عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

فراس حج محمد - فلسطين

في رحاب اللغة العربية


الموضوع أدناه مقدمة كتاب عنوانه "في رحاب اللغة العربية"، وقد صدر في الآونة الأخيرة عن دار بدوي، ألمانيا (2023).

.
.
.
فراس حج محمدتتشكل هوية الشخص من مكونات متعددة، وهي مكتسبات يتشربها منذ الصغر، لينسجم مع جماعته، ليشكلوا وحدة إنسانية فيما بينهم، بمعنى أن الهُوية عامل انصهار فكري وشعوري للفرد في المجموعة التي ينتمي إليها.

هذا التوصيف للهوية قد يُدخل الوهم إلى البعض أن العيش المشترك مع الآخر يؤثر فيه وفي هويته ويُفقده شخصيته ويهدد تاريخه، ولكن الناظر إلى المجتمعات يرى أنه على الرغم من كثرة الأعراق المتجاورة في البقعة الجغرافية الواحدة إلا أن ذلك لم يمنع أن يكون للشخص هويته المميزة، وظل المجتمع البشري محافظا على أصالته، وأكبر دليل على ذلك المجتمعات العربية، فعلى الرغم من العلاقات المتعددة مع الآخر المختلف إلا أنها استطاعت التعايش مع الآخر استفادة وتأثيرا، ولم يؤدِ ذلك- فيما أرى- إلى أن تفقد هذه المجتمعات هوياتها وثقافاتها، بل زادها قناعة بأهمية التعاون مع الآخر لإثراء الذات في كثير من الجوانب، وقد اتخذت أشكالا متعددة.

وتعدّ اللغة عاملا مهما من عوامل الهوية، لاسيما عند الأمة الإسلامية، ومنها العرب، فالعربية علامة مميزة للإنسان العربي، ولن أبالغ لو قلت: إن هذا الحدس تجاه اللغة هو إحساس بدهيّ يكاد يكون فطريا عند الإنسان العربي، يتردد صداه في الشعر العربي القديم، كما نص عليه القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة. وعليه لا بد من أن تحوز اللغة العربية مكانتها عند العامة والخاصة.

وكما أن اللغة عامل في الهوية الفردية والهوية الجماعية، كانت محل تجويد يتجلى في المأثور اللغوي المتنوع، بدءا من الشعر حتى تعم جميع الأنشطة اللغوية الأخرى، بل إن اللغة عامل سياسي في أحيان أخرى، لاسيما إن ارتبطت اللغة بالمحتل أو المستعمر كما هو الحال بالمنطقة العربية برمتها، على اختلاف في القوة والدلالة ما بين بلدان العرب وأقطارهم، فالمعركة في الجزائر مثلا على اللغة كانت أشد احتداما منها في مصر على سبيل المثال، وفي فلسطين اتخذت اللغة بعدا أكثر عداوة ما بين المستعمَر والمستعمِر، فلم تقف حدود سيطرة المحتل على الأرض بل تعمّد احتلال اللغة وقولبتها، ومحو كل أثر عربي في فلسطين، فعبرن الأسماء، والثقافة، واستولى عليها كما استولى على الجغرافيا وعلى كل شيء ماديّ.

لأجل كل هذا يأتي هذا الكتاب ليعرض مادته مركزا على اللغة العربية وحضاريتها وعراقتها، وامتدادها عبر تجليات ثقافية وتعليمية، متوخيا في كثير من المواقع الرجوع بالمادة الثقافية إلى حيث النبع الأول، وضرب الشواهد التاريخية والمعاصرة فصيحة، وعامية في حالات محددة، لتأكيد حيوية عيش اللغة في كل عصورها مع أبنائهم.

يقدّم هذا الكتاب صورة للغة العربية، بوصفها "لغة علوم متنوعة وحضارة إنسانية عريقة وإبداع أدبي وفني ساحر، الأمر الذي يوجب تعليمها بعيدا عن الأفكار المسبقة"[1]. وذلك عبر فصوله الخمسة الجامعة للبعدين الثقافي والتعليمي، فكانت هذه الفصول كاشفة عن نواحٍ تطورية في اللغة بفعل عوامل كثيرة، وتجاوب اللغة مع المستجدات الثقافية والحياتية والظروف الطارئة.

كما أنني أخذت بعين الاعتبار قواعد اللغة، وعلومها، ومهاراتها؛ من أصوات، وصرف، ونحو، ودلالة، وإملاء، وتعبير، كاشفاً عن الجانب الرياضي المقعّد في تلك القوانين اللغوية التي يجب أن تحترم، ويُلتزم بها التزاماً يتفق مع جمالية اللغة العربية ونسقيتها ومن ثم منطقيتها الرياضية في جوانبها كافة، هذه المنطقية الظاهرة في اللغة العربية التراثية والمعاصرة، فهي قانون يحكمها، ولا أبالغ عندما أقرر أنه قانون لا يتخلف أبداً.

يأتي هذا الكتاب احتفالا باللغة العربية التي عاشت هذا العمر المديد والممتد، حتى أصبحت لغة معترفا بها في الأمم المتحدة، وليكون الاحتفال بيومها العالمي في الثامن عشر من ديسمبر، وبهذا يكون احتفالا باللغة وأهلها وتاريخهم وحضارتهم، وما أنتجته هذه الحضارة من فكر وأدب وعلوم على امتداد هذا التاريخ الطويل، ومتابعاً ما كنتُ تحدثتُ به عن اللغة العربية في بداية الفصل السادس من كتاب "بلاغة الصنعة الشعرية"، حيث ناقشت في الكتاب جملة من القضايا المعاصرة التي تهمّ اللغة العربية والمتحدثين بها.

كما لم يخلُ الكتاب ككثير من كتبي السابقة من الجانب التفاعلي مع الأفكار، فضمنته شيئاً من آراء الآخرين في الرد على تلك الأفكار، إما كانوا متفقين معي أو مختلفين، وهذا جانب أراه ضروريا في التأليف المعاصر، وفي عرض الأفكار من وجهات نظر متعددة، انطلاقا من فكرة احترام الآخرين الذين يناقشون الأفكار مع المؤلف، ولعلّ أحدهم يكمل النقص الذي وقعتُ فيه، لذلك أظل حريصا على هذا الجانب في كل كتبي التي ألفتها.

تنطلق أفكار هذا الكتاب في الأساس من كوني عملتُ معلما للغة العربية، ثم مشرفا تربويا، أتابع شؤون مبحث اللغة العربية مع المعلمين في الميدان التربوي، وما لذلك من ارتباط بتدريس اللغة العربية، ومتابعة مقرراتها، وإعداد اختبارات تقويمية للمتعلمين، وتدريب المعلمين، عدا تخصصي في اللغة العربية وآدابها والاهتمام بما يصدر من كتب تتحدث عنها، وعما يحيط بها من ظروف، ولذلك أنحو منحى خاصا في مناقشة الأفكار وعرضها، مستندا إلى خبرة شخصية ذاتية في ممارسة اللغة والعمل بها، ودراستها دراسة منهجية في الجامعة، فقد حرصت- من هذا الباب- أن يأخذ الكتاب الطابع الثقافي التعليمي أكثر من كونه كتابا تعليميا صرفاً، وليكون مؤشّرا على الذات وتطورها خلال هذه الفترة الطويلة نسبيا من العمر، وحرصتُ أن يكونَ ممثلاً لكل مناحي التفكير اللغوي لديّ.

ففي الحقيقة، لقد أخذتني اللغة وتأملاتها النصيّة المتعددة إلى أن تكون اللغة حاضرة في كثير مما أكتب، فكان من نتائج هذه التأملات ما عملت عليه- من منطق لغوي شعري إبداعيّ- في ديوان "هي جملة اسمية"، وما بدأته في القسم الأول من تأملات حول "مركزية حضور الاسم في النصوص الإبداعية"، فكان ذلك المشروع نتاج عملية التأمل تلك.

لقد بذلت ما في وسعي لأقدم لغتي التي أحببتها منذ أن وعيت القراءة والكتابة، وكنت أمارس اللغة بلذة عارمة، بداية من سحر الكلمة المقروءة أو المسموعة أو المغناة، ثم بالكتابة وتأمل كيفية بناء النصوص من هذه اللغة الثرية العامرة، فقد كنت أكثر شعورا باللذة وأنا أكتب نصوصي بها، لعلي أمنح نفسي فرصة الوجود في سطر من سطورها.

= = =

[1] جاك لانغ، رئيس معهد العالم العربي، وزير الثقافة الفرنسي السابق، صاحب كتاب "‎اللغة العربية كنز فرنسا".

JPEG - 37.3 كيليبايت
غلاف كتاب فراس حج محمد
D 1 كانون الأول (ديسمبر) 2023     A فراس حج محمد     C 1 تعليقات

1 مشاركة منتدى

  • حياك الله أستاذنا الفاضل...سؤال.. تعريفك بالمقدمة عن الهوية هذا أوقع القارئ بالوهم الذي أشرت إليه في الفقرة التالية..في حين حديثك عن اللغة في متن النص أشرت إلى مفهوم الهوية الفردية والجماعية ...السؤال عن أي نوع هوية تتحدث في هذا التعريف" بمعنى أن الهُوية عامل انصهار فكري وشعوري للفرد في المجموعة التي ينتمي إليها" ألا يوجد هناك تعريف أعم وأشمل لمفهوم الهوية من كونها انصهار الفرد بالمجتمع ليتناسب مع مفهوم اللغة وتطورها بدءاً من الجيينات الوراثية إلى التأثر بالبيئة؟؟


في العدد نفسه

كلمة العدد الفصلي 31: قيم لا قيمة لها

ليسوا أرقاما

فصول الدهشة ومحاولات النجاة

عن لوحة غلاف العدد 31

أمي تقاوم