عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

نادية أبو زاهر - فلسطين

جحود ووفاء، بشر وكلاب


عندما يدخل الإنسان ميدان الصحافة تعليما أو ممارسة يواجهه عاجلا لا آجلا سؤال: "ما هو الخبر؟" والجواب الشائع هو: لكي يكون الخبر خبرا يستحق النشر، يحتاج إلى ما هو أكثر من مجرد معلومة، ولذا يقال في معرض التمييز بين الخبر واللاخبر إنه إذا عض كلب شخصا، فليس في ذلك خبر، أما إذا عض شخص كلبا ففي الأمر خبر.

سمعت خبر هجوم كلب على امرأة في إحدى القرى، تدعى الحاجة صبرية، وتبلغ من العمر سبعين عاما. وقد توفيت الحاجة صبرية بعد أسبوع من الحادث. لو طبقت تعريف ما هو الخبر كما لخصته أعلاه، فليس خبرا أن كلبا عض امرأة ثم توفيت، ولكن الحادث أثار فضولي كباحثة وصحفية، فأردت معرفة حقيقة ما جرى. ولأن الحاجة صبرية توفيت، احتجت للبحث عن حقيقة ما جرى من مصادر أخرى.

علمت بوجود أخت للحاجة صبرية، تدعى زهر، وتبلغ من العمر اثنين وسبعين عاما، لذلك كانت الخيار الأمثل لتسرد لي تفاصيل ما حدث.

ذهبت للبحث عنها وقيل لي إنها توجهت للمقبرة، فعلى ما يبدو أن زهر اعتادت أن تذهب إلى المقبرة لزيارة قبر أختها، ولم تتخل عن هذه العادة رغم مرور أكثر من عام ونصف عام على وفاة أختها.

لم يكن أمامي مفر سوى الذهاب إلى المقبرة كي ألتقي زهر. المقبرة، وكما يوحي اسمها، مكان يبعث على الخوف لأن الإنسان يخطر بباله على الفور أن مصيره سينتهي إليها.

توجهت إلى المقبرة بخطى متثاقلة. كانت المقبرة خالية، لا يوجد بها سوى زهر وامرأة أخرى. كانتا تجلسان بقرب قبر صبرية، تراقباني من بعيد بشوق لمعرفة من يريد زيارة المقبرة.

اقتربت منهما شيئا فشيئا حتى وصلت أخيرا إليهما، وبعد أن تم التعارف دعتني زهر لدخول المقبرة والجلوس بقربها، وأفسحت لي مكانا للجلوس.

وفي الحقيقة تملكني شعور غريب جدا، تـخلله شعور بالخوف، فلم يسبق لي أن توجهت إلى مقبرة من قبل، ولم يسبق أن جلست بقرب قبر. بالطبع لم أشعرها للحظة بخوفي، وحاولت التغلب على هذا الشعور، وربما ساعدني على ذلك الطريقة التي سردت لي بها زهر حكايتها وحكاية أختها بطريقتها العفوية.

أخذتني بتفاصيل حكايتها وحكاية أختها، وسرحت بذاكرتها بعيدا. كانت زهر وصبرية تعيشان مع شقيقيهما ووالديهما مثل أي عائلة هادئة تحلم بالسعادة والأمن، لكن تعاقبت على هذه العائلة ظروف قاسية، فتوفي والداهما وهما صغيرتان، وبعد فترة أصيب أحد شقيقيهما بمرض وتوفي على أثره. ومن فرط حزن شقيقهما الآخر على شقيقه توفي هو الآخر وترك وراءه زوجته وابنين وابنة، وشقيقتيه، صبرية وزهر، اللتين لم تتزوجا، وآثرتا تربية أبناء شقيقهما على الزواج.

صبرية وزهر عاشتا حياة قاسية جدا. شهدتا نكسة 1967 واحتلال إسرائيل للضفة الغربية، وكانتا من ضمن النازحين إلى الأردن. قالت زهر:

"خوفنا كان على أولاد أخونا. خفنا عليهم، وما خفنا على حالنا. كنا نحيطهم بأيدينا علشان نحميهم من الرصاص."

وبعد أن استقرت الحال عادت صبرية وزهر مع أبناء أخيها إلى بيتهم، لتبدأ رحلة أخرى من المصاعب، فكان عليهما أن تعيلا أبناء أخيهما. عملت صبرية وزهر بجد واعتمدتا على نفسيهما، فقد عملتا بالأرض بالأجرة عند الناس، ثم شيئا فشيئا بعد أن جمعتا قليلا من المال، اشترتا بعضا من المواشي واستطاعتا أن تعيشا من وراء تربية المواشي عيشة لم تضطرهما لطلب المساعدة من أحد.

لم تكن بالتأكيد الحياة التي عاشتها الأختان سهلة، فلقد تكبدتا الكثير من الصعاب، وتعبتا وتحملتا كل شيء من أجل أن تعلّما أبناء أخيهما، وأن توفرا لهم أفضل الثياب والطعام، حتى الماء لم يكن من السهل الوصول إليه، فقد كان عليهما أن تمشيا مسافة طويلة لجلبه.

صمتت زهر قليلا، ثم أشارت إلى قبر أختها صبرية الذي كانت تجلس بقربه، ولم تستطع أن تمنع دموعها التي تساقطت كحبات المطر على تجاعيد وجهها التي حفرها الزمن:

قالت: "بجوز هي بتسمعني هسا. والله إنها كانت تستناهم على باب السينما والمراجيح، وعمرنا ما حسسناهم إنه أبوهم مات أو نقصنا عليهم إشي."

لكن كل هذا التعب كان يزول عندما ترتسم الفرحة على وجوه أبناء أخيهما، وتزداد الفرحة وهما تراقباهم يكبرون شيئا فشيئا، ويحققون نجاحا بعد آخر، فلقد بعثتا بهم إلى الأردن ليكملوا تعليمهم. قالت زهر:

"وحق من جمعنا من غير ميعاد كنا نبعتلهم على الأردن حبة التفاح، واللحمة اللي بتوصلنا ونحرم حالنا منها."

بعد أن كبر أبناء أخيهما وتزوجوا وأنجبوا، لم يعد أي منهم يذكر عمتيه اللتين ضحتا بكل شيء من أجلهم وتنكروا لهما.

داهمنا الغروب بسرعة، وحان الوقت كي نغادر، لكن كان علي معرفة باقي القصة، لذلك دعتني لزيارة بيتها.

في اليوم التالي توجهت إلى بيتها، وقطعت مسافة كبيرة للوصول إلى هناك، واستغربت كيف يمكن لعجوز في الثانية والسبعين من عمرها أن تقطع هذه المسافة كل يوم مرتين ذهابا وإيابا.

كانت زهر تنتظرني قرب بيت ابن أخيها. والحقيقة أنه لم يكن أي بيت، فهو أشبه بالقصر بجماله وضخامته، وكان يختبئ وراءه غرفة صغيرة، وهذه الغرفة الصغيرة القديمة بيت زهر وصبرية.

تجولت عيناي في أرجاء الغرفة القديمة، وكم كان المكان يبعث على الراحة! فهناك النملية التي ذكرتني بزمن قد انقضى. الغرفة على صغرها كانت مرتبة ونظيفة.

كان التساؤل الملح: كيف استطاعتا أن تدبرا أمرهما بعد أن تنكر أبناء أخيهما لهما؟

قالت زهر: "أولاد الحلال كتار، وربنا إذا قطع من ناحية بوصل من ناحية تانية."

وفهمت أن وزارة الشؤون الاجتماعية تدفع لهما مبلغا شهريا، حوالي مئة وخمسين شيكلا إسرائيليا (حولي خمسة وثلاثين دولارا). لكن هذا المبلغ لا يمكن أن يكفيهما، لا سيما أنهما كبيرتان في السن، ويلزمهما العديد من الأدوية.

قالت زهر: "بلزمني دواء كل سبعة أيام، ثمنه 60 شيكل، وما بقدر أعيش من دونه."

حتى الأرض التي ورثتاها سجلتاها باسم أبناء أخيهما، لكنهما بالنهاية تدبرتا أمرهما وعاشتا حياة زهد وكفاف.

ثم ما لبثت أن استعادت ذكريات أليمة من أحد أبناء أخيها. قالت زهر:

"شو بدنا نتذكر منهم غير الأسى، والله مرة ضربني ابن أخوي أنا وأختي، وكسر أيدي علشان كنا بدنا نعبي مي من عندهم."

تنهدت زهر قليلا وتابعت بحرقة:

"لما رجع ابن اخوي التاني من السفر والله سلم علي بالطريق وما أجا عندي."

زهر كانت تعتني بأختها صبرية، وتقوم بأعمال منزلية بسيطة لأن صبرية لم تكن تستطيع المشي. وبقيت الاثنتان تعيشان وحدهما دون أن تجدا من يؤنس هذه الوحدة، أو يسأل عليهما.

أخذتني زهرية من يدي خارج الغرفة وأرتني المكان الذي هاجم فيه الكلب أختها صبرية. قالت زهر:

"كنت أنا بجلي، وصبرية كانت تحت الشجرة، وما سمعت إلا وصوتها بتصرخ. طلعت بسرعة، إلا وهالكلب لونه أحمر كبير هجم على صبرية وعضها من حاجبها. أنا نهرت عليه وراح."

سالت على الفور دموعها، وأخذت تبكي طويلا. حاولت تهدئتها، إلا أنني عجزت عن ذلك لأن حزنها كبير وألمها أكبر. وتابعت وهي تبكي:

"ناديت على الجيران ووديتها للمستشفى."

صبرية بعد أن هاجمها الكلب مكثت في المستشفى أسبوعا كاملا، وبعد أسبوع أخرجها الأطباء من المستشفى لأنه لم يعد هناك أمل في شفائها.

اليوم الذي خرجت فيه من المستشفى لم يكن في البيت ما تأكله صبرية، مما اضطر زهر أن تطلب من الجيران بعضا من الطعام، وهي المرة الوحيدة التي فعلت ذلك.

قالت زهر: "ما كان فيه إشي أطعمها إياه، وهي كانت خارجة من المستشفى وبدها أكل، اضطريت أجبلها من الجيران."

صبرية كانت بحالات النزاع، ولم يكن هناك أي أمل في نجاتها، فطلبت أن تسمع صوت أبناء أخيها ولو عبر الهاتف، إلا أن هذه الأمنية البسيطة لم تتحقق لها، لأن زوجة ابن أخيها رفضت ذلك.

وفي الليلة الأخيرة من حياة صبرية كانت زهر وحيدة هي وأختها، تراقبها وهي تفارق الحياة، فلقد كانت من أسوأ الليالي التي مرت عليها. قالت زهر وهي تبكي بحرقة:

"طول هذيك الليلة ما غمض لي جفن، صبرية ماتت بحضني وما كان ولا مخلوق عندي، وأنا كنت خايفة كتير، ولما ماتت قلت لها بصوت عالي: وين تروحي وتتركني لحالي؟"

الأخت الوحيدة التي عاشت معها حياتها تركتها لتعيش بمفردها، لكن صبرية أوصت قبل وفاتها بأن يتم دفنها بالمقبرة بعيدا عن البيت. وعندما سألت زهر عن سبب رغبة شقيقتها أجابت:

"كانت تقول لي ما تدفنيني بجنب البيت علشان ما تضلي تنوحي وتبكي علي عند قبري. لما بكون بعيده أحسن. هي بتفكر إني ما بروح لقبرها لو كان بعيد."

بعد وفاة صبرية أصبحت زهر تخاف من النوم وحدها بالبيت، لذلك هي تنام عند خالها فقط بالليل، وبالنهار تعود إلى بيتها، والمسافة التي تقطعها يوميا من بيت خالها لبيتها كبيرة جدا. وبصر زهر أصبح ضعيفا جدا من كثرة بكائها على أختها، وهي تعتمد على الصوت عندما تريد قطع الشارع.

زهر متعلقة جدا بأختها، ولن تستطيع أن تنساها، وهي تذهب باستمرار إلى قبرها. تجلس بجانب القبر ساعات عدة، تسرح بذاكرتها بعيدا، وتبكي طويلا لأنها متألمة لما حل بها. ولن تستطيع أن تنسى الألم الذي تسبب به أبناء أخيها لها ولأختها، وهي اليوم تعد الأيام لتلحق بأختها، فلم يعد لها أي أمل تعيش من أجله.

عضة كلب لإنسان لم تكن العضة المؤلمة، بل كانت عضة إنسان لآخر: عضة أبناء أخ صبرية وزهر، الذين تنكروا لهما رغم كل ما فعلتاه لأجلهم. وعضة المجتمع الذي لا يرحم المرأة، ويعتبر تضحيتها واجبا. وإذا لم تعد المرأة قادرة على التضحية، يهملها المجتمع، ويمحوها من ذاكرته، حتى أقرب المقربين، كما حدث مع صبرية من قبل، وما يتكرر اليوم مع زهر، وغيرهما كثيرات.

D 1 تموز (يوليو) 2007     A نادية أبو زاهر     C 0 تعليقات