس علي عبود
▼ موضوعاتي