عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

آمال سلامة - الأردن

قصة مهاجر (*)


= القصة مستقاة من أحداث حقيقيّة. وبعض شخصياتها على قيد الحياة.

= جمزو، نعلين: قريتان بالقرب من مدينة الرملة في فلسطين التي كانت تخضع لحكم بريطانيا (انتداب).

= الهاجانا: عصابة صهيونيّة سمحت بريطانيا لها بالنمو والتدريب في فلسطين.

= الويلس: جهاز اللاسلكي.

.

الطرقات تكتظ بالسائرين خاصة تلك التي أشيع عنها أنها آمنة، أصوات تختلط ببعضها البعض تكاد لا تميّز فيها صوت البشر الغاضب من صوت الرصاص والمدافع، أشخاص ينادون يبحثون عن أقربائهم وأصحابهم بين زحام السائرين، بكاء أطفال وعويل نساء، شمس لاهبة تُنبئ بصيف شديد القسوة، سار محمد مع السائرين مصطحبا عائلته زوجه وابنه الصغير سليم وابنتيه إحداهما صبيّة في عمر الزهور والأخرى لم تتجاوز الأربع سنين، أما ابنته الكبرى فانضمت إليه في رحلة الأقدام هي وأطفالها بعدما أُخذ زوجها أسيرا لدى اليهود.

"عليك يا أبا سليم أن تسلك طريق قرية جمزو. إنها الأكثر أمنا الآن، لا تنس أنك تصطحب صبايا معك."

كان يجدر بي أن أرسلهن مع أخي عندما طلب مني ذلك قبل شهرين، الوضع لم يكن يبشّر بالخير بعد تفجير قنبلة في مستعمرة لليهود بالقرب من الرملة، ولكنني رفضت وآثرت أن أموت في بلدي وعائلتي، ترتسم ابتسامة باهتة على وجهه وهو ينظر إلى واقعه، يغادر تحت تهديد السلاح مع عائلته، لم يكن خائفا على نفسه، ولكن صرخات ابنتيه ورجاء زوجه أرغماه على ترك بلده ليبدأ مشوار الهجرة، ترك منزله ظنا منه أنه سيعود بعد أيام قلائل، تناول درهيمات قليلة وضعها في حزامه وسار نحو المجهول.

"سليم يشعر بالعطش، يريد أن يشرب."

صوت زوجه أعاده إلى واقعه، نظر حوله لم يجد شيئا يمكن أن يعطيه له، فقال لها:

"دعيه يكمل نهار الصوم، لا يجوز أن يفطر."

"ولكنه طفل صغير والسير أتعبه، وذلك الحر..."

"يكفي يا امرأة. قلت لك ليبق صائما."

أشاح بنظره بعيدا عن عيون طفله التي كانت تتوسل إليه، ترقرقت الدموع في عينيه، لا يريد أن يراه طفله يبكي. هناك على بعد كيلو مترات، ترك بيارته وكرمه وبيته الذي لم يفرح به بعد.

"ابشري يا هيام، سنبتاع منزلا خاصا لنا، الراهبات يردون بيعه بثمن بخس، غريب أمرهن، منزل كبير يُباع رخيصا هكذا. أقولك، انس أمر الراهبات. غدا سأدفع ثمن المنزل، وسيكون لنا."

اشتراه وبدأ بتجهيزه. لم ينتقل إليه. تركه وضاع المال الذي دُفع له، حرّك رأسه بقوة، لا لم يضع المال، بعد أيام سيعود إليه.

"أبي، أبي، أرجوك تعبت من السير دعنا نتوقف قليلا."

"ماذا؟ ما هذا الذي تقولينه؟ علينا أن نتابع السير، إن توقفنا سبقنا الناس، وبقينا وحدنا، سنُقتل، أتريدننا أن نقتل هنا؟ بعيدا عن بلدنا؟ اصمتي وتابعي السير."

"لكن ..."

"يا الله ما هذا النهار المشؤوم، أمك من جهة، وأخوك من جهة، وها أنت أيضا، ارحموني لا أستطيع التحمل."

سكتت الفتاة على مضض، لم تكن تفهم لماذا يحدث معهم هذا، لقد كانوا في بيوتهم يعيشون بسعادة، حياتهم بسيطة ولكنها سعيدة، وكم تمنت في تلك اللحظة لو أن والدها وافق على ذهابهم مع عمّهم، على الأقل، كانوا وصلوا الأردن براحة ودون خوف، وانطلق السؤال من فمها دون إرادة:

"أبي: هل ما زالت الأردن بعيدة؟"

"هل ما زالت الأردن بعيدة؟" بقي السؤال يدوي في رأسه. الأردن؟ ما هي الأردن؟ لا أعرف شيئا عنها، لماذا أذهب هناك؟ لماذا؟

قبل لحظات من مغادرة بيته في الرملة، جاء إلى الحي أحد الأقرباء، يصرخ مستنجدا: "احموني، احموني، اليهود في الرملة، دخلوا الرملة."

تلقفوه بالأسئلة: "أين؟ متى؟ كيف؟"

كنت على جهاز الويلس، وشاهدت جنودا قادمين، فرحت كانوا يرتدون لباس الجيش العربيّ الأردنيّ، هللت لوصول النجدة، صرخت: "أهلا بالجيش العربيّ، ليرد عليّ أحدهم بلكنة عربيّة غريبة: "خبيبي، إحنا الهاجانا." حاول زميلي مهاجمتهم فقاموا بإطلاق الرصاص عليه. قتلوه. وقفت متسمرا في مكاني مجردا من السلاح، وانطلقت بأقصى سرعتي وأنا أسمع ضحكاتهم وهم يقولون: "اذهب إلى الأردن. اذهب وقل لهم: اذهبوا إلى الأردن.

"الأردن؟ لماذا الأردن؟ لماذا انتحلوا شخصيّة الجيش الأردنيّ؟ لماذا؟

"أبوس ايدك يا أبو سليم دعنا نتوقف قليلا. الأولاد لم يعودوا قادرين على السير."

نظر في وجوه أفراد عائلته، سليم: ما زلت صغيرا يا بنيّ لتتحمل كل هذا. وأنت يا سعدة، ما ذنبك؟ ما زلت طفلة، وأنت يا هدى، كنت أحلم بأن أزوّجك قريبا، ونهاد وأطفالها، ترى هل سترى زوجها مرة أخرى؟ آه! وذلك الجنين في بطنك يا هيام، أتُرى مُقدّر عليه أن يرى النور خارج بلده؟

"ماذا قلت يا أبا سليم؟ أبوس رجلك، ارحم أطفالك ونفسك."

وهل رحمونا؟ أخرجونا من ديارنا، هددونا باغتصاب فتياتنا، أسروا شبابنا."

"أرجوك، أرجوك..."

جاء صوت من المهاجرين: "نحن بالقرب من نعلين، نستطيع التوقف هنا قليلا، المكان آمن. تنفس الصعداء، وطلب إلى أسرته التوقف.

وانطلق صوت الرصاص من كل جانب، وأصوات تأتي من بعيد: سيروا، سيروا، اذهبوا إلى الأردن.

نظرات فزع وخوف لم يرها في عيون أسرته من قبل، وزوجه التي كانت ترجوه التوقف قبل لحظات تقول له برجاء مماثل: "هيا، علينا أن نتابع السير مع الناس، إنهم يبتعدون عنا."

"لا أستطيع السير، لقد أصبت برصاصة في فخذي."

"يا ويلي. يا ويلي، ماذا أفعل؟ كلنا نساء وأطفال، يا ناس، يا ناس." وغاب الصوت، وعاد إليها رجع الصدى، لتواجه الواقع منفردة.

"دعني أرى جرحك. كشفت عن الجرح إنه ينزف بشدة، مزّقت طرف ثوبها وربطته، حاولت إسعافه بما تملك من خبرة وعُدة قليلة.

سليم، كم تعذبني نظراتك يا بنيّ. حلمت بك شابا يافعا، يُعتمد عليه، أتراك ستتحمل مسؤولية أسرة وأنت طفل صغير؟

"هيا يا أبا محمد، تشجّع، استند عليّ ولنواصل السير، لقد انقطعنا عن الناس."

نهض بخطوات متثاقلة، أجل سأتابع السير. رفقا بي يا بنيّ، سأتحمل لأجلك، ما زلت صغيرا، ما زلت صغير.

العرق يتصبب من جسده، ظمأ شديد يكاد يقتله، بكاء، عويل، وحلم بالوصول إلى الأردن ما زال بعيدا. لماذا الأردن؟

ولاح له ضوء لامع. اقتربت من الوصول يا محمد، لقد أكملت مشوارك في هذه الحياة، نحن ننتظرك هنا، لا تخف، تقدّم.

تثاقلت حركة أقدامه، شعور بالسعادة يغمره، فرح بالنصر، لقد أخبروه أنه سيصل. نظر إلى زوجه التي يتكئ عليها، رآها ملاكا يرفل بثوب أبيض، إنه يسمع صوتها: "كدنا نصل، تشجّع."

والصوت الآخر يناديه: "انتهى مشوارك في الحياة، نحن بانتظارك هنا."

ودّع ابنه بنظرات حمّلها كلّ عبارات الأسف والاعتذار: "لم يكن بيدي يا ولدي أن أتركك في بداية خطواتك في هذه الحياة. أمك وأخواتك أمانة في عنقك. لا تحزن عليّ. أنا في سعادة غامرة. كن ولدا أفاخر به الدنيا."

ينظر سليم إلى أبيه، يعاتبه: "لماذا أنا؟ لماذا أنا؟"

"أماه، أبي لا يتحرك، أبي مات، أبي مات."

D 1 أيار (مايو) 2009     A آمال سلامة     C 0 تعليقات