عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

مليكة علاوي - الجزائر

على قارعة الطّريق


"أيّتها العير ، أَأجد من بينك حمارَ الحكيمِ؟"

تناهقتِ العيرُ، تناظرتْ، وانصرفتْ عنها، أمّا هي فقد ذهلتْ، وصرختْ منادية من جديد:

"أيّتها العير، هل من بينك حمار الحكيم؟ هل من مجيب؟"

لم تأبه لها العير، حتّى ولم تلتفتْ، وأكملتْ طريقَها تتناهقُ.

فَجَاءهَا من خلفها رجل عليه ثياب بيض، يلفُّ وسطَه بمنديل أخضر قائلا: "أنا الحكيم، فمن أنتِ؟"

قالت: "قلتُ: أريد حمار الحكيم لا الحكيم".

الرّجلُ: "لكنّي الحكيم، أَو بَلَغَ حماري ما لم أبلغه، حتّى يُطلَبَ ولا أطلبُ؟"

ردّت: "أَمَا تعرف؟ ولقد خبِر من شؤون البشر وأحوالهم ما لم يخبره البشريّ عن نفسه؟ وأنا لا أريد غيره، غير الحمار الحكيم حمارِ الحكيم، فأين يمكن أن أجده؟"

وتركته يضرب أخماسه في أسداسه، وعادت أدراجها إلى يقظتها، فقد أخرجها رنين هاتفها وقرع شديد على الباب من خِدر حلم تمنت لو يستمر، لكنّها لم تفتح ولم ترد، إذ تشعر بالحسرة، حيث كتاب "حماري قال لي"(1) كان كضرب من السّحر نفذ إلى أعماقها، فقامت وهي تجرّ أذيال الخيبة، وانكفأت إلى طاولتها، وكتبتْ:

القتل

النّاس في بلادي جارحون كالصّقور(2)

غناؤهم كنقيق ضفادع الوادي

لا يأبهون إلاّ بالنّقود،

ينفضون العهود، وينقضون العقود.

ثمّ أردفَتْ: في عالمي لا يموت غير الأحياء، يتلاشون الواحد بعد الآخر، فالحيّ لا بدّ مُفارق الحياة، والحيّ، والحقَّ الحقَّ أقول: ليس كلّ من يدبّ وينطّ في الأرض هنا وهناك. في عالمي ولا عجب يجري القتل كما الماء عند الشّرب في الحلق، يسري، وعلى السّجيّة في تلقائيّة واعتياديّة ينساب ويتمطّى، وأكثرُ أشكاله شيوعا، بل وأحدُّها لفحا اللّسانُ قطعا، فالبشر يأكلون لحوم بعضهم، لا يشبعون أبدا، ويظلون دوما في نهم وجياعا، وحتّى وهم يجترونها، ربّما لتأصّل هذا الطّبع وتجذّره فيهم. وهل ثمّة من زمن لم يكن فيه قتل، بل ومنذ متى؟

البشريّة ابتدأت حياتها بفعل القتل؛ "قَتَلَ أخ أخاه"، بفعل كهذا شرعت تاريخها المجيد، وافتتحته بفعل يستشنعه هؤلاء البشر أنفسهُم، وأفظع ما فيه أنْ قَتَلَ أخ أخاه، وليس غريبا جار عليه أو عداه. وفي الحين نفسه الذي هم يستقبحون الفعل فيه، يؤدونه على خير وأكمل وجه، وبحسب أنواع يبتكرونها، ويجعلون لها طقوسا، وأدوات ينشؤونها، يتداولونها، حتّى وأنّهم يقدمونها ألعابا لصغارهم.

ومع ذلك كلّه، والمفارقة عجيبة تفتن اللّبّ، وليس أغرب منها في حقيقة الأمر أنْ يدقّوا له عطر منشم، ويقرعوا آذان بعضهم بمقتهم القتل وكلّ قاتل. فما أفظع من حال يسجن فيها المرء نفسه في دائرة! وما أقسى فعلته هذه الشّنيعة بنفسه! بل وما أشقاه بها! ثمّ على أيّ أساس يستشنع البشر الفعلَ نفسَه ويستفظعونه، وهم من يؤسّسونه ويمارسونه بإتقان وتفان؟

وهل نحن الآنيين ينبغي أن ننتمي إلى التّاريخ المأهول بالقتلى والمضرّج بالدّماء؟ وهل ثمّة تاريخ فعليّ لما قد تدّعيه البشريّة الآنيّة من تطلع لمحاسن القيّم، الحقّ، الخير، والجمال، وتتغنّى بها؟ أَوَ هل لا تزال تتطّلع إلى "المُثل" وتطلب معاليها؟ وأيّ مًثل هي تنشد؟ ولِمَ أساسا تحبس نفسها في قوالب تسمّيها "مُثلا"؟

القتل قيمة من أبرز القيم، بيد أنّه من المثالب بحسب المألوف والمتعارف والسّائد، لا من المحامد، وهي تسود وتستمرّ في الوجود. أَولم ينته التّاريخ بعد، هذا التّاريخ المسمّى "الإنساني"؟ أَوَ قد يكون قدِ انتهى، ونحن لم ندرك بعد هذا؟ حيث إنّنا مخدوعون بحركيّة أجسادنا التي نحسّ بها، وتتراءى لنا، موهومون بضخامتنا، وما نحن في الحقيقة غير كتل همدت روحها التي هي بنزين الجسد، ما يحرّكه ويجري فيه مجرى الدّم، والجسد الكتلة إنّما ينمو و يتنامى، وبما يتضمنه من أعضاء أدوات يسير ويتمشّى، ويحصل على معاشه، فالنّموّ و استمراره يتمّ باطّراد، وهذه الجثث المتآكلة، التي هي نحن ، هذه الكتل الضّخمة تتوالد و تعيش من بعضها، تنهش بعضها، وتُفنيها بتفان، وهي دائما تتضوّر جوعا، حيث ترى في ذلك تحقيقا لكينونتها، "فأن تكون يعني لها : ينبغي بل ويجب أن تقتل".

وبعد، أ ليس النّهش والتّعيّش دليلا على الحياة؟ أليس إثباتا ساطعا لوجود بعينه، فهو هكذا ينبت، وتلك طباعه التي لا تقوم إلاّ على أساس القتل، فالقتل لا بدّ منه، حتميّ للاستمرار، وإلاّ فما سيكون؟ ثمّ عمّ يبحث هذا الشّكل المتحرّك الذي يعرك بعضه بعضا ليستمرّ في الظّهور والبروز على هذه البسيطة المزدحمة المركّبة؟ كان هوسرل وقبله ديكارت يتفقان على أنّه ما دام لهما رأسان وجمجمتان فهما موجودان، إذ قد غشيهما طوفان الوجود.

وفي الأخير وقّعتْ: "قتلتني يا آخريّ الآدميّ قتلتني".

= = =

(1) كتاب لتوفيق الحكيم.

(2) من قصيدة لصلاح عبد الصبور.

D 1 كانون الأول (ديسمبر) 2022     A مليكة علاوي     C 0 تعليقات