مليكة علاوي - الجزائر
أنتَ في الهناك، وأنا كذلك
أي صديقي، أكتب إليك. أنتَ هناك. نعم أُدْرِكُ، ومنذ سنين مَضَتْ كِثار. ربّما قدِ امّحتْ آثارُ جسدك، وامتحَتْ، ولم يبق منها غير عظامٍ نخِرة، بل ما يكون أبداً حيث أنتَ مقبورٌ إلاّ وسماً يشير: "أنَّ من تحت الثّرى هو أنتَ صديقي مارتن".
نعم، أكتُبُ إليـكَ، وأُدرِكُ ذلكَ كلَّهُ، قد يكون شِبهَ جنونٍ أو هو الجنون عينه، لكنّـي أعي أنّك في الهناك، وإنْ قد عفـا أثرك، فالحقيقة تقول تلك الحقيقة؛ والحقيقة بوصفها الكشفَ، وبالفهم اليونانيّ، بلا ريب، الذي ترومه أنتَ كلّما طلبتَ الأصل وتكلّمتَ وأبَنْتَ، فأنتَ تقصدها دوماً بما هي الهناك، الانفتاح انفتاح الكائن إلى حقيقة كونه الفعليّ بما هو يكون وكيف يكون.
صديقي، لم تحتف دُوْرُ العلم عندنا عهدئذٍ بفكرك، ولم تتنسَم أنتَ عطر شوارعنا؛ فلم تطأ قدماك أرض بلادي، ولا جالت طرقاتها، ولَربّما لم تسمع بها، ولم يكن لك ذلك، فأنتَ و أنتَ في بلادكَ مشدودٌ أبداً إلى اليونان، شغوفٌ بأرض اليونان، لأنّكَ ببساطة ترى زمان بلادك دوماً امتداداً لزمانها العريق. أعرفُ أنّ وجدانَـك مُعلّقٌ بكلِمِها، يرتوي منه، ويروي عقول طلاّبها العِطاش. إنّه يتضوّع من أريجها دائماً، وأنتَ تجولُ بـكَ خطاكَ أروقةَ قاعات جامعات بلادك ومكتباتها، سواءٌ في فايبورغ أو ماربورغ أو زوريخ، فأنتَ حيث وجدتَ نفسَكَ تتمشّى، تتجوّل، وتحيا؛ فقد كان يمكن أن تقطع طرقات أرض بلادي، وتدلِقَ أبوابَ حوانيتها، أو تتزلج على رمال جبال تاغيت أو تسير في غابات بوكايس أو موغل أو الجلفة أو قد...فأنتَ ببساطة حيث قد وجدت نفسَكَ تفكّر، وتحاول أن تتعلّم كيف تفكّر.
صديقي مارتن، طُرُقُـكَ الوعرة وعرة، فدروب الحقيقة شائكة، والفكر الذي يطلب الحقيقة دوماً في غَوْر المعاناة يتلظّى.. لأنّ كَشْفَ الحُجُبِ يتطلّبُ الانتظار، والمكوث الطّويل لتنكشف هي نفسها بنفسها. أعوامٌ بل سنون استغرقتها سَكَناً بين أدغال فكرك، وطيّات أحراشه، أستمع وأنصِتُ إلى نبْضِ كلماتك، أتقفّى أجراسها مع ما أرشفه من الهمّ والتّعَبِ والمرضِ.
صديقي مارتن، طُرُقُكَ كثيرة، كلّ طريقٍ تؤدّي إلى أخرى، بل تفتحُ طُرُقاً وطُرُقاً؛ وقد طَوَّقَتني كما لو عنكبوت بِشَبَكِها. وهي إنْ تزدادْ وتنتظمْ وتحدقْ بي، فإنّ المتعة التي تغمرني بها تساؤلاتك وتأملاتك تزيل غياهب الطّريق، وتكشف الطّريقَ إثر الطَّريق، وتستحثُّني في الآنِ على الثّبات والاستمرار.
صديقي مارتن أعترفُ، لقد أدنفنـي المرضُ، ودنوتُ من التّلاشي، وأنا أدلف دياجيرَ دهاليز "الكينونة والزّمان"، لكنّـــي لا أزال في عنفوان تأمّلــي أستضيء بثريّا نفســي، وأتمسّكُ مُصِرَّةً بالمُضيّ في السّير.
"صديقتك المجهولة"
مليكة علاوي
مارتن هدجر (Martin Heidegger) فيلسوف ألماني. من مؤلفاته كتاب "الكينونة والزمان" (Being and Time).
◄ مليكة علاوي
▼ موضوعاتي
المفاتيح
- ◄ فكر وسياسة: مقالات
- ● أزمة النفوذ المزمنة، والتقويض الفعّال، في المنطقة العربيّة: بحثٌ نظريّ لممارسة سياسيّة ممكنة
- ● أزمة النفوذ المزمنة، والتقويض الفعّال، في المنطقة العربيّة: بحثٌ نظريّ لممارسة سياسيّة ممكنة
- ● أنتَ في الهناك، وأنا كذلك
- ● التباس الديمقراطية والثورة وأصابع الحبر الداكن
- ● الكتلة التاريخية: من سقوط النخب إلى صحوة الشباب
2 مشاركة منتدى
أنتَ في الهناك، وأنا كذلك, مرزوقي قورارية حليمة الجزائر | 3 كانون الأول (ديسمبر) 2021 - 11:27 1
صديقتي، اعجبتني انسيابيتك و أعجبني اختراقك للحدود الهايدغيرية. إطلالتك على هايدغر فيها متعة أدبية وفيها عقلانية يفهمها المشتغلون على نصوص هايدغر.هايدغر هناك لكن لماذا قلت و أنا كذلك؟
أنتَ في الهناك، وأنا كذلك, مليكة علاوي الجزائر | 3 كانون الأول (ديسمبر) 2021 - 12:25 2
شكراً للإطراء صديقتـي،لكنّـي قلتُ: "الهُــــنــــــــــاك"،و"الهناك" محمول هيدغري بامتياز...وأرجو أن أكون أنـــا كذلك في الهنــــاك.