عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

آمال سليمان سلامة - الأردن

ديمة


آمال سلامة"أهلا"، انطلقت من شفتيها المتشققة الجافة من شدّة العطش، بصوت واهن ضعيف، تصحبها ابتسامة شقّت طريقها وارتسمت على وجهها متحدّية الألم والجفاف، لكنها لم تستطع إخفاء نظرة الخوف والرّعب الّتي ملأت عينيها. آه يا تلك النّظرة، طاردتني أيّاما، أغالب الدّمع وأحاول الصّمود، أمام فتاة ممدّة عاجزة قد تكون رأت فيّ أملا ما.

عدتُ إلى غرفتي وانفجرت صرخة مكتومة داخلي: "لماذا يا الله؟ لمَ خُلقت هذه الفتاة؟ لتتألم فقط؟"

سارعت إلى الاستغفار، وجدّدت إيماني وقلت في نفسي: "لك حكمة في هذا يا الله لا أعرفها".

قبل يوم واحد من هذا اللقاء، تعرّفت على ديمة. كنتُ أسيرُ أغالبُ الأوجاع والآلام في أروقة المستشفى، أحمل بيدي أوعية متّصلة بجسدي تجمع مخلفات عمليّة جراحيّة أُجريت لي قبل أيام، وعند مروري بباب غرفتها ألقيت السّلام على امرأة تقف ببابها، وما أن ردّت السلام أمسكت بيدي وطلبت إليّ الدّخول إلى الغرفة كي ترى ابنتها الخراطيم والأوعيّة المتّصلة بي وتطمئن نفسها قليلا.

مشيت متثاقلة إلى سريرها وخلف ستارة رقيقة رأيتها: فتاة في العشرين من عمرها تقريبا، ومن النّظرة الأولى أدركت أنّها تعاني متلازمة داون (*). ابتسمت لها وقلت: "سلامتك". طلبت إليها أمّها أن تنظر إلى ما اتّصل بجسدي: "شوفي ماما خالته، زيّك، لا تخافي".

نظرت إليّ من أعلى إلى أسفل، أعادت النّظر. بحثتُ عن معان استشفّها من تحديقها ولكن لا شيء، نظرات لا معنى لها.

"كيفك حبيبتي؟ شو اسمك؟"

"اسمها حلو زيها، ديمة".

"سلامتك ديمة ما تشوفي شر، الله يشفيك ويقوّمك بالسّلامة".

سألتُ أمّها: "ما بها؟"

"بالأمس بدأت تصرخ من الألم، أتينا بها إلى قسم الطوارئ وبعد الصّور والفحوصات والتّحاليل قرّروا إدخالها لإجراء عمليّة جراحيّة لها في الرّحم، فقد وجدوا شيئا فيه ويريدون استئصاله، وهي خائفة من الحقن والخراطيم المتّصلة بها، لذا تصرخ وتبكي".

"سلامتها إن شاء الله بالسّلامة".

عدّت إلى غرفتي وعاصفة من الأفكار تجول في رأسي: لمَ؟ كيف؟ ما الحكمة؟ أحاول طرد نظراتها بأفكاري وكانت الغلبة لنظراتها.

تمدّدت على السّرير، صوت صرخاتها أسواط تجلدني: "مشان الله، مشان الله".

نظراتها قاض يحاكمني ويسألني: "لماذا؟"

لن يعرفَ أحد حقيقة الألم إلّا عند معايشته، وألمها أعرفه حقّ المعرفة، ألم تعدّى الجسد، ألم نفسيّ ناتج عن الخوف وعدم الإحساس بالأمان، ألم لا تسكته كل حقن الأطباء وعلومهم.

امرأة مريضة على سريربعد ساعات عدتُ إليها. حضّرتُ الكثير الكثير من الكلمات سأقولها عند وقوفي أمامها، سأشعرها بالأمان وأبعد عنها الخوف. من كان سليم العقل يخاف من العمليّة الجراحيّة، فكيف بمريضة بمتلازمة داون لا تدرك ما أصابها؟

تبخّرت الكلمات، ووقفت أردّد عبارات بلهاء أرجو لها الشّفاء، وغَرستْ سهام نظراتها في قلبي تقطّعه معلنة عجزي عن أداء مهمّتي.

"يا الله، ماذا أفعل؟ يا أرحم بعبادك من الأم بولدها ارحم ضعف هذه المسكينة".

اليوم قالت لي "أهلا" مع ابتسامة.

أمّها قالت لي: "كانت تطلبك، وهي سعيدة بوجودك".

لم أصدّق؛ هل حقّا نجحت وتركتُ أثرا طيّبا في نفسها؟

انطلقت منها الكلمات والعبارات لتوقفها الممرضة الّتي حضرت لاصطحابها إلى غرفة العمليّات.

تركتها ودعائي يصحبها، ولم تعلم أنّ ما أحدثته في نفسي وفكري يفوق آلاف المرّات ما تركتُه في نفسها، أيقنتُ بمعرفتها أنّ علمنا وعمرنا وخبراتنا كلّها أوهام؛ فلا حقيقة في هذه الدّنيا.

= = =

متلازمة داون ("المنغولية") = خلل خلقي ينتج عنه مستويات مختلفة من الإعاقة العقلية والجسدية.

JPEG - 15.9 كيليبايت
يافطة عود الند العدد الفصلي السادس
D 1 أيلول (سبتمبر) 2017     A آمال سلامة     C 1 تعليقات

1 مشاركة منتدى

  • الارواح النقية تتلاقى ومن هم مصابون بمتلازمة داون دوما انقياء و يحبون اصحاب القلب الطيب و ينجذبون اليهم و يخافون من يحسونه غريبا ولكنهم لايفكرون في ايذاءه فهم لايعرفون هذا النوع من المشاعر .عاشرت فترة طقلة من هذا النوع .نعم انهم فعلا كما كتبت في قصتكِ.يتركون اثرا لايزول .


في العدد نفسه

كلمة العدد الفصلي 06: هبّة القدس 2017

تطوّر دلالة المكان في الشّعر العربيّ الحديث

صلاح الدين الأيوبي في مرآة أمل دنقل الشعرية

الفونيم والمورفيم عند علماء مدرسة براغ

مبادرة خطوات نَحْوَ التَّمَيُّز: إرشادات