عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

آمال سلامة - الأردن

انتظار قاتل


على الرصيف وقفت تراقب الأفق بصمت، شاردة ساهمة، خصلات شعرها تتطاير في الهواء وتلامس وجهها وعينيها دون أن تحرك ساكنا. تحمل حقيبة صغيرة تضمها إليها كمن يحافظ على كنز ثمين، كان يخيل لمن ينظر إليها أنها تمثال من الحجر. طال انتظارها فمشت عدة خطوات باتجاه اليمين لتعود إلى موقعها بعد برهة، ومرة أخرى تقطع عدة خطوات باتجاه اليسار ثم تعاود الحفاظ على موقعها السابق كأنها تحرسه.

المظهر الجاد الذي افتعلته بملامح وجهها، وثيابها التي تدل على الحشمة والوقار، إضافة إلى تلك العلامات التي تقول إنها تجاوزت سن الشباب منذ زمن ليس بالقصير، كل ذلك لم يمنع المعاكسات ومحاولات التحرش بها:

"أتريدين أن أُقلك لمكان ما؟"

نظرت بغضب ناحية الصوت ورمقت صاحبه بنظرة قد لا ينساها ما دام حيّا، فقد انصرف بهدوء دون تعليق منها.

"ماذا يريدون مني؟ قررت اعتزال العالم، مكاني ليس هنا، لقد خلقت لزمان غير هذا."

عادت تنظر من جديد إلى الأفق، وارتسمت ابتسامة باهتة وهي تذكر قول أحدهم لها في يوم ما:

"أنت تحفة، مكانك متحف لينظر الناس إليك ويتمتعون بك دون أن يلمسوك، لأنهم بذلك يسببون لك الأذى ويخسرك الجميع."

"تحفة؟ أيّ تحفة يقصد؟ فليأت إليّ لينظر تحفته ما أحدث الزمان بها، لقد تغيرت ملامحها حتى هي لم تعد تعرف نفسها."

اختفت الابتسامة، وتدحرجت دمعة حارة لم تستطع منعها على الرغم من المحاولة، نزلت تغسل وجنة كساها الزمان حزنا وألما، لم تكن تعلم أن تلك الدمعة ستقوم بمحو الحزن والألم، وتزرع في القلب نبتة صغيرة متعطشة للرعاية والاهتمام، تعاند بإصرار كي تنمو وتكبر وتصنع لذاتها مكانا في هذا العالم.

هي تعلم أن الوقت لم ينته بعد، فطالما هناك نفس يتردد في صدرها، فالوقت معها وسيبقى معها.

"الوقت معي، الوقت معي، لم يفت الأوان بعد."

رددت ذلك بصوت مرتفع كأنها تحول إقناع نفسها بذلك قبل أي أحد آخر، لم تبالِ بنظرات الدهشة والاستغراب التي وجّهت إليها من قبل المارة، وهي تقول:

"الوقت معي، الوقت معي، لم يفت الأوان بعد."

ولكن أين هو؟ ها أنا في المكان والزمان المحددين، أنتظر منذ ساعتين، بل ثلاث ربما. لا يهم منذ متى؟ ولكني أنتظر، تصوّب نظرها ثانية باتجاه الأفق، ولا ترى شيئا.

قال لها يوما: "وجدت فيك كل ما أريد، لم أتوقع أن ألتقي بإنسانة مثلك، ستكون حياتنا أسعد حياة عاشها اثنان على وجه الأرض، أنت أنا، وأنا أنت. أيشقى الإنسان بصحبة ذاته؟"

أعادت السؤال في نفسها: "أيشقى الإنسان بصحبة ذاته؟" هي حقيقة لا تدري، فلم يُكتب لها أن تصحب ذاتها يوما، عاشت غريبة عنها، تحاول خنقها وقتلها ليسعد الآخرون، وها هي اليوم، لم تجد ذاتها، ولم تُسعِد غيرها.

أدارت رأسها بشدة في الهواء محاولة إبعاد هذه الأفكار والذكريات، فالوقت ليس مناسبا لها، وسرعان ما ستغدو هذه الأفكار في طيّ النسيان، فهو سيأتي ويأخذها حيث ينبغي لها أن تكون، ستعيش ذاتها وحياتها للمرة الأولى، ستُخلق من جديد، والماضي سيكون قصة في رواية لإنسانة أخرى لا تعرفها، لقد وعدها بذلك، وها هي تنتظر.

لمعت ابتسامة مشرقة أضاءت وجهها الصغير البريء، رأت نفسها ملكة في عالم مسحور، تعيش الحب وتحيا الحياة كما ينبغي للبشر أن يعيشوها، تعيش اللحظة بكل إحساسها وجوارحها كأنها اللحظة الأخيرة، تشرب من نبع الحياة بنهم شديد، فقد طال الظمأ وآن لها أن ترتوي.

الابتسامة أصبحت ضحكة وهي ترى شراع السفينة قادما من ناحية الأفق، ضحكة ارتفعت وعلت لتُسمِع كل الدنيا بأنها ما زالت كائن حيّ يريد الحياة.

ركضت تريد الوصول قبل السفينة إلى الشاطئ، تريد أن تسابق الزمن لتعوّض لحظات ثمينة فقدتها، تركض وتركض متشبثة بحقيبتها الصغيرة التي احتوت كل ما تريد: دفترا صغيرا، وعلبة السجائر وصورة لها من الزمن القديم.

اقتربت من الوصول مع اقتراب الشراع كثيرا من الشاطئ، وإذ بها تلقي الحقيبة، وتقول:

"ما حاجتي إليها؟ كل ما أريده على ظهر هذه السفينة، لقد صدق وعده، تأخر ولكنه جاء."

وصلت إلى حافة البحر ولم يعد بإمكانها التقدم أكثر، وقفت تنتـظر تقدّم السفينة ببطء، لحظات رأت فيها عمرها الماضي والقادم كله.

إنها تخفف سيرها، ستقف الآن.

صاحت بصوت مرتفع فزع وهي ترى السفينة تنعطف من أمامها وتعود ناحية البحر بسرعة:

"أين تذهبين؟ ألا تتوقفين؟ إني أنتظرك منذ مدة."

لم تسمع السفينة صوتها وصراخها ومضت مبتعدة، واختفت فجأة كما ظهرت.

بكت، جثت على ركبتيها راجية أن تعود، ولم تعد.

عادت هي وحيدة تكفف دمعها، تحاول الحفاظ على ذكرياتها، تبحث داخل نفسها عن رجاء، تلك الطفلة الصبية المرأة، التي رافقتها مشوار العمر حتى هذه اللحظة، لكنها لم تستطع تذكرها.

أرادت إخراج الصورة من حقيبتها الصغيرة لمساعدتها على التذكر، اختفت الحقيبة. أرادت أن تحلم بالمستقبل كي ينسيها الماضي والتفكّر به، فعرفت أنها لم تعد لديها القدرة على ذلك، فالماضي أخطبوط امتدت أذرعه لتقتل المستقبل.

سارت تائهة على الشاطئ تنظر نظرات بلهاء إلى الناس والمارة، تسأل كل من تلتقي به:

"من أنا؟"

D 1 آذار (مارس) 2007     A آمال سلامة     C 0 تعليقات