د. فراس ميهوب - سورية
وجه آخر للنفاق
في هذا العالم الافتراضي، كل شيءٍ جميل. في شبابي كنت معزولا، ولم يكترث بي أحدٌ. أمَّا الآن فلديَّ أكثر من ألف صديق فيسبوكي.
كنْت، وما زلْتُ، أمر بقرب النَّاس، فلا أسلِّمُ عليهم، ولا يسلمون عليَّ، أمَّا على صفحتي، فنتبادل النكز، والإعجابات، وبعض المشاركات.
أغضبُ أحياناً، فأهدِّدُ الجَّميعَ بالويل، والثبور، وقطع الصداقة، فيرتعبون، ويتراجعون عن منشورٍ غبيٍّ، أو تعليق غير مناسب.
أنا ماردٌ أزرق على الفيسبوك. وبالمناسبة، هذا هو اسم حسابي الوهميِّ. ولا أخفيكم أنِّي بالحقيقة لست بهذه الشجاعة، فأنا أخاف بشدِّةً كلب الجيران، وحتَّى قطتي السوداء لا تخشى صراخي، وتكتفي بالنظر إليَّ ببلادة، وتتمطى ببطءٍ مستفزٍ.
ساعدني حلف التواصل الاجتماعيِّ الوثيق على التخلِّص من خيباتي.
صوري القديمة; كنْتُ أخجل منها مراهقاً. ملابسي التي كانت تملؤها الرقع، أصبحت الآن تزيِّن ملفاتي الشخصيَّة، وتحصد التفاعل تلو الآخر.
يافعا، عجزت عن مُجاراة أحاديث زملائي في المدرسة، أمَّا على صفحتي، فأنا شاعرٌ كبيرٌ. كل قصائد نزار المجهولة أنسبها لنفسي. وفيلسوف أكبر: أقارع المعري ونيتشه.
أكتب ما أشاء. النكت البذيئة التي كنت أخجل من مجرد سماعها، صرت أستاذاً في نشرها، وهي تحصد الإعجابات من الإناث قبل الذكور، فيزداد عجبي من نجاحي الاجتماعي المهول!
لا يخلو الفيسبوك من بعض الخيبات، فقد تجاهلَتْ زهرة اللوتس منشوراً غزلياً، لم تعلق عليه، ولا تفاعلت معه.
أشكر مع ذلك الدكتور مارك على اختراعه العجيب، فقد حلَّ لي كثيراً من عقدي الاجتماعيَّة. صرت أدَّعي المعرفة في كل شيءٍ: بالسيَّاسة، والكياسة، وحتَّى الرئاسة.
صرت أعبِّرُ أيضاً عن مواهبي الأدبيَّة الدفينة، فعندما كنْتُ مُراهقاً، كتبْتُ قصيدة شعرٍ، قرأَت حبيبتي الأولى العنوان وبيتين منها، ثم رمتْها على الأرض.
أخرجتها منذ أسبوعين من دفاتري القديمة، ونشرتها دون تغيير على صفحتي، حبيبتي القديمة ذاتها، تفاعلت معها بقلبٍ أحمر.
كنت قد عرضت قصيدة أخرى على مدرس اللغة العربية في المرحلة الثانويَّة، فقال لي وقتها دون تردِّدٍ: أنَّها بسلة القمامة أليَق. عاد بعد عشرين عاماً، وامتدحها على الفيسبوك، فوصفها بحلو الكلام، وصفو المرام. لا أظنه نسيها، لكنَّ لعالم الافتراض منطق آخر.
◄ فراس ميهوب
▼ موضوعاتي