فنار عبد الغني - لبنان
رحلة نور
ملف: غزة في القلب
كان حُلم هالة نور الذهاب إلى الأرض، والمكوث فيها، ومعرفة ماذا يحدث هناك، بينما كانت صديقاتها تحلمْنَ بالذهابِ إلى المريخ: الكوكب الجديد. قلنَ لها: "في الأرض يتقاتل البشر، ويكرهون بعضهم، لن نهبَهم نورنا."
لم تقتنع بقولهنَّ، وظلت تتخيل وجوه الحياة هناك. وأخيرا تحقق حُلمها، ووصلت إلى الأرض. عبرت بخفّة طبقة الأوزون، وشعرت بالدّوار من الروائح والأدخنة الكثيفة الحالكة المتصاعدة بلا حساب، أثّرت في أجزاء من ألوانها، فخسرت نقاءها.
تابعت تساقطها بشكل مائل، واصطدمت بالجبال الجليدية، التي امتصّت بعضا من طيفها، وبعثرت البعض الآخر بصورة رائعة الألوان. فرحت هالة النور حين رأت نفسها في هذه الألوان البديعة، التي جمّلت قبة السماء.
استمرت بالنزول بخطوط منحرفة، راغبة في الدخول إلى البيوت. واصطدمت بالجدران الصلبة، التي قامت بردِّها على نحو غير متوقع. صمّمت على النفاذ إلى البيوت من خلال الزجاج الأسود السميك والستائر الكثيفة. رأت أطفالا نائمين، داعبت عيونهم محاولة إيقاظهم. تململ الأطفال في فرُشهم متأففين: "يا لهذه الشمس المزعجة!" واستمروا في النوم.
انتقلت إلى أحياء العمال الذين لم يرحبوا بها بدورهم رغم محاولاتها بعث الدفء والنشاط في أجسادهم. خاب ظنها بالبشر لكنها لم تندم حتى الآن، وواصلت انتشارها. سمعت أحدا ما يرحب بها مع بزوغ الشمس فتصبح الرؤية أفضل.
فرحت هالة النور. بعد قليل، دوّت أصوات انفجارات مدمّرة، ورأت أشلاء بشرية تتناثر في كل الأرجاء. أحسّت بالخجل والعار من نفسها، وتمنّت كأنها لم تكن. أخذت تسبح على غير هدى في المدى الواسع حتى وجدت ذاتها محتجزة داخل أنابيب لتخزين الطاقة الشمسية. سُرَّت بهذا الاختراع الذي خفف من شعورها بالندم والعار، وأخذت تفكر بصديقاتها وبحياتهن على الكواكب الأخرى، وتذكرت كلماتهنّ: "في الأرض يتقاتل البشر ويكرهون بعضهم. لن نهبهم نورنا."
وواصلت عبورها من مكان إلى آخر حتى وجدت نفسها في مدينة مقفرة، تغرق في الظلام الدامس. كان بودّها أن تتجاوزها بعيدا بعيدا، إلاّ أنه تناهت إلى أسماعها أصوات رقيقة ومختلفة عمّا سمعته سابقا. تمددت وتمايلت، وسُرَّت بوجود أناس كثيرين ينتظرون وصول أول خيوطها. ارتفع صوت الآذان معلنا صلاة الفجر. رأت النائمين يتركون فرشهم، ناظرين إلى السماء، وكأنهم يتفقدون شيئا ما. احتارت هالة النور في أمرهم وتساءلت: "ماذا ينتظر هؤلاء الناس؟"
وقررت أن تبقى أطول فترة ممكنة في هذه المدينة الحزينة حيث احتفى الجميع بها صغارا وكبارا. لقد شرعوا النوافذ والأبواب، وغادروا إلى أعمالهم، والطلبة انطلقوا إلى مدارسهم. وكادت تستمتع معهم حتى رأتهم في المستشفيات، يخرجون جثث الأطفال من الحاضنات، وجثث المرضى من غرف العناية الفائقة، من وجوههم يثب الصّبر وعلى شفاههم ترتجف الكلمات المخنوقة، رأتهم يبكون بلا دموع، وحزنت لأنها لم تتمكن من يد مد العون لهم.
تمنّت لو أنّهم يستطيعون استغلال طاقتها في هذه المدينة المحاصرة من كل الجهات، وجالت أسئلة عديدة في ذهنها حول هذا التجاهل والإهمال الشديد بحقّها رغم أنّها تطل على البحر، حيث تمر بمحاذاتها كل السفن المحملة بكل أنواع البضائع، وتقع في منتصف الأرض، وليست جزيرة نائية، في مقدور الجميع إغاثتها. لفها العار والاختناق مجددا لإحساسها بالعجز عن تقديم المساعدة.
ظلّ القلق والحيرة يتنازعان حول هذه المدينة المحاصرة، إلى أن أقبل المغيب وتبدّدت آخر موجاتها الضوئية مع ارتفاع صوت الآذان ودعاء الناس هناك:
"يا رب: كما أرسلت إلينا النور في غزة، فأرسل إلينا الغوث قريبا."
◄ فنار عبد الغني
▼ موضوعاتي