عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

ربا الناصر - الأردن

بائع شعر البنات


قد يشار إلى أبطال القصص بأسماء يخاطبون بها عند سرد أحداثهم إلا أن صاحب هذه القصة اتخذ صفة الغائب فلا يهم معرفة اسمه قدر معرفة أحداث حياته، لتبقى هي الحاضرة والباقية.

.

ربا الناصرأراح جسده النحيل على أكوام القش المفروشة على أرضية هذا المخزن المهجور، ملقيا إلى جانبه نايا خشبيا وعود الخيزران الذي تتدلى منه أكياس شعر البنات المتباينة في لونها بين اللون الأبيض والزهري.

نظر إلى سقف المخزن مطولا قبل أن يفكر للحظات في يوميات حياته التي يعدها بائسة، فأفكاره البائسة كانت تجول في مخيلته كأشواك يابسة تغص من سعادته وتعكر صفو تفكيره، فهو مجرد بائع متجول، حفظت الأرصفة المتسخة صوت وقع أقدامه وسكنت أنغام نايه نسائم الليل التي تحرس قروشه المعدودة في جيب بنطاله، هذه القروش التي يقضي نهارا بأكمله حتى يجمعها ثم يسرع ويشتري بعض أرغفة الخبز وقرض جبن قد يكفي إطعام أمه وأخوته الثلاثة. لكن أتكفي هذه القروش لدفع ثمن قميص جديد أو حتى دواء صداع؟

لا، إنها لا تكفي سوى أن تسد رمق جوعم وتعف أنفسهم عن سؤال الناس. هي لا تكفي سوى أن تذكرهم بنعمة الصبر، هذه النعمة التي منذ وجودهم على وجه الدنيا وهم يؤمنون بها، بل وتميزهم عن غيرهم من الطبقات الاجتماعية الأخرى.

هكذا أجاب عن سؤاله قبل أن يهم بالوقوف ويضع عود الخيزران فوق كتفيه ويدس نايه في جيب بنطاله، مغادرا المخزن وأفكاره لا زالت تحوم في عقله.

كانت السماء في تلك الليلة ممتلئة بالنجوم التي بدت كحبات من بلور تشع نور العظمة، لكنه مشى وهو مطأطئ الرأس مستسلما لأفكاره المهزومة، حتى وصل بيته، متخطيا أجساد أخوته النائمة على الأرض قبل أن يصل في نهاية المطاف إلى غرفته الصغيرة، مغلقا بابها من ورائه ومستلقيا على فرشته مستسلما للنوم.

وعلى صياح ديك الجيران، أفاق من نومه متثائبا، لكنه عندما جلس أمام الطاولة الدائرية شعر ببعض النشاط، على أثر استنشاقه بخار الشاي الساخن في أنفه. ارتشف منه رشفات متناوبة، وعندما فرغ من شربه، هم بالخروج إلى الشارع حاملا عصا الخيزران على كتفيه تتدلى منه أكياس شعر البنات كعناقيد العنب.

كانت الأكياس تتحرك على أنغام نايه التي تختم بصياحه:

"شعر البنات. شعر البنات. اشتر شعر البنات."

كر النهار سريعا وبدأ نحاس الغروب في الانتشار سريعا على صفحة السماء المحمرة بعض الشيء. كان يقف في زاوية عند نهاية الشارع يحصي ما جمعه من نقود. كانت كثيرة في ذلك اليوم. حدق كثيرا فيها، أقام بعضا منها بين إصبعيه الإبهام والسبابة، كان يتهجى الحروف المنقوشة عليها، وكان أيضا ينتشي سماع صوت ارتطامها ببعضها في جيب بنطاله. كان في غاية السعادة لما حصل عليه في ذلك اليوم، لكنه لم يعلم أن القدر يخفي له أياما سيكون كسب الرزق فيها صعبا جدا.

وأتت هذه الأيام في لمح البصر، قضاها وهو يطلب البسط في الرزق من رب يثق كل الثقة أنه سيجد له حلا وينتشله من همومه المطوقة لفكره عما قريب. وفي يوم أطبق الضيق على صدره ولم يعد لديه متنفس سوى الجلوس على كرسي بالقرب من المقهى، مستمعا لقرقرة النراجيل، ومستمعا لضحكات أناس بسطاء مثله يعلقون همومهم عند عتبة المقهى، ولكنهم لا يلبثون حتى يرتدونها من جديد بمجرد خروجهم منه.

كان ثمة أشخاص يجلسون بالقرب منه، يتجاذبون أطراف الحديث في مواضيع جمة، حتى ذكر اسم (قطز). عندها حل صمت رهيب بينهم قبل أن يتحدث أحدهم قائلا:

"يا له من رجل خارق، في استطاعته عمل أي شيء، دون مقابل. هل تصدقون ذلك؟"

فصاح آخر: "بالله عليك أن تدلني على مكان سكنه. أريده في مسألة تؤرقني منذ أسابيع وقد أجد الحل عنده."

عندها تيقظ ذهنه ومال بجسده قليلا من على الكرسي، محاولا أن يحفظ مكان إقامة قطز أو السيد قطز كما سيناديه عند ملاقاته. هذا اللقاء الذي يفصله عنه بضعة أيام مرت كمرور ظل الأغصان على وجه الأرض، ولم تبق سوى لحظة اللقاء الذي يتمنى أن يجد فيه حلا لمشكلته عند هذا الرجل العظيم حسب قول تلك الجماعة.

جلس أمامه يتأمل الدخان الحلزوني الصاعد من قدر كبير، ينظر إليه وهو يتناول طعامه الزجاجي وكأنه مخلوق من كوكب آخر. أما قطز فقد نظر إليه متفحصا جسده المنتفض من الخوف، فبادره بالسؤال:

"ما الذي أتى بك إلى هنا. هل هو المرض أم الحب؟"

أجابه بصوت مختنق: "بل البحث عن السعادة هو ما قادني إلى هنا، البحث عن وجودي كإنسان يجبر في كل يوم أن يبتسم لمن يشتري منه كيس شعر البنات مقابل عدة قروش يرميها لي في سلتي، قروش سئمت عدها كل يوم، قروش لم توجد سوى رسم أحلام، في لحظات قصيرة، في أن أكون ثريا. لذا جئتك من أجل البحث عن رحمة انتزعت من أحداث حياتي، فأرجوك ساعدني."

نظر إليه قطز وقد رجع بظهره إلى الوراء متعجبا حاله، ثم أدلف يقول:

"عجيب حالك يا هذا، من أخبرك أنني أصنع أموالا وأهديها للناس؟ ومن أخبرك أيضا أنني أخلق السعادة؟ أنا لست سوى رجل خارق أستطيع المساعدة في شفاء المرضى، وإرجاع حقوق المظلومين من مغتصبيها. وقد يطلب مني عمل أحجبة أو إخراج الجن من جسد أحدهم، لكني لست بصاحب بنك تجاري، أو صانع سعادة، بل أنت أحق الناس في صنع سعادتك بنفسك. طلبك غريب أعتذر منك فطلبك لا أستطيع تنفيذه."

دار على عقبيه مستمعا لأوامر قطز والحزن يغص صدره ويطبق عليه تاركا قطز الخارق يحدجه بعينيه الواسعتين. مشى تحت ضوء السراج المهتز من شدة الرياح. في تلك الليلة التي لم يجد سوى سريره من يحتويه فيها، كور نفسه ثم أغمض عينيه وغط في سبات عميق.

في تلك الليلة شاهد في منامه صبيا صغيرا يركض في زاوية صغيرة من نفس الحارة التي يعيش فيها الآن. أوقف الصبي رجلا غريبا عن الحارة وقد بدت عليه علامات الثراء. سأله عن بائع شعر البنات الموجود هنا، فأشار الصبي بإصبعه إليه وقد كان يقف في زاوية صغيرة. بدا في الحلم عجوزا طاعنا في السن تتدلى أكياس شعر البنات المثبتة على الخيزران من على كتفه. وقف الرجل الغريب أمامه يتأمله باحتقار، ثم رمى بقرشين استقرا في قاع سلته وقبل أن يتركه همس في أذنه:

"أتذكرك من صغري. لقد كنت بائع شعر بنات أشتري منك كل يوم. ومضت السنون وما زلت بائع شعر بنات، وستموت وأنت بائع شعر بنات فقيرا تنتظر شفقة الآخرين في رمي مزيد من القروش في سلتك."

بعدها مضى الرجل الغريب بين أزقة الحارة حتى صار من بعد مسافته المقطوعة نقطة صغيرة سرعان ما تلاشت.

استيقظ من نومه كأنما مسه جان وعبارة ذلك الرجل لا زالت تلف في عقله كإعصار مدمر. وقف أمام مرآته المكسورة يتنفس كثور هائج، حدث نفسه بصوت عال:

"لا، لن أكون كمثل هذه الصورة المشؤومة. لن أموت وأنا أنتظر الصدقة من المشترين."

ثم احتدت كلماته وتناثرت كسكاكين حادة. كان يبحث في غرفته عن أكياس شعر البنات بعينين بدتا كهرين يقظين حتى وجدها فحطم عود الخيزران وألقاه جانبا قبل أن يرمي بالأكياس على الأرض ويدوسها بغيظ، ثم خرج مسرعا يركض بين الأزقة وضوء القمر ينصب على وجهه، يركض محاولا سبق ظله الطويل، وفي قلبه أمنية في تغيير حاله الذي قد تبتسم له الدنيا يوما ما.

ركض حتى ابتلعه الظلام وخفت صدى وقع أقدامه، فقوقع نفسه بالقرب من حائط منتظرا ظهور شمس قد تحمل في أطيافها بداية جديدة له.

D 1 كانون الثاني (يناير) 2009     A ربا الناصر     C 0 تعليقات