عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

فراس حج محمد - فلسطين

من معين اللغة: النهر والنهار


فراس حج محمدفي منشور قصير كتبه الشاعر الفلسطينيّ خالد جمعة على صفحته في فيسبوك بتاريخ: 7 نيسان 2016 قال فيه "متغزّلاً" بالنهر، معنىً ومبنىً: "وددت دائماً أن أكون نهراً لأكثر من سبب، أوّلها أنّه لا يتوقّف عن الجريان مطلقاً، وثانيها أنّه يعرف اتّجاهه دائماً، وثالثها أنّ مياهه عذبة ويجتذب جميع المخلوقات، ورابعها أنّه يغسل مجراه بنفسه فيما يمضي نحو بحر ما، وخامسها أنّ حروفه الثلاثة فيها سحر لغويّ لا يمكن وصفه، لكنّ الأهمّ من كلّ هذا، أنّه لا يحتاج أحداً، فهو يعيش على ماء المطر".

أعجبتني هذه الالتفاتة لما فيها من شعريّة، وتأمّل، واستبطان لحال الموجودات الطبيعيّة الإلهيّة، وتذكّرت ما قاله محمود درويش في قصيدة (هي لا تحبّك أنت): "يُعجبُها اندفاعُ النهر في الإيقاعِ/ كن نهراً لتعجبها"، فلم يختر من شكل الماء إلّا النهر، فهو أدعى لإثارة عاطفة المرأة. هكذا كان حدس درويش، ولم يبتعد خالد جمعة عن هذا الحدس كذلك، وإن لم يفصّل درويش مكتفياً بالإشارة والتكثيف المثير للمخيّلة ليفكّر القارئ في هذا الربط الاستعاريّ بين الشخص والنهر.

يأخذ خالد جمعة "النهر" إلى تأمّل خاصّ في كينونته، لعلّه كان يشرح سطر درويش الشعريّ ويضع له مبرّرات، متوهّماً أنّ النهر وهو على هذه الحالة من الوجود، سيثير إعجاب المرأة على الرغم من أنّه لم يربط النصّ بالمرأة كما فعل درويش، بل جعله أكثر تجريديّة، فهل ثمّة علاقة بعيدة أو قريبة، حقيقيّة أو متوهّمة أو لغويّة مجازيّة بين المرأة والنهر؟ هل تذكّر درويش "صاحبات امرئ القيس" اللواتي كنّ يغتسلن في النهر، حيث عابثهنّ مستولياً على ثيابهنّ، حسب ما تقول الروايات التاريخيّة، ليجبرهنّ على أن يخرجن من الماء فيستمتع برؤية أجسادهنّ التي تضجّ بالجمال العربيّ فزادها الماء جمالاً على جمال؟ وهل تحبّ النساء النهر إلى هذه الدرجة من النشوة، كما توهّمتُ في قصيدة "فاطمة والنهر"، فرأيتها تصنع طقوسها الجماليّة موحّدة بين جسمها والنهر نفسه الذي صار رجلاً هو أيضاً:

ماذا تفكّر فاطمةْ؟

وبأيّ قطعة غيم ستلتفّْ؟

أكانت سطوة المَلك العظيم ميّتة بها؟

أكانت تضاجع نهرها وتروي ماءها دون سيّدات النهرْ

تناجي الماء في وَلَهٍ وسرّ؟

أكان بها حنين ما لشيء لا تراه الشهوةُ الجامحة؟

أكانت تفكّر بالسؤال أمِ الجواب؟

أمِ الغوص في المياه الدافئةْ؟

تشعر "بالحدس" أنّ خالد جمعة يحاول الإجابة على طلب درويش، فلا شيء يمكنه أن يحقّق له ذلك، ربّما لأنّه رجل أوّلاً وقبل أيّ شيء آخر، ولأنّه لا يملك صنع المعجزات، ولكنْ، هل كانت المرأة نهراً؟ فقوله: "وددت أن أكون نهراً" فيه استجابة تكاد تكون مباشرة لطلب درويش "كن نهراً" مع الاعتراف بالعجز عن أن يكون نهراً أو "كائناً" نهريّاً؛ له صفات النهر تلك، فكلّ صفات الإنسان لا تشير إلى أنّه يستطيع أن يتّصف بالصفات الخمس التي ذكرها خالد جمعة إلّا على نحو مجازيّ أو مؤقّت. وعليه، فالنهر يحمل معنى الخلود المضادّ لحقيقة الإنسان الفاني، وربّما من أجل هذا المعنى عنون الشاعر المصريّ محمود حسن إسماعيل قصيدته عن نهر النيل بهذا العنوان الدالّ "النهر الخالد"، وقد جاء فيها هذه الأبيات:

يا نيلُ يا ساحرَ الغيوبِ

يا واهبَ الخُلدِ للزمانِ

يا ساقيَ الشعر والأغاني

هاتِ اسقني واسقني ودعني

أهيمُ كالطيرِ في الجنانِ

يا ليتني موجةٌ فأحكي

إلى لياليكَ ما شجاني

لحّن القصيدة وغنّاها محمّد عبد الوهّاب، وكانت ملهمة للصحفيّ سعد الدين وهبة في حواره المطوّل مع الموسيقار محمّد عبد الوهّاب، فجعل عنوانها عنواناً لكتابه "النهر الخالد". وتكتسب هذه الأبيات أهمّيّة مضاعفة؛ كونها ترسم "للنيل" سماتٍ جماليّة وأسطوريّة أبعد ممّا عرف في البلاغة العربيّة من "تشخيص". إنّ له مقدرة إلهيّة تشبه آلهة الجمال في الحضارات القديمة الوثنيّة.

على كلٍّ، أعادني منشور خالد جمعة كذلك إلى القرآن الكريم، إذ لم يرد فيه من أشكال الماء في الجنة إلا العين والنهر، والنهر أكثر حضوراً وتعدّداً، وفي القرآن سورة باسم "الكوثر" الذي هو نهر من أنهار الجنّة، وجاء في حديث للنبيّ عليه الصلاة والسلام عن الكوثر قوله: "هل تدرون ما الكوثر؟" قالوا: "الله ورسوله أعلم". قال: "هو نهر أعطانيه ربّي عزّ وجلّ في الجنّة، عليه خير كثير، ترد عليه أمّتي يوم القيامة، آنيته عدد الكواكب". وغير هذا النهر، ثمّة نهر من الماء النمير، ومن لبن، ومن خمر، ومن عسل، والجنّة -بوصفها مكاناً جماليّاً- "تجري من تحتها الأنهار" أو "تجري تحتها الأنهار". وقد ورد ذكر الأنهار والنهر في القرآن الكريم (54) مرّة، والتفت إلى حضوره بعض الباحثين فأفاضوا في الحديث عن الأنهار وارتباط الجنة بها، من ذلك ما جاء في "موسوعة التفسير الموضوعي للقرآن الكريم": "فالعلة في اقتران الجنات بجريان الأنهار من تحتها هي زيادة النعيم واكتماله الذي أعده الله لأهل هذه الجنات".

أيضاً ثمّة أشعار كثيرة لشعراء غير درويش ومحمود حسن إسماعيل استند مبدعوها إلى النهر، وما في هذا اللفظ من إيقاع ساحر "لا يمكن وصفه"، كما جاء في منشور خالد جمعة أعلاه، ولاسيّما أشعار الاتّجاه الرومانسيّ المعاصر، فقد وجدوا في هذه المفردة شاعريّة ثرّة، سواء أكان المعنى حقيقيّاً أم مجازيّاً، وسواء أكان في الحشو أم في القافية، ففيه سلاسة وعذوبة. فبالعودة إلى "موسوعة الشعر العربيّ" وتتبّع مفردات: (النهر والأنهار والأنهر والنهار) سيجد الباحث أن هذه الألفاظ بارزة بشكل لافت في قصائد الشعراء، لا سيّما شعر ما بعد الإسلام، في العصر العباسي وما بعده، وفي بيئات الشعر الحضاريّة الشرقيّة، وشعر شعراء البيئة الأندلسيّة في العدوة المغربيّة -بطبيعة الحال- فقد برزت فيها أكثر من غيرها من البيئات مظاهر الطبيعة في أبهى جماليّاتها، وما تثيره في النفس من متع شتى، كأنّها جنّة الله على الأرض.

تمتاز حروف هذه المفردة (ن هـ ر) أنّها من حروف الهشاشة والذلاقة والتكرار، فالنون أخت الراء مخرجاً وصفاتٍ، إلّا أنّ الراء تكراريّة تناسب فعل الجريان في النهر، والنون وما فيها من معنى الليونة، يناسب طبيعة الماء الفيزيائيّة، والهاء حلقيّ مهموس احتكاكيّ، يناسب الماء واحتكاكه وجريانه. إنّ المعنى الفيزيقيّ لكلمة "نهر" متخلّق من اجتماع هذه الحروف الثلاثة، حسب نظريّة تشكّل معنى المفردة من حروفها الأصلية في الجذر الثلاثيّ، تلك النظرية التي أسّس لها ابن فارس في معجم "مقاييس اللغة".

وجاء في المعجم أنّ أصل معنى لفظ "نهر" يشير إلى الكثرة والغزارة، فماؤه "لا يجفّ" بمعنى أنّه متجدّد دائم، وهذا يعني أيضاً "السعة والاتّساع"، وعرّفه المعجم بقوله: "المجرى الواسع للماء النابع من الأرض"، وبهذا التوصيف اللغويّ يختلف عن "العين" التي ذكرت في القرآن الكريم في مواضع منها قوله تعالى: "عيناً يشرب بها المقرّبون، يفجّرونها تفجيراً"، فبعد خروجها في موضعها يبقى ماؤها ثابتاً في الأعمّ الأغلب، ويتجدّد ماؤها بطريقة تختلف عن تجدّد ماء النهر، على الرغم من أنّ بعض المفسرين فسروا العين الجارية بالنهر. ولأنه لا ترادف في القرآن الكريم، فإنه لا شك في أن هناك اختلافاً في المعنى على الحقيقة بين النهر والعين، فجريان ماء العين ليس كجريان ماء النهر، ولم يذكر القرآن الكريم ذلك إلّا لأن العرب تعرف الفرق بين العين الجارية وبين النهر الذي هو بطبيعته "ماء جارٍ".

من هنا ربّما جاءت المقولة الفلسفيّة "إنّك لا تشرب من ماء النهر مرّتين"، لأنّه لا يستقرّ ماؤه بتاتاً، ويتحرّك في كلّ لحظة، إلّا أنّه تحرُّك نحو الأمام، دون أن ينتهي الماء، أو يمكث في محلّه ليأسن، فكأنّه في شباب وطهر دائمين، وعذوبة أبديّة، واهب الخلد للزمان، ليس النيل فقط، بل كلّ نهر له هذه الميزة، وواهب الخلد تعني- فيما تعني- أنّه واهب الحياة والحضارات، فكانت الأنهار الأماكن الأصليّة لنشوء حضارات كثيرة، ومدن عريقة لها شأنها التاريخيّ، فقالوا إنّ مصر هبة النيل، والأمر نفسه يقال عن أنهار عربيّة وغير عربيّة لها دور في استقرار الإنسان وبناء حضارته على مرّ العصور.

وأغلب الظنّ أنّ الكاتب السوريّ زكريا تامر اعتمد على هذا المعنى لبناء قصّته "لماذا سكت النهر؟"، فهذه هي حالة النهر الأصليّة قبل أن يستولي عليه "رجل متجهّم الوجه، يحمل سيفاً": "وكان النهر يبتهج لحظة يسقي الأشجار فيجعل أوراقها خضراء. وكان يهب ماءه بسخاء للورد كي لا يذبل. ويدعو العصافير إلى الشرب من مائه حتّى تظلّ قادرة على التغريد. ويداعب القطط التي تأتي إليه فيرشقها بمائه، ويضحك بمرح، بينما هي تنتفض محاولة إزالة ما علق بها من قطرات الماء". وتصف القصّة بعد أن استولى هذا الرجل على النهر ومنع الجميع من الاستمتاع بمائه المشهد كما يأتي: "بكى الورد. بكت الأشجار. بكت العصافير. بكت القطط. بكى الأطفال، فهم لا يملكون ذهباً، وليس بمقدورهم العيش دون ماء، ...، فذبل الورد، ويبست الأشجار، ورحلت العصافير والقطط والأطفال". إذاً، فالنهر -كما قال خالد جمعة- "يجتذب جميع المخلوقات" إليه، فيحبّه الطيّبون، ويستغلّه الأشرار والانتهازيّون والطمّاعون.

كما أنّ للنهر معنى القداسة والتطهُّر، لا سيّما في المعتقد المسيحيّ، فلا بدّ من أن يدخل الطفل في طقوس التعميد التي تجري في نهر الأردنّ، بوصفه نهراً مقدّساً، ويذكر الكتاب المقدّس أنّ عيسى، عليه السلام، كان قد عمّده يحيى بن زكريا في نهر الأردنّ. ومن هذا الفعل اكتسب اسمه المعروف به لديهم "يوحنا المعمدان"، وربّما وجد الباحث في الأحاديث الشريفة شيئاً من هذا الفعل للنهر، فحسب المعتقدات الإسلاميّة ثمّة فريق من الناس يخرجون من النار بعد فترة من التعذيب، فقبل أن يستقرّوا في الجنّة لا بدّ من أن يتجدّدوا في "نهر الحياة". يصف الحديث الشريف الآتي هذا المشهد بهذه الكيفيّة: "إِذا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ يَقُولُ اللَّهُ: مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ، فَيَخْرُجُونَ، قَدْ امْتُحِشُوا، وَعَادُوا حُمَماً، فَيُلْقَوْنَ فِي نَهَرِ الحَياةِ، فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الحبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ".

ومن معاني النهر: العنب الأبيض، ولعلّ العرب استعارت "نَهَرَ السائل" أي طرده من فعل جريان ماء النهر، فبعد أن تطرد سائلاً ما وتنهره "بعنف"، يذهب جرياً، ولم يعد إليك مرّة أخرى غالباً، أو تتمنّى ألّا يعود ثانية، كما النهر الذي لا تعود مياهه ذاتها التي مرّت عنك ثانية إليك.

هل من علاقة إذاً بين النهر والنهار عدا أنّهما من أصل لغوي واحد بعد هذا البيان المتقدّم؟

جاء في تعريف النهار لغويّاً أنّه "ضياء ما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس"، وفيه تتدفّق الشمس، جارية باتّساع شامل، وجاء في وصف النهار، فقالوا: نهار نهِر أيْ مضيء، وعلى ذلك فقد اشترك النهار مع النهر في صفات الإضاءة والوضاءة والبياض، والاتّساع، والجريان والتجدّد، والحياة، فكما لا يقف الوقت ويظلّ يجري، فإنّ ماء النهر يظلّ يجري، وعدا هذا كلّه فالنهار النهِر مضيء أبيض، كالعنب الأبيض الذي يكتسب حلاوة في طعمه وسلاسة في المذاق، إضافة إلى أنّ للنهار في عرف العرب معنى إيجابياً، مغايراً لمعنى الليل الذي نفر منه الشعراء في أغلب قصائدهم، وكان ظرفاً وُصف بأنه "أعمى"، قال الشريف الرضي:

وَاللَيلُ أَعمى شارِقَ الرواقِ = = نَذيرَ قَومٍ جَدَّ في اللحاقِ

في حين أنّ النهار فيه الحياة والنور والمعاش، فإذا كان الليل "أبو ساتر" حسب التعبير الشعبي في فلسطين، إلّا إنّ "حاطب الليل" أعمى في أمثال العرب، فيكون حتفه في احتطابه، وإنّ النهار "أبو عينيْن" كذلك. وإذا كان الليلُ "قرين الهموم" ومجال الهواجس والكوابيس، فالنهار قرين التمتُّع بالطبيعة بكلّ ما فيها من أنهار وجمال وضياء وربيع وشمس، إذ "إنّ لك في النهار سبحاً طويلاً". أيْ سعة لقضاء الحوائج، وفي تفسير آخر "متاعاً طويلاً"، ولا يخفى على القارئ ما اجتمع عليه وجود النهر في المكان مع النهار المضيء المشمس من اكتمال المتعة والتلذّذ بالنعمة، ولذلك جاء النهار في النصّ القرآنيّ بهذا الوصف "والنهار إذا تجلّى"، ففي التجلّي كثير من المعاني والأفكار التي يمكن للمخيلة أن تستلّها أو تبنيها.

ولذا، فإنّ هذا وذاك (النهر والنهار) من دائرة معنويّة واحدة تأتلف أكثر ممّا تختلف، إنّها تتنوّع، وتتّسع لتعطي المفردات معاني متّسعة يجد فيها الشعراء ضالّتهم لتوظيفها حيث يجعلونها "نهراً من الإيقاع حرّ" سلساُ في القصيدة التي قد تعجب المرأة المحبوبة في شعر الغزل، أو تهزّ الممدوح وتجعله ينتشي بعد أن يرتوي من نهر المعاني في المدح أو الفخر، ولا عجب أن يكون الجهل أسود كالليل، والعلم أبيض كالنهار، كما جاء في قول الشاعر جميل صدقي الزهاوي:

ألا إنّ ليل الجهل أَسودُ دامسُ = = وإنّ نهار العلم أَبيضُ شامسُ

أيْ أنّه نهار ذو شمس، أبيض، مضيء، وبهذا تتطوّر المجازات التي تتّكئ على لفظ "نهر" ومشتقّاتها ليجدها الباحث في كلّ مجالات الإنسان الحضاريّة، والمتعة النفسيّة، والبهجة الروحيّة، والطقوس العقديّة، فتسعفه اللفظة في بناء استعارات جديدة لمعاني مستجدّة بفعل التقدم الإنسانيّ على مرّ العصور، فإنه "لا يتوقّف عن الجريان مطلقاً" كما قال خالد جمعة.

D 1 أيلول (سبتمبر) 2023     A فراس حج محمد     C 0 تعليقات