كريمة كربية - تونس
الآخر في الفكر الإسلامي الحديث
نصر حامد أبو زيد أنموذجا (*)
(*) ورقة قدمت في مؤتمر بعنوان "الآخر في الفكر الإسلامي" عقد في تونس في شهر أبريل/نيسان 2007.
إن الخوض في الحديث عن الآخر يستوجب منا تعريف "الآخر" وتحديد أي آخر سأهتم بالحديث عنه. يرد في المعجم الشامل لمصطلحات الفلسفة أن "الآخر اسم خاص للمغاير، ويقال للأشخاص والأشياء والأعداد، ويطلق على المغاير في الماهية، ويقابله الأنا، والاثنان يتمثلان في الوعي، وكلما زاد الوعي كلما زاد الإحساس بالأنا والآخر. والآخر المقصود هو الغير، ليس كما هو في الواقع وإنما كما أعنيه أن، والغيرية هي أن أوثر الآخر أو الغير، على عكس الأنانية، وهي أن أوثر الأنا أي نفسي" [1].
فالخطاب حول الآخر إذا هو خطاب حول المغاير أي المختلف. وفي هذا الإطار فإن التساؤل حول الأنا ضروري، لأن الشرط الرئيسي الذي لا بدّ منه لكي يوجد الآخر هو وجود الأنا، إذ العلاقة بينهما علاقة حديّن متقابلين. ومن هذا المنطلق فإن الآخر هو العدوّ مثلا وقد يكون المختلف عن الأنا فكريا أو ثقافيا أو أدبيا، أو يكون الآخر هو الأقوى كأن يكون الحاكم أو رب العمل أو الشيخ بمفهوم الديني. والآخر قد يكون أيضا المختلف عنيّ جغرافيا وذلك ما يمكن التعبير عنه بثنائية المشرق والمغرب.
والآخر هو العالم الثالث بالنسبة للعالم الأول، وقد سمي هكذا، بداية، لأنه أتى في المرتبة الثالثة بعد الثاني، الشيوعي سابقا، وهو ترتيب من حيث مستوى التنمية. ومع الانهيار الشيوعي بقي العالم الثالث آخر، ولكن بصفته "الجنوب" هذه المرّة، فالدول التابعة للنظام الشيوعي سابقا ترى أنها جزء من "الشمال"، تقرّبا من الشق المزدهر من الشمال الصناعي [2].
الآخر إذن في كل مرّة في كينونة مختلفة تبعا للزاوية التي يوضع فيها، فكيف تتجلى صورة الآخر في فكر نصر حامد أبو زيد؟
في هذه الدراسة لفكر نصر أبو زيد انطلاقا من اثنين من كتبه، أحدهما نقد الخطاب الديني، والثاني الخطاب والتأويل. في هذين الكتابين يتلخص الآخر في ثلثا نقاط أساسية:
= 1= الآخر هو جزء من الذات (علاقة مصالحة).
=2= الآخر هو المختلف فكريا.
=3= الآخر هو انقسام الذات على ذاتها، أي أن الآخر هو الوجه الآخر للذات (علاقة تنافر).
والآخر ليس بالضرورة البعيد جغرافيا أو صاحب العداء التاريخي أو التنافس الدائم.
نجد في فكر نصر حامد أبو زيد أن العلاقة مع الغرب علاقة ائتلاف، علاقة مصالحة باعتبار أن الحضارة الغربية التي يطلق عليها هو تسمية "الحضارة الحديثة" تكونت من جملة من الحضارات كالحضارة الإغريقية والفينيقية واليونانية والرومانية وغيرها وصولا إلى الحضارة الإسلامية، وبالتالي هي جزء من الذات، فلم لا تكون إذا العلاقة علاقة انسجام لا علاقة اختلاف، فلا اختلاف بينها وبين الحضارة الإسلامية؟ يقول أبو زيد في هذا الصدد:
"أنا أًفضل استخدام عبارة الحضارة الحديثة بدلا من عبارة "الحضارة الغربية" وذلك لأن هذه الحضارة، التي تسمى غربية، تمثل تراكما كيفيا لإنجازات الحضارات الإنسانية السابقة من مصرية وفينيقية وسومرية ويونانية وهندية وصينية وفارسية. وهي إنجازات استمدتها كلها تقريبا من الحضارة العربية الإسلامية، ثم أضافت إليها وطورتها حتى بلغت ما بلغت في العصر الحديث. ومن هنا يجب التمييز بين المكونات الإنسانية العامة في بنية الحضارة الحديثة وفي تاريخها وبين حقيقة كونها تتمثل الآن في بقعة جغرافية يطلق عليها اسم "الغرب" [3].
بناء على ذلك، العلاقة بالحضارة الحديثة بالنسبة إليه يجب أن تكون علاقة تفاعل ونقد وحوار لا علاقة تبعية من ناحية، أو عداء من ناحية أخرى، بل علاقة تأثر بناء حيوي يساهم في التقدم بالإنسانية.
ويشرح أبو زيد وجهة نظره بقوله:
موقفنا من "الحضارة الحديثة" يجب أن يكون موقفا لا يقوم على التعامل معها من منطلق براجماتي يعتمد على استيراد المنتج التكنولوجي، مع تجاهل أساسه العلمي والمعرفي، كما أنه لا يقوم على استيراد "النظريات" العلمية والمعرفية ومحاولة فرضها بطريقة ميكانيكية آلية في بيئة ومناخ ومجالات مغايرة للبيئات والمجالات التي أنتجتها" [4].
وخلافا للعديد من المفكرين الذين يرون على أنّ العلاقة مع الآخر (الغرب) أو الحضارة الغربية/الحديثة علاقة صدام وعداء، فإن نصر حامد أبو زيد يبني الذات لا يدمّرها عن طرق التفاعل فيما بينهما، ويستحيل الغرب هن جزءا من الذات لا مغايرا عنها.
وفي المقابل قد ترتسم حدود العدائية داخل المجتمع الواحد، حيث يظهر الآخر المختلف فكريا، فتبدو الذات الجماعية للبعض وكأنها انقسام أو انشطار. ويصبح المجتمع الإسلامي مجتمعين: مجتمع الإجماع ومجتمع التعدد. وتصبح الفكرة أو العقيدة أو الأيدولوجيا وطنا جديدا أو مجتمعا يجمع المنتمين إلى الفكرة، ويصبح كل ما يغاير الفكرة أو العقيدة أو الأيدولوجيا هو الآخر: فالأصولية الإسلامية [5] كتيار فكري أو كفكر مغاير لفكر نصر حامد أبو زيد هو الآخر.
وفي تقديري أن نصر حامد أبو زيد والتيار الأصولي ينطلقان في التفكير من نفس مراجع النص الديني والموروث الإسلامي عموما، ولكنهما يختلفان في منهج التفكير وفي الأيدولوجيا التي ينتميان إليها، لذلك لا ينفك أبو زيد ينقد هذا التيار ويبرر نقائصه، مبينا أن الخطاب الديني الأصولي أهدر البعد التاريخي للنص بتوحيده بين النص وفهم النص، وجعل من فهم النصوص مسلمات لا تقبل التأويل من جديد، وبالتالي أدعى امتلاكه للحقيقة، وأصبح مرجعا نهائيا في شؤون الدين والعقيدة، وحتى في كيفية النهضة والتقدم بالحضارة العربية الإسلامية.
ومن هنا يأتي صراع الذات مع الآخر، صراع ينطلق في توظيف الأول للمنهج التاريخي وإهدار الثاني له، حيث يجعلك الأول منفتحا على التعدد في تفسير الظواهر والتطور، بينما الثاني يبقى الفرد في حالة تقوقع على الذات وفي حركة دائرية، وبالتالي يرى أبو زيد أن الفارق بين "العقل الغيبي" و"العقل الديني" يكمن في أن الأول يجد تفسيرا لكل شيء بناء على ثنائية الإيمان والكفر في حين أن الثاني يكشف عن الأسباب المباشرة للظواهر، دون أن يتخلى عن "الإيمان".
كما يرى أن فكر الحركة الأصولية لا يعوّل إلا على آلية النقل، دون تدبر أو تفكير، ويفتقد إلى أبسط آليات التفكير العقلي النقدي. ومنهج النقل، برأيه، يفضي إلى الإتباع ويناهض الإبداع. ومن هنا يدعو إلى التحرر من سلطة النص والقراءة الحرفية وإلى التأويل بمقتضى المنهج التاريخي، وفي ضوء مبدأ التطور والتغيّر في الأزمنة والأحوال. وكل ما غاير ذلك إنما هو انشداد للتخلف. ويشرح هذا الرأي قوله:
"يبدو إهدار البعد التاريخي في تصوّر التطابق بين مشكلات الحاضر وهمومه وبين مشكلات الماضي وهمومه. وافتراض إمكانية صلاحية حلول الماضي للتطبيق على الحاضر ويكون الاستناد إلى سلطة السلف والتراث واعتماد نصوصهم بوصفها نصوص أولية تتمتع بذات قداسة النصوص الأولية تكثيفا لآلية إهدار البعد التاريخي وكلتا الآليتين تساهم في تعميق اغتراب الإنسان والتستر على مشكلات الواقع الفعلية في الخطاب الديني. ومن هذه الزاوية نلمس التفاعل بين هذه الآلية وبين الآلية الثانية "رد الظواهر إلى مبدأ واحد" خاصة فيما يرتبط بتفسير الظواهر الاجتماعية... والنتيجة الحتمية لهذا المنهج تأييد الواقع وتعميق اغتراب الإنسان فيه والوقوف جنبا إلى جنب مع التخلف ضد كل قوى التقدم"[6].
هكذا نرى أن نصر حامد أبو زيد يضع فكر الحركة الأصولية الإسلامية في موقع "الآخر"، فيصارعه، ويستخدمه في إثبات الذات التي ينتمي إليها أو إلى ما يسمى العلمانية [7]، فالعلمانية هي نافذة الفكر التي تناهض الشمولية وتقف ضد فكرة ارتهان الحاضر في أسر الماضي، وهو مشروع يدعو إلى التحرّر ويقف ضدّ التبعية المطلقة. ولذ إذ يرى أبو زيد في فكرة ردهم لكل الظواهر إلى العلة الأولى أو المبدأ الأول هجوما على العلمانية، أي هجوما على اجتهادات العقل الإنساني أثناء محاولته تفسير الظواهر الطبيعية أو الاجتماعية وفهمها. يقول في هذا الصدد:
إن ردّ الظواهر كلها "طبيعية واجتماعية" إلى علة أولى أو مبدأ أول من شأنه أن يقود بالضرورة إلى "الحاكمية" الإلهية بوصفها مقابلا ونقيضا لحاكمية البشر. وهكذا ترتبط هذه الآلية بمفهوم "الحاكمية" وهو أحد المنطلقات الأساسية في الخطاب الديني، ليساهما في الهجوم على العلمانية [8].
ويقصد أبو زيد بالعلمانية تلك النظرة الإنسانية الشاملة التي مجدت الإنسان كمحور للكون ونظرت إليه على أنّه سيّد نفسه وحر الإرادة، ونادت بالعقلانية كوسيلة للتنظيم الاجتماعي، ونادت بتسخير كافة الإمكانيات لتحقيق حاجات الإنسان وسعادته، ونادت بالديمقراطية كأساس لعلاقة الفرد بالدولة وبالمجتمع.
وفي رأي نصر أبو زيد لا تقف العلمانية خارج الإسلام، فهي مشروع فكري في الأساس، ومعرفي في جوهره، وسياسي في دلالته لذلك يرفع أبو زيد صوته عاليا قائلا:
"آن الأوان لكي نناقش مفهوم العلمانية ومفهوم الإسلام معا. وبكلّ الحريّة اللازمة لإنتاج فكر علمي معرفي قادر على الفهم والتدبّر: تدبّر النصوص والتاريخ والماضي والحاضر والدنيوي والمقدّس "[9].
ويستند في تدعيم رأيه إلى التراث الإسلامي وفكر المعتزلة وفكر ابن رشد مبينا أن الفكر العلماني ليس إسقاطا على الحضارة الإسلامية وليس فكرة مستوردة بل إن إعمال العقل والاجتهاد منذ القرن الثاني للهجرة مع المعتزلة والقرن الخامس للهجرة لهو فكر من صلب الحضارة الإسلامية.
- غلاف: نقد الخطاب الديني
وفي تصور نصر حامد أبو زيد يتجاذب العالم الإسلامي الأنا والآخر في نفس الوقت، فالأنا هو ذلك الجانب القادر على تحرير العقل من سلطة النص وقدرته على الجدل مع الطبيعة والواقع الاجتماعي والإنساني. كما يتجادل مع الغيب فتنتج المعرفة العلمية وبالتالي التمكن من السيطرة على الآخر الذي ظل سجين سلطتين: سلطة النص وسلطة السياسة الحاكمة، وهاتان سلطتان جديرتان بكبح الإنتاج الحر. عن ذلك يقول: "التراث الإسلامي مرتبط بالسلطة منذ بدايات نشر الدعوة الإسلامية وتفسير القرآن بقي أسير هذه السلطة في حين أن النص يقبل التعدد والانفتاح" [10].
نفهم مما تقدّم أن نصر حامد أبو زيد يعيب على الآخر (التيار الأصولي) صفة الثبات والإطلاق في رؤاه للشريعة الإسلامية، لذلك فهو لا ينفك يلح على الدعوة إلى الانفتاح، أي انفتاح الدلالة والمعنى للنصوص الأصلية وما تحمله من مضامين، ويطالب بالاعتراف بالتعددية السياسية والفكرية والقبول بمبدأ تداول السلطة ديمقراطيا.
= = =
نصر حامد أبو زيد: مفكر عربي حاصل على دكتوراه في الدراسات الإسلامية عام 1979 من جامعة القاهرة التي عمل فيها مدرسا قبل اضطراره للعيش في الخارج. انتقل إلى رحمته تعالى في شهر تموز/يوليو 2010 إثر إصابته بمرض مجهول. (انظر العدد 50 من عود الند). من مؤلفاته:
= مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن. الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة (1994).
= الأمام الشافعي وتأسيس الإيديولوجية الوسطية. دار سينا، القاهرة (1996).
= نقد الخطاب الديني. دار سينا، القاهرة (1994).
= هكذا تكلم ابن عربي. الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة (2002).
= = =
الهوامش
[1] عبد المنعم حنفي، المعجم الشامل لمصطلحات الفلسفة (القاهرة: مكتبة مدبولي، 2000)، ص ؟
[2] دلال البزري، الآخر: المفارقة الضرورية: صورة الآخر العربي ناظرا ومنظورا إليه (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1999)، ص 112.
[3] نصر حامد أبو زيد، الخطاب والتأويل (بيروت: المركز الثقافي العربي، 2000)، ص 238.
[4] المصدر السابق، ص 139.
[5] الأصولية الإسلامية: حركة تدعو إلى العودة إلى أصول الدين، أي القرآن والسنة، هدفها إعادة الإسلام إلى السيطرة على جميع أوجه الحياة. (انظر الموسوعة الفلسفية العربية، المجلد الثاني (أ-ش)، ص 150).
[6] نصر حامد أبو زيد، الخطاب والتأويل، ص 35.
[7] العلمانية (أو النظرة الحديثة إلى العالم): كانت تعني أنّ العلم حلّ محلّ الدين في تفسير الكون، والتاريخ، والمجتمع، وأن الإنسان أصبح يمثل السلطة الفكرية الجديدة المسؤولة عن تحديد صياغة وتوجيه الحياة الفكرية والرؤيا الثقافية للعالم. (انظر موسوعة مصطلحات الفكر النقدي العربي الإسلامي المعاصر: ج 2، مكتبة لبنان، ناشرون، ط 1، 2004، ص 1417).
[8] نصـر حـامـد أبـو زيـد، نقد الخطاب الديني (القاهرة: مكتبة مدبولي، 2003)، ص 82.
[9] نصر حامد أبو زيد، الخطاب والتأويل، ص 130.
[10] المصدر السابق، ص 199.
[11] المصدر السابق، ص 138.
[12] نصر حامد، نقد الخطاب الديني، ص 126.
[13] المصدر السابق: ص 130.
◄ كريمة كربية
▼ موضوعاتي