عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

ربا الناصر - الأردن

عــاشــقــة الــورد


ربا الناصررأيتها تبتسم كملاك، يعلو شعرها إكليل من الفل الأبيض. ترتدي فستانا أبيض كالثلج، أدمته بضع قطرات تسيل من جيدها. لمست يدها. كانت باردة. حسبتها من بعيد دمية خشبية تتدلى من حبل لف حول عنقها.

حمت حول جثتها كطائر جريح يطلب المساعدة في تفسير سبب انتحارها. غادرت المكان ووراءها حياة غامضة، وصمت جريمة كاملة أطبقت على المكان وغيرت ملامحه لفترة. كانت ابتسامتها تزيد اللغز غموضا. مددت يدي إلى جيبها وأخرجت منها ورقة كتبت فيها:

"قد أكون مخطئة فيما أقدمت عليه، لكنكم لم تتركوا لي خيارا آخر أستعين به وأمضي به، فرضتم عليّ المضي في طريق واحد، فكرهت اعتقالكم لحريتي ككره النهر أن يعتقله، أردت أن أكون كما يجب أن أكون. لذا فضلت الرحيل عن مملكتكم، فطلبكم كان صعب الوقع علي."

تقدم أهل القرية تجاهها ثم تواروا مبتعدين قاصدين المقبرة، كان زوجها بينهم. وقف أصفر اللون كنواياه، وقد بدت على وجهه علامات الدهشة جراء إقدام ليلى على مثل هذا الفعل. رمقها نظرة أخيرة ثم اختفى، ولم يره أحد من بعد هذا الحادث.

دفنت ليلى، صديقة طفولتي، على تلة من زهور الياسمين، تؤنسها في وحشة الليل وتملأ فراغ أوقاتها بعبير أريجها.

أما أنا فأبقى مستلقيا على سريري أمضي ساعات الليل مع حروف رسالتها وأكون أمامها كالفتى يصارع رياح الشمال، أتتبع كل حرف فيها كتتبع الظمآن للسراب، فتعصف في ذهني ذكريات الطفولة التي أمضينا كثيرا منها نلهو عند نفس التلة، نركض خلف الفراشات الملونة، ونسلك الطرق المفروشة بالزهور فأصنع منها إكليلا وأضعه على رأسها فتتوج ملكة للورد، ملكة تحرس رعشات بتلات الورود، وتحنو على مياسيمها المنتفرة عند تفتحها وتمسح دموعها المتناثرة عند كل صباح فغدت ملكة عاشقة للورد.

مضت سنوات الطفولة سريعا، وفرقتنا الأيام، فأنا سافرت للدراسة في الخارج وليلى بقيت في القرية تعيش مع عائلتها، تمضي جل وقتها في البساتين، حتى كبرت ونضج جسمها وصارت كالورود التي تحبها، تفتن رائيها، فتنافس رجال القرية على الزواج منها، غير أنها مانعت بشدة فكرة الزواج فهي لا تبتهج إلا في أرضها ولا تنفث أريج عمرها إلا في الهواء الذي تحب، فإن تزوجت ستكون كمن يقطف الورود ويضعها في وعاء مزخرف، يحبس حريتها ويقيد متنفسها، فيصفر العود وتذبل البتلات.

لكنها لم تستطع مواصلة رفض الزواج، فتزوجت. لم تتحمل فظاظة خلق زوجها وخشونته في التعامل معها كدمية من الخشب طيلة سنوات زواجهما الأربع.

"أردت أن أكون كما يجب أن أكون. لذا فضلت الرحيل عن مملكتكم، فطلبكم كان صعب الوقع علي".

قرأت عبارتها المكتوبة في رسالتها مرارا ومرارا، عند كل حرف كانت لي محطة وقوف أتأمل مقصدها وأحاول جاهدا الشعور بحالها، كنت أسمع أنين مشاعرها المسجونة عند كتابتها لتلك العبارة.

مرت الأيام بعد وفاتها سريعا، وتوقف أهل القرية عن الحديث عنها، غير أن طيفها لم يفارق خيالي، أراه أمامي واقفا بين تعرجات المروج ثم يختفي، شعرت بتقلب حالي فجأة وتيقنت حقيقة كانت داخل جوفي طوال السنين الغائبة: شعرت يا ليلى أنني تربتك المحتضنة لجذورك الناعمة وبذورك الناضجة، شعرت أنني هواؤك الذي تنفثين فيه أريجك، فتتنفس منه الأشجار والورود عبير الحب، وتستوحي منه الطيور أجمل ألحانها.

وبعد عدة أيام مررت بالقرب من التلة حيث يقع رمسها، حفرت حفرة صغيرة بالقرب منها ودفنت رسالتها فيها وغرزت فوقها زهرة ياسمين أبيض ارتعشت بتلاتها فرحا بمجاورتها لقبر ليلى. رجعت عند الغروب أمشي بين البساتين حتى صرت نقطة صغيرة تمشي في مملكة ليلى: عاشقة الورد.

D 1 أيار (مايو) 2009     A ربا الناصر     C 0 تعليقات