إبراهيم يوسف - لبنان
هجرتنا الطير
وأرى الأباطيل الكثيرة، والمآثم، والشّرورْ
ومذلّة الحقّ الضعيف، وعزّة الظلم القديرْ (*)
عندما لم يكن "الإسمنت" واسع الانتشار، واستعماله يقتصر على القليل النادر من المنازل، إضافة إلى المسجد والمدرسة ودار "النّبي".
كانتْ معظم البيوت، مبنيّة من حجارة "عمياء" (*) وطين. أمّا السّقوف فمن جذوع أشجار عملاقة، تقوم فوقها ألواح خشبيّة عريضة، يتراكم فوقها تراب السطوح، تراب كلسي أبيض هو الحوارة (*)، يمنع تسرّب مياه الأمطار بخلطه مع التبن، "وحدله" جيّدا في فصل الشتاء. كلّ ذلك يشكّل بيئة ملائمة للسنونو؛ تأوي إلينا؛ تبني أعشاشها وتقطن آمنة بيننا.
هذه الطيور الوديعة المحرّمة لحومها، تفد إلينا مرّة في العام، تطلّ في أوائل الربيع، تتحابّ؛ تتزاوج وتبيض؛ ثمّ تحضن بيضها، وتعتني بفراخها؛ فتعلّمها الطيران والتفتيش عن القوت، لتعود في أواخر الخريف، وترحل جماعات إلى ديار أخرى.
تلتقي على أسلاك الهواتف، على مناشر الغسيل، وعلى سياج الحدائق والكروم، تتأهب استعدادا لرحيل مشترك، في ألفة تسْتنْفر العواطف، وتترك حسرة في القلوب.
في بيتنا تحت القناطر؛ فوق حوض "الخبّيزة" المزهرة، كان لنا نصيب سنوي في الترحيب بها واستضافتها، ومراقبة الأنثى وهي تبني عشّها باندفاع المحبين، يعاونها شريكها في الأسرة المرتقبة، فيحمل إليها القش والطين بحماس المتيّمين العاشقين.
ثمّ تبيض؛ وتحضن بيضها بحرارة المشتاق، تراودها أحلام الأمومة العذبة، وتتعهّد فراخها حين تأتي؛ وهي تكْبر يوما بعْد يوم. تطلّ برؤوس وأجسام لم يكْسها الريش، وتزقزق فاتحة مناقيرها الورديّة، حين تقبل أمّاتها تحمل إليها القوت. جيرة مؤنسة الحضور، آسرة في لطفها ووداعتها.
هذا الطائر الرقيق، يستوطن في قلبه وعينيه نور الحسين، وحزن السيّدة زينب. كربلاء كانت موطنه الأوّل، منها أتى لينقل إلى الملأ مأساة الحسين.
هكذا قالت أمي عن أمّها وعن جدّتها لأبيها، عن ذاكرة طويلة، عن ذاكرة منهكة، عن ذاكرة معذّبة وينبوع ألم لم ينشف. أو هي الأسطورة تقول: إنّه كان شاهدا على ظلم الحسين، تمرّغ وخضّب عنقه بدمائه ليعْفى من عذاب النار، ومذاك والحزن يفيض من عينيه، وعنقه مخضّب بالدّم، ومن يؤذه فالنّار مصيره بلا استجواب.
هذا يقين أمي ولد معها؛ وعاش معها؛ ومات معها، ولطالما تحسّرت على حالها، وعذّبني بكاؤها على الحسين. هي كتبتْ على نفسها ميثاقا بالبكاء، تلتجأ إليه في شدّتها، ترتاح حينما تبكي وتعود إليها نفسها.
كانت مؤمنة أنّ الباري عزّ وجلّ أعاد الشمس إلى سمائها بعد الغروب، كرمى لصاحب الكرامات، ليتيح له أن يصلي صلاة العصر، بعدما فاتته في يوم الظلم الكبير، وفي ذلك أبيات من "العتابا" (*) الحزينة، كانت تردّدها بصوت خافت بالنشيج، باكية نكبة الحسين؛ ومحنة آل الحسين، وهي ترتق ثيابنا وجواربنا بعد الغسيل.
بكاؤها كان يصفعني؛ وينكّد هناء عيشي، فأهرب من دموع عينيها إلى حضنها ألتجئ إليه، أتكوّر فيه في دفء وخوف. لا أدري هل حقّا كانت تبكي الحسين؟ أم نكبة الموت يحلّ في بكْرها وأخيها؛ متقمّصة حال الحسين؟ طالتْ محْنتها في البكاء. وفي سنواتها الأخيرة كانت تبكي على نفسها، هكذا قالت.
رحلتْ أمّي غير آسفة على الدنيا، بعد عمْر بلا فرح، قلّما عرفت فيه لباسا لها سوى الأسْود. وهجرتْنا السنونو؛ فلم تعدْ تأتي إلينا بعدما يبست الكروم، وهاجر أهلها؛ وهجروها، وقضى "المحمول" على أسلاك الهواتف؛ والعواطف.
تصحّرتْ غابات السنديان؛ فحما "للأراكيل" (*) ولوّث الهواء عادم المركبات وبارود المعارك، وتحوّلت بيوت الطين إلى كتل من الحديد والإسمنت المسلّح؛ القاسي كعواطف هذا الزمان.
من يدري؟ لعلّ الشّاهد على ظلم الحسين هاجر هو الآخر، وراح يفتّش عن وطن بديل؛ ومأساة جديدة؛ لعلّها في بغداد وغزّة وسواهما، من الدّيار المنكوبة في دنيا المظالم والأباطيل.
= = =
* من قصيدة "الجنة الضائعة" لأبي القاسم الشّابي.
* حجارة عمياء: أشكالها الهندسيّة غير منتظمة.
* الحوّارة: كلمة آراميّة الأصل وتعني البيضاء.
* العتابا: ضرْب من الأغاني الشعبيّة، لعلّ منشأها العراق، أو هي من أصل سرياني، وهي حزينة في الغالب؛ ترافقها الرباب، تناجي الحبيب وتلوم صروف الدّهر، تتحرّك وترقّ لها القلوب، ومنها:
أنا في ضيْعْتي الينبوعْ جاري --- رفيقي الحقلْ والبستانْ جاري
ارجعوا يا هاجرينْ، الدّهرْ جاري --- وشمسْ العمْرْ مالتْ عالغيابْ
* الجناس: من مستلزمات العتابا، في ترديد كلمة ثلاث مرّات في كلّ عجز، تتفق ألفاظها في النطق، وتختلف في المعاني (Homonymes). وينتهي البيت على الدوام بالألف الممدودة والباء الساكنة. يبدأ صدر البيت دائما " بالأوف" الملحّنة، وترتبط العتابا أيضا بــ"الميجانا"؛ ضرب آخر من الأغاني الشعبية الرديفة.
* الأراكيل: النارجيل ومفردها "نارجيلة"، آلة يدخّن بها التنبك (فارسيّة).
◄ إبراهيم يوسف
▼ موضوعاتي