عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

فراس حج محمد - فلسطين

الذكاء العاطفي والفضاء الإلكتروني


فراس حج محمدأفكر بالمسألة على نحو جديّ، وأنا أشاهد الغرق في محيطات الفضاء الإلكتروني. لقد انتبه مهندسو مواقع التواصل الاجتماعي إلى هذا النوع من الذكاء عندما طوروا آليات التعبير عن المشاعر فيه على هوامش المنشورات، فكل مظاهر التواصل مع المنشورات هي مظاهر عاطفية؛ أعجبني، وأحببته، وأدعمه، وأضحكني (هاهاها)، وأحزنني، وأدهشني (واااو)، وأغضبني. إنها مصوغة بلغة المتكلم أو على صورة انفعاله، ومرتبة افتراضيا إذ تبدأ بـــ "أعجبني" وتنتهي بـــ "أغضبني"، وهذا الترتيب بطبيعة الحال غير خال من المغزى؛ كأنها تعبّر عن تدرّجات الحالة العاطفية التي يفترضها الموقع من ردات الفعل العاطفية على المنشورات التي يصادفها مرتادو مواقع التواصل الاجتماعي.

إنهم يتفاعلون أحياناً باستخدام "أعجبني" كتعبير رمزي محايد مع ما ينشر دون عاطفة أو تفكير، إنما فقط ليعلن أحدهم عن وجوده عند الأصدقاء أو الأعداء، لا فرق لديه بين عدوّ وصديق، فالاثنان افتراضيان، وقد يتبادلان الموقع في لحظات، ليصبح العدو صديقا، والصديق عدواً، وما أسهل ذلك! وما أسرع أنْ يحدث!

لقد أسست مواقع التواصل الاجتماعي إلى مجموعة من الأسواق الاستهلاكية، ولعل من أهمها "أسواق الاستهلاك واللهو والتي تتضمن جوانب خطيرة تكرس فيها حضارة الصورة وثقافتها لإشباع واستدراج الشهوات الإنسانية، وتضليل الشباب واقتيادهم نحو الفساد، بعيداً عن أعين مراقبة المجتمع وتقاليده" (الاستحمار الإلكتروني، نديم منصوري، ص42).

وهذه الأسواق تلعب على وتر العاطفة أوّلاً، قبل أن تستدرجه إلى ما تريد، إنها تعمل على تنمية عاطفته وتشكيلها أو استثارتها لتخدم بها مصالحها، سواء أكانت مصالح مخفية أم علنية، سياسية أو اقتصادية أو ثقافية.

إذاً، توفّر مواقع التواصل الاجتماعي بيئة إلكترونية افتراضية لبناء أو تشكيل شبكة علاقات اجتماعية يرتبط الناس من خلالها بداية عن طريق المشاعر، وليس عن طريق المعلومات، أو استثمار المعلومات، فتكون تلك المنشورات مدخلاً للتعبير عن المشاعر. لقد كانت هذه المشاعرية واضحة كذلك خلال التواصل عبر البريد (دردشة الرسائل الخاصة بالمواقع)، فأتاحت للمتراسلين كمّاً كبيرا من "الرموز التعبيرية" ذات المغزى العاطفي، أكثر بكثير مما تتيحه للتواصل مع المنشورات، فالقائمة المنسدلة لتلك الرموز توفر عشرات الحالات ذات المغزى العاطفي التي قد يشير تنوعها الكبير إلى دقتها أو توخّي أن تلمّ بكل الحالات العاطفية الممكنة المفترضة لأولئك المتصفحين أو المتفاعلين.

يوصف التفاعل على مواقع التواصل الاجتماعي بأنه تواصل قائم على التأثير المباشر والسطحي والمثير للحالة العاطفية الآنية، وقد وفرت هذه المواقع فرصة كبيرة لتغييب التفكير المنطقي، إذ يعتمد التصفح على عنصر المفاجأة، فكانت هذه المواقع مجالاً حيوياً متقبلاً لفصل العاطفة والشعور عن العقل والتفكير المنطقي، وقد شهدنا ذلك من خلال تفاعل هؤلاء الرواد مع حوادث اجتماعية وسياسية، ويتركز فيها الاهتمام على الظاهر السطحي، وسادت في تلك التفاعلات ظاهرة التنمر الإلكتروني، والنيل من الكرامة الشخصية، والتحريض على العنف إلى أقصى درجات الانغماس في الناحية العاطفية السلبية. لقد شكلوا قيماً موازية للقيم الواقعية، قيماً قائمة على الافتراض الشخصي والمعايير الذاتية، وانعدمت لديه، أو كادت، المعايير المجتمعية الواقعية المتعارف عليها، فالحسن ما استحسنوه وهم في تلك الحالة التي يكونون عليها، والقبيح ما استقبحوه وهم تحت تأثير الانفعالات العاطفية اللحظية.

يحوز موضوع التبدُّل في القيم الذاتية أو الاستهتار بالقيم التقليدية اهتماما واضحا لدى من يبحث عن الاستغراق الوهمي في عوالم الفضاءات الإلكترونية، فعلى سبيل المثال يعدد نديم منصوري جملة من الآثار السلبية على الأطفال نتيجة استغراقهم في عوالمهم الافتراضية؛ فهم قد يعانون من الانطوائية والأنانية، والخوف والفوبيا الاجتماعية، والسلوك الوسواسي والأرق والقلق وضعف الثقة بالنفس وكراهية الآخرين والتشتت الذهني، والعنف في السلوك، والصعوبة في محاورة الآخرين، وضعف العلاقات الأسرية الاجتماعية، والسلوك العدواني، إضافة إلى المشاكل الجسدية المتنوعة، وبالمجمل؛ لا يتمتع هؤلاء الأطفال بالتحكم والسيطرة الكاملة على النفس، فيبدو لديهم الغش والحدة في التعامل وعدم الالتزام بالقيم الأخلاقية (الاستحمار الإلكتروني، ص ص 58-59).

كما أن ممارسة الأطفال لبعض الألعاب الإلكترونية تؤدي بهم إلى الانحراف السلوكي ويؤدي بهم إلى بناء عاطفي غير سوي، فلاعبو الببجي مثلاً ينزلقون في الغالب إلى الصراخ، والعصبية، والعنف اللفظي، واستخدام الشتائم البذيئة ضد الخصم، وبالتالي قد يتسبب لاعب الببجي بمشاكل حقيقية مع المحيط الذي يعيش فيه، أقلها أثرا إحداث الفوضى في جو الأسرة نتيجة التفاعل القائم على المثير العاطفي.

لم تعد مواقع التواصل الاجتماعي فرصة لتهذيب المشاعر الإنسانية، أو تحسين طرق التواصل بين البشر، كما لم تعد مجالا لتحسين مهارات المناقشة الهادئة والعاقلة بين المختلفين في الرأي، بل إنها عبر "أسواقها الحوارية" فتحت المجال "أمام نمط جديد من الحوار والنقاش والتفاعل ووصلت في أغلب الأحيان إلى حد الفوضى في التعبير، وإلى حدود الابتذال، تحت عنوان حرية التعبير" (الاستحمار الإلكتروني، ص 41).

لقد زاد التطرف وتمسك كل طرف بآرائه التي يعتبرها قمة في الصواب، وليس على استعداد ليسمع الطرف الآخر أو ليتفهمه، أو يفهم وجهة نظره، في الحقيقة لم نعد نحتمل وجهات نظر أخرى غير ما نحن عليه من قناعة فكرية، وجرّ هذا معه عنفا في اللفظ واللغة والمشاعر، وصاحبته الشتائم، وتراجعت اللغة المهذبة لتحل محلها اللغة العنيفة القاسية البذيئة، وصولا إلى ما هو معروف من إجراءات إلغاء الصداقة أو المتابعة، والحظر، وتقييد التعامل مع بعض الحسابات، كل هذه مظاهر سلبية للعاطفة السلبية أنتجتها مواقع التواصل الاجتماعي وحرّضت عليها دون أن ننتبه إلى ذلك.

لقد جعلتنا هذه المواقع أكثر حدية مما كنا عليه في أرض الواقع خلال التواصل الحسي الواقعي مع المحيط، إلى درجة الانفصال التام عن الواقع، بمقابل هذا الجانب السلبي كانت تنمو، وما زالت، في الظل مشاعر أخرى تبدو إيجابية بين أطراف تلك العلاقات، لكنها تبقى افتراضية، تولد وتترعرع وتموت في ساحات الفضاء الإلكتروني، ولم تعط فرصة لتكون حية وواقعية.

هذا جعل هؤلاء الغارقين في هذه العلاقات يعيشون "الوهم العاطفي"، ويرتجون رسالة أو تفاعلا ما على منشوراتهم أو في صناديق بريدهم، ولا يريدون أكثر. إن هذا يدغدغ مشاعرهم، ويعطيهم نوعا من الأمان العاطفي، ولو كان هذا الأمان وهماً، افتراضياً، هذا الوهم الذي تجلى- على سبيل المثال- في رواية "مملكة الفراشة" للروائي الجزائري واسيني الأعرج، ولمن أراد أن يتعرّف أكثر على طبيعة نسج العلاقات الوهمية في الفضاء الإلكتروني، فسيجد في هذه الرواية ضالته، علما أن الأعرج يعدّ الافتراضية العاطفية الإلكترونية في مواقع التواصل الاجتماعي نوعاً من أنواع التواصل الافتراضي، فثمة أنواع أخرى من الوهم العاطفي قائمة على الحلم، لتكون افتراضية موازية، ولتقع الافتراضية الثالثة وهي افتراضية التفكير الحسي بالآخر الذي يراه في الواقع ولا يصل إليه حقيقة، في موقع وسط بين هاذين النوعين من الافتراض العاطفي (ينظر مقالتي حول الرواية: جنون الجنس في الكلمات: لذة الحب الافتراضي، صحيفة "العرب" اللندنية: 4 تموز/يوليو 2013).

هذا الوهم أيضاً هو المحرّك الرئيسي لكتابي "نسوة في المدينة" الذي بنيته على أنقاض قصص الوهم في الفضاء الإلكتروني. لم يعد لهذه القصص اليوم أي أثر حتى في الفضاء الذي أنتجها، بالفعل إنه فضاء سائل، سريع التحول، انتهت تلك القصص في فضائها التي ولدت فيه، وذهب ناسها. لقد تبخروا بالفعل، حقيقة لا مجازاً، فيمكن التخلص من الطرف الآخر "ساعة يشاء" على حد قول نديم منصوري. إنهم لم يتركوا أسماءهم أو ما يعيدهم إلى الذاكرة مرّة أخرى.

إذاً، لقد أنتجت عنفاً عاطفياً من نوع آخر. ليست قصص "نسوة في المدينة" وحسب، بل كذلك كل القصص الافتراضية التي نشهد ولادتها كل حين، فلم تكن مؤهلة لتعيش خارج هذا المحيط الذي أعطاها نوعا من الحصانة وشيئا من الشرعية في الحالتين؛ في الولادة، وفي الموت، أو في التعامل الفظّ من الإلغاء والتلاشي والعنف العاطفي.

هذا أمر مؤسف في واقع الحال. لماذا يحدث ذلك وبهذه الكيفية؟ أظنّ أن المسألة لها علاقة كبيرة بالناحية النفسية، ولعلّ أهم أسبابها ما يتعرض له المواطن العربي من كبت اجتماعي وتضييق سياسي، وانعدام لأفق الحرية في الواقع، زيادة على التردي الاقتصادي، كل تلك العوامل تدفعه ليمارس على طريقته التخلص من هذا التوتر العصبي بالتنفيس، وتعويض النقص في معارك ومتع إلكترونية افتراضية، فيشتم كل شيء، لعله يشعر بالرضا والاطمئنان بعد كل جولة من معركة فضائية، لم يكسب منها سوى الوهم.

أعتقد أن الشخص الذي يفرغ الكبت بهذه الطريقة، يفرّغه وهو ليس معنيا بالشخص، ككيان اجتماعي واقعي، له به صلة خارج نطاق هذا العالم الافتراضي، إنما هو معنيّ بذات نفسه لا أكثر، فهو مستعد إلى الدخول في الاشتباك مع طواحين الهواء الإلكترونية، فكل تلك المعارك التي يزجّ بنفسه فيها لا ناقة له فيها ولا جمل، إنما هي فرصة ليعبر هذا المواطن عن ذاته وأفكاره التي منعه من التعبير عنها النظام السياسي أو السلطة الدينية أو الأعراف والتقاليد الاجتماعية أو تعليمات العمل الرسمي أو نحو ذلك من قيود. بل إنه وجد مجالا لرجم المخالفين له، فاتفقت آراؤه مع آراء غيره، فهاجوا وماجوا، وتنمّروا، وسبوا وشتموا، وسخروا دون أي أحساس عاطفي حقيقي تجاه "الضحية".

لقد تجردوا من كل عاطفة إنسانية مع المخالفين، ولم يتحلَّوْا بضبط النفس أو التفكير العقلاني. إنهم وهم يمارسون هذه الحرية الافتراضية يعوضون ما افتقدوه في واقع حياتهم من حرية سياسية أو دينية أو اجتماعية، ولعل رواية الكاتب المغربي ياسين عدنان هوت ماروك تصلح لأن تكون مثالا على هذه الازدواجية بين عالمين؛ واقعي حقيقي وافتراضي فيسبوكي، "وهذا ما قامت به هذه الرواية وهي تفضح في حبكتها الرئيسية الحياة الموازية لرحال العوينة الذي نفاجأ بأن حياته الافتراضية في هوت ماروك وعلى الفيسبوك مخالفة تماما لحياته الواقعية" (نزار فراوي. رواية "هوت ماروك": المغرب في كوميديا حيوانية. مقالة منشورة في موقع الجزيرة نت، تتضمن حديثا مع الروائي، نشرت بتاريخ: 13/3/2016).

ثمّة مظهر آخر لهذا التفاعل العاطفي المفخخ بثقل الحالة النفسية، يجد له المرء طريقة أخرى للتفريغ النفسي العاطفي، في الكتابة السريعة القصيرة، إذ غالبا ما يقع المواطن العربي تحت تأثير حالته النفسية العاطفية الانفعالية غير المتزنة التي لم تمر بمحطة التفكير العقلي الذي يساعد الشخص على التروي والهدوء، فيسارع إلى الكتابة دون أن يُعمِل عقله أو تفكيره بما يكتب. من هنا جاء وصف هذه الكتابات بأنها ضعيفة، وتشكل خطرا حقيقياً على أبجديات الكتابة الكلاسيكية بطقوسها المعهودة وإنتاجاتها العميقة السابرة المتأملة، إنها تشكل عملية استنزاف حقيقي للمخزون الجمالي للكاتب، هذا المخزون الذي لم تتح له فرصة لينمو نموا دراميا متصاعدا ليشكل عملا أدبيا أو فنيا متكاملا برؤى كاملة.

إن الكاتب فيها يتصرف بعفوية مطلقة، فيفرغ أفكاره وحديث نفسه طازجا كما يفكر فيه دون تهذيب أو تلطيف، لذلك فإن هذه الحالة من أول الخاطر من الكتابة تتصف بالانفعالية غير المتزنة، وتشوبها الأخطاء، واضطراب الأفكار وتناقضها، ولا يتحلى صاحبها في الأعم الأغلب بالتهذيب الأدبي، ولو كان أديباً أو كاتبا أو متأدبا قارئاً، فيكتب بالعامية مثلا مستخدما مصطلحات شعبية في الكتابة من مثل "خربشات" أو "مشاكسات" أو "معاكسات" أو "منشور للحذف". إنها نوع من "فشّة خلق"، ولا تدخل في باب الأدبية إلا عند من جعل منها نماذج لأدب إلكتروني بسمات معينة، كما يجبرها كثير من الكتّاب أن تكون في كتب مطبوعة، وسبق لي أن ناقشت بعض تلك الكتب وما فيها من ظواهر لا أدبية التي انزلق إليها كثير من الكتاب حتى المكرسين منهم، وليس هواة الكتابة والتعبير فقط. (راجع على سبيل المثال مقالتي بعنوان: "الشهقة الأولى ومحاذير الكتابة الفيسبوكية"، أمد للإعلام بتاريخ: 2017-09-24).

لا تبقى غالباً هذه الكتابات على حالها، إذ بعد أن تهدأ النفس قليلاً، ويراجع صاحبها نفسه، وخاصة الكتّاب المعروفين، فيتخذ حيالها واحدا من الإجراءات الآتية، إما الحذف، وإما التعديل، وإما تقديم الاعتذارات. إلا أن له ميّزة خاصة تميزه وهي أنه يحمل الإحساس الأصدق لدى كاتبه، لذلك فهذه الكتابات تكشف عمّا في النفس من خبايا وخفايا وانفعالات حقيقية تجاه القضايا والأشخاص، كما فعلت الكاتبة العراقية لطفية الدليمي في اعتراضها على نتائج جائزة نوبل للآداب ووصفتها "بالألاعيب النوبلية" ثم عادت وغيرت رأيها، وكنت قد أشرت إلى ذلك في مقال في حينه بعنوان "في احتفالية نوبل السنوية ولطميتها 2021: عبد الرزاق قرنح والتباس الهوية" جريدة بريس ميديا، بتاريخ: 11/10/2021).

إن ذلك يحدث يوميا، بل قد يحدث في اليوم الواحد مئات المرات مع العديد من الأشخاص. فماذا على الشخص لو تحلّى بقليل من ضبط النفس وكظم الغيظ ليتجنب الكثير من المواقف المحرجة؟ إن الضبط العاطفي هو الأكثر ضرورة اليوم في ظل هذه السيطرة الكبيرة لمواقع التواصل الاجتماعي على حياة الأفراد، خصوصا بعد ما شهد العالم كثيرا من حالات "التريند" التي كان سببها هذه الانفعالات غير المنضبطة، والتصرفات المصنفة أنها غير لائقة، فوجد فيها اليوتيوبيون (youtubers) مادة ثرية للحديث في كثير من الحالات، وليس فقط اليوتيوبيون، وإنما خصصت بعض الفضائيات برامج من أجل هذا الهدف كبرنامج هاشتاج أو برنامج نشرتكم، وكذلك برنامج "تفاعل COM"، وكلها لا بد من أنها تعتاش على ما يجري في العالم الافتراضي بمواقع التواصل الاجتماعي، وأكثر ما يلفت نظر هؤلاء المقدمين أو مُعِدّي الحلقات لهذه البرامج هو الناحية الانفعالية/العاطفية فيما يسلطون عليه الضوء من أخبار منتقاة.

إنه، ومما يؤسف له، تحوّل مواقع التواصل الاجتماعي إلى مجال خصب للغرق في حالة من الانغماس العاطفي الوهمي، وبدلا من أن تزيد هذه المواقع الحساسية العاطفية إيجابيا تجاه الأشياء والأشخاص، فإنها صارت محلاً لصناعة مجمل تجليات العاطفة السلبية، وخاصة عند الفئات المهمشة والمضطهدة من المجتمع، كالنساء المعنّفات، وأبناء الطبقة المتوسطة الواقفين على شفير الانهيار والانزلاق نحو الفقر، والمعارضين السياسيين تحت أنظمة القهر السياسي الديكتاتوري، مع أن هذا التفريغ النفسي أحياناً تغضّ الحكومات المتسلطة النظر عنه، لأنه بالنسبة إليها مانعة صواعق، تحميها من إعلان الثورة ضدها، فمعارك رواد التواصل الاجتماعي تنمو وتحتدّ وتنتهي في الفضاء الإلكتروني الافتراضي، كأنّ سيرفانتس أعاد لنا (دون كيشوت)، بطل طواحين الهواء، ولكنْ هذه المرة على شكل أشخاص موهومين، فضائيين، افتراضيين، لا تجدهم على أرض الواقع، فهم أشبه بالذباب، بل إنهم موصوفون أحياناً بأنهم "ذباب إلكتروني"، فهل يضير طنين أجنحة الذباب نظاماً متوغلا ومتوحشاً كهذه الأنظمة التي تدفعنا إلى الافتراضية دفعا بلا رحمة؟

وأخيراً، لقد غدونا مجرد كائنات بلا عاطفة، وبلا فكر؛ شخصيات لا واعية وعيا حقيقيا، إننا بالفعل أصبحنا كائنات هلامية بوعي مزيف، لا تعرف إلا أن تكون ضدّ نفسها، لأنها تقع دائماً فريسة لعاطفتها المتأججة غير المهذّبة، فتم عزل الفرد عن "بيئته وثقافته المحلية باتجاه ثقافة بلا جذور"، فحالة "الاستحمار الإلكتروني" التي يعيشها المواطن العربي تتسم بالسطحية والاستهلاكية، كما رآها نديم منصوري، إذ ينطق صدق التعامل مع مواقع التواصل الاجتماعي بهذا، والمسألة ربما لا تحتاج إلى كثير من الأدلة، فالعاطفة الإنسانية تمّ تفريضها، أي جعلها افتراضية، وتحجيرها، ولعله قد تم سوقها إلى ما لا نرغب وما لا نسعى إليه، إنما تم سوقنا غصبا عنا إلى هذه الدهاليز المعتمة، وربما كان كل ذلك من سمات "الحداثة السائلة" بتجلياتها كافة من "الحب السائل" إلى "الحياة السائلة"، فلا ثبات إلا لمتغيرها اللحظي كل حين.

D 1 كانون الأول (ديسمبر) 2022     A فراس حج محمد     C 1 تعليقات