عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

ياسمينة صالح - الجزائر

لـم نـكن شـيـئـا


لم نكن يتيمين مثلما نحن اليوم. فقدنا أمنا الوطن وفقدنا والدنا العدل، وانتهينا إلى هذا الملجأ الشاسع كالبلاد. هل كان علينا أن نصدق أم للمسافة صوت يشبه خطانا لنمشي مثلما مشينا أول مرة نحو النهاية بهذا الزهو المتوج بالهباء؟

***

لم نكن حزينين مثلما نحن اليوم. كان للدهشة صدى الأصوات القديمة التي أسميناها أغنيات لنغطي بها فراغات اليأس/الضمير، وما يتبقى من خيبة كنا ندسها في ثقب الكلام اليومي الذي ـ عبره ـ نسأل عن حال بعضنا، لنتلمس جسد الحياة فيه، ونتمنى له يوما آخر أقل بأسا مما مضى.

***

لم نكن فارغين مثلما نحن اليوم. صرنا ظرفاء منذ وعد الحاكم البؤساء بالجنة. لم نصدق، لكننا اكتشفنا أننا نمشي في درب الفقر بيقين مدهش. نجوع ونبرد في شتاءات العزلة الممزوجة فينا كظل يحتمي الآخر منه ليكتشف السعادة التي تبني بيوتهم من قش ومن تين قابل للاشتعال. بينما نحن لم يكن لدينا ما نخاف عليه. لم يكن لدينا ما نبكي عليه. لم يكن لدينا ما ندافع عنه منذ تجردنا من آخر الأخبار الجميلة، ومنذ تحولت الفصول إلى سيّان نستقبله لأجل أن نستقبل ما فيه من ذكريات هرّبها الموتى في حقائبهم الجلدية العتيقة ودسوها في مسامات جلدنا المغطى بأمراض العصر. هل ثمة سعادة أوضح من سعادة اليتامى قبالة موت يشتهي الناس عنوة؟ قبل اليوم كنا نظن أن الوطن كبير كخارطة نرسم حجمها ملء الخيال. كنا نصدق أن القنبلة التي تنفجر في الكلمات لن تقتل غير همزة الوصل بين الفعل والفاعل.

كنا نصدق أن العداوة لا تخرج عن كتاب "الصراع الخفي" الذي ألفه مجموعة من المهوسين بالضغينة. كنا نصدق أننا عشاق إلى الأبد لمجرد أننا نكتب وأننا نصنع لأجل غيرنا عالما من ألون قزح لا تطاله طائرة الفانتوم الأميركية الصنع ولا يبلغه صاروخ الغزاة. كنا نظن أن العدو هو الذي يأتي من هناك، من وراء البحر متأبطا خارطة حضاراتنا القديمة، كما قرأنا في كتب التاريخ التي كذبت علينا مرتين: مرة عندنا أوهمتنا أن الحقيقة لا تـُضيّع الحق، وعندما أخفت علينا ملامح العدو الذي ينمو بيننا حاملا سيفه المبجل، ووعد بالقصاص الذي يفرّخ انتحاريا بيننا يوما بعد يوم، بقنابل البشر الذين يكرهوننا لأننا لا نعرف الحقد، ولأننا نعرف الله جميلا، ونغازل الطيور التي تشبه الريح في طلتها ونحب الينابيع التي تتسرب كالدهشة من بين أناملنا. يكرهوننا لأننا لا نقتل أحدا، ولا نتورط في جريمة الـ "مصير" الذي حولنا من بشر إلى بقر.

***

لم نكن أشد عتمة مما نحن الآن. كلما عبرنا شارعا نتحسس جسمنا المسيج بالأسئلة. هل سنموت في تفجير إرهابي ينفذه شخص لا يعرف أسماء من يقتلهم ولا آخر ما حلموا به؟ لا يعرف تاريخ ميلادهم ولا آخر ما اشتهوه قبل الموت؟ أم سنموت بنزلة برد مفاجئة، كما يموت الملوك في أسرتهم التي تكره رائحة المرض في سلوكهم العصبي وصراخهم المستمر في الممرضة التي لا تعرف كيف تواسي مريضا مترفا، سوى بأغنية الحياة المستحيلة التي تودعه بها كلما غفا قليلا؟

***

هـا الوطن يضيق بنا. نتربع على كرسي اليأس اليومي ونحكي عن الغد في تفاصيل الفجيعة التي خلفت عشرات القتلى أمس. وعشرات القتلى اليوم. وعشرات القتلى عما قليل حين ينهض القاتل من غفوته ليستعيد دوره الجديد في تفجير يرفعه إلى صدر الصحف " انتحاريا" استثنائي. كل قاتل استثنائي في جريمته. وكل ضحية استثنائية في طريقة موتها المختلف عن سابقه. الذين يموتون يظلون يموتون بنفس الطريقة التي يرتكبها نفس الجاني في فيلم يتكرر عرضه بنفس السرعة البطيئة، المملة.

***

لم نكن "لا شيء" مثلما نحن اليوم. نتباهى بكل اللغة التي تشتهي قتلنا اليوم لأننا عجزنا عن الحياة فيها، مثلما عجزنا عن الموت خارجها. مثلما عجزنا عن الاعتراف بأننا نجتمع في نفس خاصية الوطن الذي يظل إلى الأبد "قيد الإنشاء."

D 1 تشرين الأول (أكتوبر) 2007     A ياسمينة صالح     C 0 تعليقات