هدى الدهان - العراق
قضيـة للنقاش: "الـعـنـوســـة": مشكلة؟
فنجان قهوتي: كاميرا وقلم. جرح وألم
مذيع شاب يرتدي أفخر الماركات، ومذيعة أكثر شبابا وغنجا، طالعاني محيـين بابتسامة مريحة للناظر، وبمقدمة أحسنا كتابتها وقراءتها، تلفت انتباه اللامبالي والغافل. شدتني المقدمة فإذا به موضوع عن القتل الرحيم للبنت، موضوع قد أشبعوه ضربا بالعصي، ولطما على الخدود: موضوع امرأة يعدونها ميتة، والحقيقة هي موءودة، يشارك في وأدها المجتمع وأصحاب الأقلام. هذه الضحية أسموها (هم لا أنا) "عانس". (شكرا لمُعِد البرنامج. بالتأكيد رجل).
أعتبر الإعلام مرتكب جريمة من الدرجة الأولى في هذه القضية، أما المجتمع فلا تتعدى خطيئته الجنحة. صحيح أن هذا المصطلح كان متداولا من قبل، ولكن وسائل الإعلام (وما أكثرها!) زادت من بشاعته ومن قسوته. وهو موضوع يجذب نسبة عالية من المشاهدين لجنازة لفتاة تتدفق حياة، يلطم عليها وهي ما زالت في ذروة عطائها، مثله في ذلك مثل أفلام الرعب: كلما زادت بشاعة الممثل (بفضل مبدع الماكياج وفكرة المخرج طبعا)، وزادت مشاهد الرعب والدم، كلما شد الفيلم انتباه المتفرجين. ولا بأس بمؤثرات صوتية من تكسير زجاج وطرق أبواب ليكتمل المشهد.
عانس: الماء الآسن في البحيرة الراكدة. هذه إحدى تعريفات كلمة عانس، بحر الحنان التي قد تكون أختا كبيرة لرجال ربتهم حتى تزوجوا وفتحوا بيوتا باتت تلقب بهذا اللقب. النهر المتدفق الفيّاض لكل من حولها تجدها حاضرة في ولادة هذه وزواج تلك والكل يحبها حين يحتاجها، وما أن ينتهي دورها حتى يتذكروا فجأة أنها (عانس)، وربما تغار منهن أو تحسدهن فيبدأن بإبعادها بالسؤال عنها بهواتف متباعدة ثم بمواعيد يخلفونها بأعذار واهية، ثم بالقطيعة وكأنها مريضة بمرض يخشون على بناتهم من الإصابة به.
عانس: المصطلح بحد ذاته لا يهم. المفهوم هو الأهم. الكل تجنّد وتعبأ وتهيأ لترسانة واحدة هي قولبة سن معين (الثلاثون وما بعدها) في إطار معين وتقزيم وتحجيم البنت ما بعد هذا العمر، وكأنهم يرسمون خطا بيانيا وما بعده. طفرة هائلة ما بين وبين. والعجيب إن المجتمع العربي لم يتفق يوما على أمر بهذه النية الصافية مثل اتفاقه على هذا الوأد الحي.
ربما يؤدي الأمر ببعضهن إلى التسابق على الزواج والتهافت عليه بل وربما القبول بشخص ليست مقتنعة به تماما خوفا من أن تصبح (عانس)، وسؤال يشغلني دوما ولا أجد له إجابة تريحني، لماذا إما هذا أو ذاك؟ إما زواج بدون قناعة بأن من تتزوجه تستطيع تحمله والتأقلم مع ظروفه أو يستطيع هو تحملها ويسيران معا في حياة ليست سهلة أبدا في زمننا هذا، أو إنها لا قدر الله ستبقى عانسا؟
عانس: هذا المصطلح يطلقونه على من تعدت ساعتها الثلاثين عاما. تدق ساعة الخطر ولو في نفس يوم ميلادها. لماذا الحكم بأنها ستبقى للأبد بدون زواج إن تعدت هذا العمر؟ لدي صديقة كانت لا تلفظ هذا الرقم وكانت تقول بلغت من العمر عشرة وعشرين ثم ارتبطت بإنسان لا تريده لكن فقط للهروب من هذه الكلمة وحملت لقب مطلقة بعد ثلاثة أشهر فقط. ثم رأف بها ابن خالتها الذي رفضته مرارا قبلا وقبلت به هروبا من مصطلحات سخيفة مثل مطلقة. وهذه طبعا أسوأ من عانس قولبوها فيها وسجنت عقلها وفكرها وبالتالي حياتها فيها.
يتغير المصطلح وهذه نقطة ممتازة بتغير الظروف، فمن تُعد قد تعدت سن الزواج قبل 100 عاما تعد اليوم في أول شبابها (تطور اجتماعي رائع) فعلى فرض أن معدل البلوغ عند الإناث هو ثلاثة عشر عاما والزواج لازم عند البلوغ في ذاك الزمان فان بقيت بدونه فــ (عانس)، فالعنوسة تعتبر قبلا بحدود العشرين عاما مثلا؟ واعتبرت آنذاك قد تعدت سن الزواج. رائع! إذن هناك تقدم لأننا لا نعتبرها قد أصبحت كما يطلقون عليها إلا إذا تعدت الثلاثين.
الأسوأ في حياة كل من يطلق عليها هذا اللفظ القاسي أنها تعامل كإنسان ناقص أو ليس سويا، أو تتهم بالعصبية وسوء الخلق. والحقيقة إنها مستنزفة من الكل، وفي حالة دفاع دائم عن نفسها، وتبرير لأمر لا تعرف أصلا أسبابه، ولماذا تُـطعن به. طبعا يختلف الأمر باختلاف المجتمع، وما إذا كانت الفتاة عاملة أم لا، ولكن يبقى الأمر المتعب حقا هو ملاحقة الكل لها بالأمر، وتحويله إلى وصمة.
وكأنه لا يكفي البنت ما تلاقيه من نظرات النساء المحيطات بها بالتعالي لأنهن تزوجن، ومنهن من تحسسها إنها ليست فقط لا تملك على رأسها التاج الذي تتوج به حضرتها، بل إنها لا تملك رأسا أصلا إلا ليدور خلف الرجال أينما ذهبوا ليلاحقهم وليختطف منهم رجلا كصيد ثمين للزواج، فتتفنن المرأة بان تبين لها (للمغدورة –العانس) معايب ومثالب زوجها وقلة أدب أخيها وسوء معاملة فلان وفلان حتى لا تلاحقهم البنت لتتزوجهم. والأمر المؤلم أن البنت تكون قد فهمت الرسالة ولم يخطر ببالها أي واحد من هؤلاء أبدا. وهناك أيضا ألسنة النساء القريبات اللاتي لا يكففن عن السؤال: "متى يأتي النصيب؟"
ثم يأتي دور الذئب الذي يريد أن (يطبطب ويرّبت) فالرجال (ليس كلهم بالتأكيد) يتحرشون بها، ويسعون وراءها متأملين أنها ستكتفي بفتات الكلمة الطيبة وزواج السويعات المختطفة لأنها بضاعة لا تأمل أن تباع إلا بنصف السعر، هذا إذا وجدت سوقا أصلا. ولهذا فمن تصل لهذا العمر لا تهتم بنفسها ولا تحاول أن تبدو جميلة كنوع من الحصانة، فإذا لم تفعل هذا وهي في هذه السن تصبح عرضة للتحرش أو سوء الفهم، فحتى تجملها يؤخذ على إنها تتجمل لتعرض نفسها عسى ولعل وليت وكل الأخوات.
سمعت مرة نقاشا عن الموضوع من إذاعة ناطقة بالعربية، وكان الموضوع تبرير الزواج الثاني لحل مشكلة العنوسة. وكانت الهواتف مفتوحة للنقاش فاتصلت. ومن حظي أن من كان يبرر زواجه الثاني كان من دولة ليست من عشاق العراق، فسألته إذا كان سيتزوج من زوجة أخرى لحل مشكلة العنوسة فأجاب الصنديد "نعم." فسألته إن كان سيتزوج فتاة عمرها ثمانية وثلاثين عاما مثلا؟ فتجاهل السؤال وأدخلني في دوامة الخلافات السياسية. الأمر إذن أن من يتحدثون عن حل مشكلة العنوسة يبحثون عن زوجة ثانية لا تتعدى العشرين عاما.
والعجيب أن إعلاميينا العرب غالبا لديهم وعي كامل بمواضيع الطرح لأنهم يعيشونها. ولا أدري من أين جاءوا بهذه المذيعة الجميلة ومعها زميلها ليناقشا موضوعا أبعد ما يكونان عنه؟ لماذا هذا الموضوع بالذات وبهذه الطريقة المؤلمة في الطرح؟ لماذا عدّوها ظاهرة خطيرة؟ لماذا يبرمجون فكر الناس بهذه الطريقة، أو بالأحرى بما يريدون إلصاقه وقولبة المرأة فيه؟ لماذا لا يناقشون موضوع نسبة الشذوذ عند الرجال تحديدا؟ لا يوجد برنامج يتخصص ويتفحص الموضوع ويشبعه ضربا وقرحا مثلما اشبعوا هذا الموضوع. هل لجهلهم الإعلامي؟ أم لأنهم رجال؟ أم لأن هذا الموضوع لا يدق الطبول ويحصل على نسبة مشاهدة ورسائل نصية كالمواضيع التي يزيحون بها ستر البنت ويضعونها عارية أمام الأعين يحسسونها بالأسف والحسرة؟
بدأ البرنامج وانتهى وبرد فنجان قهوتي وأنا بانتظار أن تأتي ضيفة واحدة على الأقل لتبوح لنا بمعاناتها. ولكن لم تأتِ (غودة). عجيب! كثيرات خرجن للشاشة: مغتصبات وزوجات مضروبات ومجرمات تائبات غفر لهن المجتمع أو برر لهن أو تعاطف معهن ولو حتى في الظاهر. ولكن لم نشاهد فتاة تشارك وتطالب بأن يكف الجميع عن مناداتها بكلمة مؤلمة مثل هذه، وتبوح بمعاناتها من جراء كلمة مثل عانس خوفا من أن يظن الجميع إنها تبحث عن زوج. وآنذاك الويل لها منهن ومنهم ومن وسادتها.
قناعتي دوما إن المرأة أقسى على المرأة من الرجل. النساء يمزقنها بألسنتهن، والرجال بأيديهم وأقلامهم. مثل هذه المرأة ترجم لأن جسدها لم تمسه يد رجل، ولأن رحمها لم يحمل جنينا. هل هذا ذنبها؟ أم ذنب من ينظر لها على هذا الأساس؟ أم ذنب من؟ إن لم تعرفوا الجواب فاتركوها تعيش حياتها كما هي. لا تسلطوا عليها كاميراتكم وأعين الناس ولا تسألوها لماذا؟ ومتى؟
من يسمونها عانسا يزيدون جرحها ألما، ويتحفونها بالقول إنها قد فاتها القطار. وكأن لا قطار بعده. ويا ليتها تعلم أنه قد يكون بعده سيارة كبيرة فارهة أو صغيرة دافئة. وفي الحالين هما أسرع من القطار الذي يمشي على سكة حديد باردة وليست دافئة كالخشب مملة لرتابتها بخط واحد وليست منحنية كجدول ماء.
بعد تقدم العصر، وسعي الناس إلى التعليم وبناء الذات والاعتماد على النفس في الحياة، صار سن الزواج مختلفا عما كان عليه في الماضي، عندما كان الزوجان يعملان في الحقل ويعيشان في بيت الأسرة الكبير. والزواج لا شك أنه يتم عادة ليأتي الأزواج بأولاد وبنات. ولكن أمثلة كثيرة في الحياة تؤكد أن الزواج من أجل الإنجاب ليس أنجح من الزواج الذي غايته ملخصة في الآية الكريمة "ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها، وجعل بينكم مودة ورحمة، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون." الزواج يتم أيضا تتويجا للتفاهم والإعجاب المتبادل والانسجام العاطفي والفكري. لذا ليس هناك من سن مثالي للزواج، وبالتالي ليس هناك ما يستدعي ابتداع مصطلحات من قبل عانس، وما ينطوي عليه من مواقف تجاه المرأة التي تصنف كذلك.
◄ هدى الدهان
▼ موضوعاتي