موسى أبو رياش - الأردن
الضحية والجلاد
دخلت سيارة الإشراف ساحة المدرسة، فاشرأبت الأعناق إليها، وشخصت العيون، ووجفت القلوب، تنتظر من سينزل! ومن تكون الضحية؟
نزل المشرف المسؤول عني، فمادت الأرض تحت قدميَّ، وقلت في سري: رحماك يا ربي!
أخذتُ أمني النفس: لعله جاء لغيري؛ زيارة إدارية، زيارة تفقدية، تحقيق، زيارة لزميلة أخرى، متابعة نشاط ...
بعد دقائق، جاءني خبر يبدد بقايا أحلامي، ويضعني أمام قضاء لا مفر منه، خبر يبلغني أنَّ المشرف سيحضر حصة صفية عندي، فلأكن على أهبة الاستعداد، وفي قمة الجاهزية.
غاص قلبي بين ضلوعي، فقد جاءت لحظة الامتحان، وهرعتُ إلى دفاتري وكتبي وأوراقي، أدققها وأراجعها، أحاول أن أتدارك النقص فيها، وأخذت أخاطب نفسي: رباه، عذاب وشقاء في البيت من واجبات لا تنتهي، وزوج لا يرحم، وفي المدرسة إدارة فوقية لا تقدر، تنظر إلى المعلمات كآلات دون أحاسيس أو مشاعر، وطالبات لا يتحملن أية مسؤولية، يعتبرن المدرسة نزهة وفرصة للخروج من سجن البيت، والتمتع بالحرية، وممارسة بعض التصرفات غير المرغوبة تحت ذريعة المراهقة التي يجب أن نراعيها ونداريها ونتفهمها، وأكمل الخناق مشرف يرى نفسه فوق السحاب، أعلمُ من عليها، فلم يكن قبله أحد، ولن يكون بعده أحد، لا يعجبه العجب ولا الصيام في رجب.
دخلتُ الغرفة الصفية، وأوصيت الطالبات: استرنني أمام المشرف، أريدكن نموذجاً في المشاركة، وشعلة من نشاط، ولتظهر كل واحدة منكن أقصى طاقاتها الإبداعية والتحصيلية، ولتحرص على الأدب وحسن السلوك. ولن أبخل عليكن بعلامات مجزية إن كنتن عند حسن الظن، وعند الأمل المعقود عليكن.
دخل المشرف، عاقداً جبهته كأبي جهم، حاملاً دفتره (دفتر عتيد)، وليته يكون يوماً (دفتر رقيب). جلس على مقعد خلف الطالبات، وفتح دفتره (سجل السيئات)، واستل قلماً استعداداً لتسجيل الملاحظات التي غالباً ما تكون سلبية، فمهمته بالتأكيد –كان الله في عونه- توثيق السلبيات، أما الإيجابيات فهي الأساس، ويفترض أن تكون المعلمة معصومة دون أخطاء، كاملة دون نواقص، نموذجية في كل شيء!
بدأت الحصة، وتتابعت الفعاليات وأخذ المشرف يكتب، وتوزعت نظراتي بين الطالبات وقلم المشرف الذي لا يتوقف، وتشتت تفكيري وأنا أتخيل ما يكتب، فكلما زاغت نظراتي نحوه رأيته يكتب ويكتب بجد واهتمام.
انتهت الحصة، وقد غرقت بعرقي، تنفست الصعداء، فقد قُضي الأمر. لملمت أوراقي ودفاتري وكتبي، وخرجت خلف المشرف، أمشي مضبوعة دون إرادة مني، كالمحكوم عليه بالإعدام ينتظر لحظة تنفيذ الحكم.
جلست في غرفة الإدارة قرب المشرف، ونكست رأسي أرضاً انتظر النطق بالحكم. أخذ المشرف أوراقي ودفاتري وأخذ يقلبها ويتفحصها، وهو يدون في دفتره شيئاً بين الفينة والأخرى.
ملأ ورقة كاملة بالملاحظات، وبخط صغير يكاد لا يقرأ، يا لشدة الحساب، وسوء المنقلب، وشماتة الأعداء!
وأخيراً نطق: كنت أتمنى أن تكوني أفضل من ذلك!
بداية غير مشجعة، فالبدايات تشي بالنهايات.
قلت: أعتذر، كنت متعبة قليلاً.
قال: يا أختي يجب أن تتركي متاعبك في البيت، فمشاكل البيت في البيت، فلا ذنب للطالبات في متاعبك.
قلت: اعتذر، فأنا مخطئة، وأعدك أن لا يتكرر ذلك مرة أخرى.
قال: أنبهك إلى ضرورة تعزيز الطالبات.
قلت: لقد فعلت.
قال: من عشرين طالبة شاركن، عززت خمس عشرة طالبة فقط.
قلت: وهل يفترض أن أعزز كل الطالبات؟
قال: بالطبع هذه بديهة تربوية.
قلت: ولكن إجابات البعض ومشاركاتهن كانت عادية جداً لا ترقى إلى مستواهن المعتاد.
قال: وليكن، لقد بذلت كل منهن جهداً وتستحق مكافأة.
قلت: ولكن هذا يخالف الأدب التربوي الذي يفترض أن يكون للتعزيز قيمة، وأن لا يعطى هكذا كيفما اتفق.
قال: ما شاء الله! أصبحت منظرة تربوية. ما رأيك أن تعلميني عملي؟
قلت: العفو يا أستاذ. أنا آسفة جداً. لم أقصد، ولكن هكذا قرأت في مجلة تربوية متخصصة.
قال: ليس كل ما يُكتب صحيح. ثم إني مشرفك المباشر، وكلامي هو الذي يجب أن يُتبع ويُطاع وأن يُؤخذ به.
قلت: حاضر يا أستاذ، أمرك.
وأخذ يقلب دفتر التحضير بتجهم، وأنا انتظر على أحرَّ من الجمر، ويدي على قلبي.
فجأة برقت عيناه وتهللت أساريره، وقال: لقد استخدمت في الصف طريقة الأسئلة والأجوبة، ولكن في الدفتر مثبت أنَّ الطريقة التي ستستخدم هي العمل الجماعي.
يا للهول، أي ورطة وقعت فيها، وأي جريمة اقترفت؟
قلت: لقد اجتهدت عند التحضير، وكتبت العمل الجماعي، ولكن عندما شرفتنا بزيارتك قررت تغيير الطريقة لأنها أكثر حيوية.
قال: ولكن هذا خلل كبير، فيجب أن يتفق التنفيذ مع التخطيط.
قلت: ولكن ألم تعجبك طريقة الأسئلة والأجوبة؟
قال: كانت طريقة بارعة، وكان نشاط الطالبات مميزاً، ولكن كان عليك أن لا تخالفي ما هو مكتوب.
قلت: وهل يضير أن أغير المكتوب ليتفق مع ما تم تنفيذه؟
قال: طبعاً هذا يعتبر خطأ في التخطيط، مما يدل على عدم التخطيط الجدي الفعال.
قلت: ولكنك أشرت أن الحصة كانت جيدة؟
قال: فعلاً كانت حصة مميزة، وقد تحققت جميع النتاجات المطلوبة.
قلت: وهذا هو المطلوب في النهاية دون التقيد بالمسميات التي لا معنى لها.
قال: مسميات لا معنى لها؟ ماذا تقصدين؟ وبم تهرفين؟ ما هذا الكلام غير التربوي؟
أدرك أني تجاوزت الخطوط الحمراء، ودنست مقامه السامي.
قلت: أقصد أننا نريد العنب سواء أصعدنا على كرسي لقطفه أو على سلم أو حتى على برميل!
قال: ما شاء الله! حضرتك متعهد زراعة أم معلمة؟ هل يصح أن نقول أنك مشرفة وأنا معلم؟
قلت: كنتَ معلماً يوماً ما، وقد أصبحُ مشرفة يوماً ما.
قال: هذا تطاول لا أقبله.
قلت: لا أرى فيه تطاولاً يا أستاذ، فأنا أقرر حقيقة لا غبار عليها، واحتمالاً لا تستطيع الجزم بعدم وقوعه.
قال: أراك اليوم فيلسوفة زيادة عن اللزوم.
أردت أن أكحلها فعميتها، لا بدَّ من الانسحاب المشرف.
قلت: لا فلسفة ولا شيء، بل أنا تلميذتك التي تتعلم منك.
هدأ المشرف قليلاً، وأخذ يكتب في دفتره، وقلبي يدق بشدة، لقد جادلت من لا يجب أن يُجادل، وما لزوم ما لا يلزم؟
سألت: هل هناك سلبيات أخرى يا أستاذ؟ فأنا أحب أن أستفيد من ملاحظاتك وخبراتك التي تنير طريقنا وتثبت أقدامنا في طريق التدريس المتعبة الشاقة.
قال: ألا يكفي عدم تعزيز بعض الطالبات وعدم الالتزام بالتخطيط؟
قلت: يكفي وزيادة، فما كان لي أن أقع في هذه الأخطاء التي لا تغتفر.
قال: إنها ملاحظات مهمة كما ترين.
قلت: مهمة جداً، ولا ينكر أهميتها إلا جاهل.
قال: ولا يختلف على أهميتها اثنان.
قلت: أرجوك، اعتبر الزيارة إرشادية، ولا تحتسبها تقريراً وعلامة.
قال: إني مضطر أن أقدر لك علامة لأني لا استطيع زيارتك مرة أخرى.
قلت: افعل ما تشاء يا أستاذ، فأنا طوع أمرك، ولكن كن بي رحيماً وعليَّ شفوقاً.
قال: تقدير (جيد) مناسب جداً ومنصف.
قلت: ولكن ...
قال: دون لكن، هناك ملاحظتان، وكل ملاحظة بدرجة، فلو كانت ملاحظة واحدة فقط لمنحتك (جيد جداً)، ولو خلت حصتك من الملاحظات لاستحققت (ممتازاً) بجدارة.
قلت: أمري لله. أي شيء منك يا أستاذ خير وبركة.
قال: هل عندك أي سؤال؟
قلت: لقد كفيت ووفيت يا أستاذ. أشكرك كثيراً، واعتذر عما سببته لك من إزعاجات لم أقصدها.
غادرت غرفة الإدارة، أجرجر أذيالي، وأحمل أشلائي، وقلبي ينزف ألماً وحرقة. وما أن وصلت غرفة المعلمات حتى دارت الأرض بي، وأظلمت الدنيا أمام عيني، ثم تهاويت على الأرض.
◄ موسى أبو رياش
▼ موضوعاتي
6 مشاركة منتدى
الضحية والجلاد, سمير الشريف/الأردن | 27 تموز (يوليو) 2012 - 00:46 1
اشكرك اخي المبدع موسى فقد كانت قصتك تشريحا دقيقا
وكشفالسؤءات واقع التعليم الذي تردى للحضيض لأسباب
كثيرة ولعل مهزلة الشراف التي اصبحت بفعل المحسوبيات واحدة منها حيث عرفنا من اصبح مشرفا ولم يدخل غرفة صفية وغيرهم ممن كانوا لا يتمكنون من ضبط حصة واصبحوا مشرفين ولا حول ولا قوة الا بالله
الضحية والجلاد, إبراهيم يوسف- لبنان | 28 تموز (يوليو) 2012 - 06:41 2
موسى أبو رياش- ألأردن
ألنص الهادف يكتبه موسى أبو رياش في العموم، وهذه المرة على وجه الخصوص..؟ يستحق أن تتصدره صورة صغير باللون الأزرق، لخرزة زرقاء ترد عنه العين.. تلك هي الحال يا صديقي وهذه هي الوسيلة في التعاطي بين الرئيس والمرؤوس، وهي من أخطر الأمراض، التي سببتِ الكثير من هزائمنا، والدوس على شخصياتنا.
تولدت لدي قناعة قديمة جديدة، أن الطريق إلى المسؤولية يسلكها الكثيرون بطرق ملتوية، ويصلون أيضاً..! فإذا كان سوء الظن من حسن الفطن..؟ وبلغكَ مثلاً أن سيدة في الوسط "المخملي" جَيَّرَتْ مكسباً أو منفعة لمصالحها، ثم أقامت مأدبة إفطار يعود ريع التبرع فيها لليتامى والمساكين..؟ فلا تصدقها، ولا تحسن الظن بها ولو كنَّا في رمضان.
الضحية والجلاد, أشواق مليباري\ السعودية | 29 تموز (يوليو) 2012 - 07:15 3
نص جميل جدا، يعبر عن واقع مرير، ليس فقط في القطاع التعليمي بل في كل مؤسساتنا للأسف.
أبدعت في تقمص شخصية المعلمة (الضحية) والحديث على لسانها ببراعة الكاتب المتمكن.
ماشاء الله لاقوة إلا بالله
دمت مبدعا أستاذنا.
الضحية والجلاد, أمل النعيمي | 1 آب (أغسطس) 2012 - 14:32 4
الأخ الفاضل موسى: من ابدع وأذكى ماقرأت عن ديكتاتوريّة الرئيس واضطرار المرؤوس لتقديم تنازلات لاحد لها ومسح جوخ كما يقال باللهجة الدارجة وهو يغلي بأعماقه والمضحك المبكي انّ الرئيس يتصرّف هكذا غالبا ان لم يكن دائما ليغطي نقصا يستشعره هو فقط بأعماقه فيبدأ التصرّف على طريقة : أتغدّى به قبل أن يتعشّى بي وترى المرؤوس غالبا شخصا مبدعا خلاّقا شاء حظّه التعس أو احتاجه المادي.. أو .. أو .. الى تحمّل ما لا يحتمل ..!! هذا لايقتصر فقط على القطاع الدراسي لكنه المرض المعلن الخفي الشرق أوسطي بشكل خاص عن سادية المسؤول أو الbOSS كما اعتدنا مناداته/مناداتهاورغبته الغريبة في المازوشيّة أو تعذيب المرؤوس ولو كان ملاكا بغير جناح..أتمنّى لو ان هناك وسيلة ما تعمم نصّك على كلّ من يهمهم أو يهمهن الأمر لأنّي أظن انّ الربيع العربي الحقيقي يجب أن يبدأ من هنا فهذه الشريحة من المجتمع لغم قاب قوسين أو أدنى من الانفجار... تحيّاتي.
الضحية والجلاد, سيرين عبود | 2 آب (أغسطس) 2012 - 07:25 5
قصة عادية مليئة بالدلالات وبها خطابة خفية خاصة بمعاناة المعلمين وقصصهم، وفيهااسترسال اكثر من اللزوم ، ولكنها خالية من عناصر التشويق والابداع!
الضحية والجلاد, محمد التميمي | 6 آب (أغسطس) 2012 - 06:39 6
الاستاذ موسى
أهنئك على هذا النص الذي برغم بساطته الا انه يحمل الكثير من العبر ولا يتوقف فقط عند وصف معاناة المعلمين وانما معاناة الديكتاتورية الممارسة على المرؤوسين كما قالت الاخت أمل.
مبدع كعادتك