ظــلال عدنان - الأردن
ريـحـــانة الـــوادي
ها هي تتلاشى. بدأتْ بالانسحاب. سئمتْ هذه الحياة؛ لا ثبات، ولا استقرار نفسيا. هي لا تعلم من تكون، وماذا تريد أن تكون. لا تثق بنفسها. هي فاشلة في كل شيء. لم تكن تريد الحياة، لكن الحياة تريدها؛ لتسقيها سما زعافا.
فاشلة، فاشلة، فاشلة. لا تستحقُّ أي نفـس تـتـنـفسه، لا تستحقُّ أن تكون أما.
أنت مهملة، غبية، بلهاء، خرقاء. ليتك لم تولدي. ليتك مُتّ لحظة ولادتك.
كانت تدور في دوائر مفرغة، وحلقات متصلة، لا تعلم لها بداية، وتخشى أي نهاية. روحها تبحث عن السلام، وأنّى لها ذلك؟ بحثت حولها عن مخرج. أين المفر؟
أطفالها صغار، أبرياء، نظراتهم تنطق بأرق وأروع همسات الطفولة الملائكية. وهي، كشيطان يتخبط، لا تعلم ما تفعل بهم. أنا لا أستحقهم؛ وهم يستحقون أروع أم في الدنيا. شريط حياتي يلاحقني كحلم طويل، لا أكاد أستفيق منه.
كيف كبرتُ؟ كيف تزوجتُ؟ أحقا قد صرت أما؟ هي أصلا لم تتحدث عن كونها أما؛ عاشت أحلام أمومتها وحيدة. لم تكن تقدر على الإفصاح عن خواطرها وأفكارها ورغباتها؛ فقد كان يسكنها خوف عميق، وشك قاتل؛ فما عادت تثق بأحد.
رفعت الغطاء نحو وجهها لتمنع بصيص نور يتسللُ من خلف ستائر غرفتها، مدت قدميها، وبحركة مفاجئة انكمشت حول نفسها كما الجنين في أحشاء أمه. وتملكتْها حالة هستيرية من البكاء، ونوبات من الضحك، وهي تحملق عينيها في اللاشيء، وتنظر بعيدا، ثم تعتصر بطنها، لتحاول أن تخرج منه شيئا بغيضا لا تعلمه لكنه يزعجها. ثم تنخرطُ في بكاء مرير مرة أخرى.
أزاحت الغطاء، اعتدلت في جلستها، واحتضنت ركبتيها إلى صدرها، وغابت في وعي الذكريات:
تناهى لسمعها أصوات تناديها:
رهف. رهف. تعالي. اسمعينا ماذا حفظت في المدرسة. غني لنا. أرينا رسوماتك.
تجيل نظرها في دائرة من الأهل والأقارب يحيطونها بعيون محبة، ويستمعون لها باسمين، يثنون على مواهبها وقدراتها، ويتضاحكون لخفة دمها وسرعة بديهتها.
أما هو، فكان يقبع هناك، في زاويته، يشاركهم الضحكات، وينفرد بأفكاره. بعينيه الضيقتين يجردها من طفولتها، ويعريها من براءتها، وينقلها لعوالم رذيلته، فيشتهيها.
الخال أشرف كان المفضل لدى رهف من بين أقربائها؛ فقد كان يحيطها بلطفه، ويغمرها بحنانه، ويغدق عليها من عطاياه وهداياه، ويميزها عن بقية أقرانها من أقربائها. كانت تنتظر عودته من العمل بلهفة؛ ترقب هديته التي وعدها بها بالأمس: حلوى، أو قصة، أو لعلها لعبة جميلة. تجري نحوه تتقافز؛ ليرفعها إليه، فتعانقه، وتقبله ببراءة الطفولة وتقول له: "اشتقت لك يا خالي."
وتتحسس جيوبه، فيخرج لها كنزه: "يا الله ما أجمله دفتر التلوين هذا! شكرا. شكرا لك خالي."
وتنخرط في عالمها الملون.
تنهدت، ابتسمت، ومحت الابتسامة دمعة، نهضتْ تتفقدُ طفلتها الصغيرة، احتضنتها، لامست طفولة عينيها، وتراءت لها عيناها من بعيد:
هناك، في غرفته، جردها من براءتها، اغتصب طفولتها، مزق روحها، وتركها واجمة، خائفة، لا تعلم ماذا حصل، ولماذا. أشار لها بالصمت، وأسر لها ألا تتحدث لأحد؛ حتى لا يغضبوا منها، ووعدها مزيدا من الحلوى.
لم تكن تعلم أن حنانه وعطفه كان سما ينفثه حولها، وأن هداياه لزرع الثقة في نفسها. لم تعلم أن لمسه لها، وتقبيله إياها كان رغبات حيوانية تجاوزت حدود كل إنسانية. لم تعلم ذلك. وأنى لها في طفولتها فهم ذلك؟
عانقت طفلتها وسكبت دمعها؛ لتغسل آلام روحها، وتنفث كرها بات يحتل عقلها: تكره نفسها، تكرهه هو، تكره أهلها، وكل من حولها.
كيف وثقوا به؟ ألم يعتريهم الشك؟ ألم يفكروا بمراقبته وهي معه طفلة صغيرة وهو شاب في فورة الشباب؟ كانت تعجبُ من بلاهة من حولها؛ من وثقوا بالذئاب فأسلموهم جواهر غالية مكنونة، لينهشوها، وهي محرمة عليهم.
في ظلام الغرفة تراءى لها خياله، ها هو قادم بابتسامته الماكرة، يمد يده نحوها، وأصبعه على فمه؛ يشير لها بالصمت؛ طبعا حتى لا يغضب منها الجميع.
انكمشت في كرسيها، وشدت يديها حول ابنتها، تتمتم: "لا، ابتعد عني، ابتعد أرجوك. لا تقترب."
استمر بالاقتراب، وضع يده على كتفها، وانحنى نحوها. غارت روحها في أعماقها، وهتفت بصيحة مكتومة: "يا رب ساعدني."
"رهف. رهف. ما بك؟"
فتحت عينيها لترى الظلام الدامس وانعكاسات ضوء القمر تظهر لها وجه زوجها.
"رهف عزيزتي، أجـيـبـي، ما بك؟ أتحلمين؟ ماذا كنت تقولين؟"
"أوه، لا شيء، ربما هو حلم مخيف، بل كابوس وانتهى."
مد يده بحنو يلتقط يدها: "هيا ضعي راما في سريرها، ولنصل ركعتين في جوف الليل."
وبابتسامة حانية أردف: "ولك أحلى فنجان قهوة من بين يدي، ولا تخبري أحدا."
توضأت وكأنها تغتسل من ذكريات ألمها، ومع خيوط فجر ندي، تنشقتْ نسماته معطرة برائحة القهوة الحلوة، وبسماتُ زوجها تمحو من الذاكرة إساءة ماض لن يعود، وتحمل إشراقة أيامها القادمة.
◄ ظلال عدنان
▼ موضوعاتي
المفاتيح
- ◄ قصة قصيرة
- ● وماذا بعد؟
- ● النظّارة
- ● خرابيشُ خطّ
- ● بقرة حسين
- ● تاريخ