فراس حج محمد - فلسطين
تبدل الموقع وتغير الموقف: تطبيق تربوي
ما زلت محتفظا بتلك الجملة التي كان يرددها على مسامعنا، ونحن طلبة جامعيون، أستاذنا الدكتور عادل الأسطة "يتغير موقف الإنسان بتغير موقعه"، وهذه المقولة حسب ما سمعناه منه، مقولة شيوعية-يسارية، تعالج موقف الإنسان وطبيعة انتمائه لأحد طرفي الصراع الطبقي، فإذا ما كنت من الكادحين الفقراء، منتميا إلى طبقتك تلك، فإنك ستمارس مواقفك بناء على وعي طبقي تجاه طبقة الرأسماليين المستغلين، وسيكون نتيجة هذا الموقف ممارسات واعتقادات نابعة من هذا التصور، ولعل أبرزها ممارسة ما يعرف بأبجديات الفكر الشيوعي بالحقد الطبقي، وما تجره من أفكار تحكم الوعي الإنساني لهذا الشخص.
وبطبيعة الحال، فإن لهذه المقولة الفكرية تطبيقات أدبية كثيرة، فعندما تدرس الأدب المكتوب بالرؤية الشيوعية، تجد صدى لها كبيرا، فما زلت أذكر كذلك كيف طبق أستاذنا الكريم هذه المقولة، وهو يحلل قصة الطاهر وطار "اشتراكي حتى الموت"، فقد تحدثت القصة عن رجل من الكادحين، تبدل به الموقع فأدى به إلى تبدل في الموقف.
ومع كل تطبيقات هذه المقولة سياسيا وحزبيا وأدبيا وحتى دينيا، إلا أن لها أبعادا تربوية، فموقعك كطالب أو معلم أو مسؤول تربوي يحتم عليك ممارسة مجموعة من المواقف نتيجة انتمائك لكل موقع؛ فالطالب تحكمه تصورات معينة عن معلميه وعن المدير، لا تكون في أغلبها إيجابية، لا سيما أولئك المعلمين والمديرين الأشداء الدكتاتوريين، الذين ما زال منهم بقية على قيد الحياة التربوية، أصحاب مقولة "سماع رنة الإبرة" في الغرفة الصفية، ويفتخرون بأنهم كانوا زارعين جيدين لبذور الخوف في نفوس أولئك الطلبة المساكين، فإذا ما تبدل الموقع، وأصبح الطالب معلما، أخذ بتلاليب الموقف بكامله، وكان حريصا على إنتاج النسخة نفسها، دون أن يسائل وعيه عن صواب ذلك أو خطأه، وصلاح هذا الموقف أو فساده.
وإذا ما ابتسم الحظ لهذا المعلم، واختير مديرا، وقد كان ينظر لمديره بعين الريبة والشك، ولم يقصر بتوجيه كمٍّ من الطعنات في ظهر الغيب، فيراه متسلطا، معيقا، دكتاتوريا، حرفيا، ويخزن كل ذلك في وعيه على شكل مشاعر سلبية تجاه كل مدير، فإنه بلا شك، وقد أمسى مديرا سيمارس كل متطلبات هذا الموقف بوعي أو بغير وعي، ليعيد إنتاج هذه المأساة من جديد، وسيكون هدفا جديدا للرمي بسهام أصدقائه وزملائه السابقين.
وأخيرا، فلنتقدم خطوة أخرى، لنرى هذا المعلم المثقل بالأعباء والمسؤوليات الجسام مشرفا تربويا، فإن نظرته للمشرف التربوي حتما ستتغير، سيرى نفسه في موقعه الإشرافي الجديد مسئولا تربويا، مهتما بتطوير أداء المعلم، حريصا على تطبيق القانون فارضا له، ونسي في غمرة ذلك كله موقفه القديم من المشرف التربوي، حيث كان يراه رجلا يتعامل بفوقية وعجرفة، متصيدا لأخطائه وأخطاء زملائه، والتحكم بالمعلمين نقلا وسخطا ورضى، وكأن بيده مفاتح الأمور ومقاليدها.
هكذا هي الحياة إذن، نصارع فيها آمالا وآلاما كثيرة، وتتبدل فينا الحياة بمواقفها ومواقعها، فدوام الحال من المحال كما تقول الحكمة الإنسانية العامة، ولكن ما الداعي لو نظرنا إلى كل ذلك من وجهة نظر مغايرة عن كل هذه الثنائيات المتصارعة؟
فلنجرب النظر من زاوية أخرى، لنرى كل شخص في موقعه هو سيد هذا الموقع، فلا تصلح الحياة إذا لم ننتم انتماء كليا لهذا الموقع الذي وضعنا فيه، لنكون حقا جديرين بكل موقع حللنا فيه، فكونك طالبا عليك مهمات يجب أن تؤديها، لأنك أنت أيها الطالب صاحب المستقبل وصانعه، فإذا ما قصرت في واجب صنع الذات، فلن تكون أنت الخاسرَ الوحيد، بل سنكون جميعا في كل موقع نعاني مرارة خسارتك، لأنك أفقدتنا أملا أضعته بهذا التقصير.
وهذا يصدق بكل أمانة على المواقع كافة، على المعلم والمدير والمشرف التربوي، فكل واحد من هؤلاء يمثل دورا ومهمة، فعليه نتيجة ذلك مسؤوليات جسام عليه تأديتها على وجهها الأكمل، وليكن شعارنا التكامل من أجل هدف واحد هو التطور والتطوير، وألّا نعمل بفكر الوحدات المنفصلة، كل وحدة تعمل لصالحها، لا دخل لها في غيرها، ولا لغيرها دخل فيها، بل يجب أن يكون العمل متكاملا في تحقيق أهدافه.
المشرف التربوي والمعلم ومدير المدرسة والطالب، كلنا جميعا لبنات في صرح واحد هو المجتمع، لا يصلح هذا المجتمع إذا لم يؤد كل منا واجبه، دون أن ننتظر جزاء أو ثناء من أحد، لأن إنسانيتنا تتجلى في أسمى تجلياتها ونحن نؤدي الواجب، ولنأخذ المقولة السابقة "يتغير موقفك بتغير موقعك" بالنظرة الإيجابية لتكامل الأدوار للوصول إلى موقع أفضل بين الأمم لندعّم بذلك موقفنا جميعا في منظومة الكون، تلك المنظومة التي ليس فيها موقع لجهول أو غبي أو كسول، ولنعلم جميعا "أن قيمة كل إنسان بما يحسن".
◄ فراس حج محمد
▼ موضوعاتي