عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 
أنت في : الغلاف » أرشيف أعداد عـود الـنـد » الأعداد الشهرية: 01-120 » السنة 6: 60-71 » العدد 63: 2011/09 » صراع الموت والحياة في رواية "في البال" لغصون رحال

موسى أبو رياش - الأردن

صراع الموت والحياة في رواية "في البال" لغصون رحال


محمد إبو رياش"في البال" (*) للأديبة غصون رحال، رواية مشغولة بحرفية عالية، وتتصاعد فيها الأحداث بانسياب وسلاسة، تشد القارئ من بدايتها إلى نهايتها. ولا عجب فهي الرواية الرابعة لكاتبة متمكنة من لغتها وأدواتها بعد "موزاييك" (1999)، و"شتات" (2002)، و"خطوط تماس" (2006).

تخيم على الرواية رائحة الموت من سطورها الأولى، حتى خاتمتها، ففي الصفحة الأولى من الرواية نقرأ: "فوق السرير، يسترخي جسدها نصف حيّ، نصف ميت!" (9). وفي الفقرة الأخيرة: "احتويتها بين ذراعيّ، قبّلتها قبلة طويلة فوق شفتيها، أسبلت على إثرها عينيها، وما عدت أدري إن كانت ستفتحهما ثانية..."(242). فهي رواية رغم غناها بالأحداث إلا إنَّ الموت هو محور الرواية الذي ترتكز عليه، ويبدو أنَّ هاجس الموت والخوف من المرض يؤرق الكاتبة، أو على الأقل من منغصات الحياة التي تعيشها، ويعيشها بالضرورة كل واحد فينا.

غصون رحالوتوظف الكاتبة الحرب القذرة على غزة نهاية 2008، وما تعرض له القطاع من تدمير وحرب إبادة، لتسير جنباً إلى جنب مع مرض بطلة القصة رهام، وانتظارها الموت في أية لحظة. فغزة تواجه قدرها في وجه السرطان الصهيوني الذي يحاول أن يستأصل وجودها وكسر صمودها، ورهام تتابع ما يحدث في غزة وهي تواجه سرطان الثدي ومضاعفاته التي استسلمت لها، ورفضت الاستمرار في العلاج بعد العملية الأولى والعلاج بالكيماوي، في رضوخ للنهاية الحتمية، فالعلاج قد يؤخر النهاية قليلاً، لكنه لن يمهلها طويلاً.

يلقي الموت بظلاله على مجريات الرواية، مما يجعل القارئ يتعاطف مع رهام ومعاناتها مع المرض، ويشفق على زوجها وليد والعبء النفسي الملقى على عاتقه، وحيداً معها، ويأسف لحال هذين الزوجين الذين تزوجا في العقد الخامس بعد أن أوشك قطار الزواج أن يفوتهما، ولم يمهل المرض رهام، فعاجلها بعد فترة قصيرة من الزواج قبل أن تجرب إحساس الأمومة التي تتمناها، أو على الأقل تسعد بزواجها :"لم أتم فرحتي بعد، ما زلت عروساً وإن تجاوزت الأربعين!"(19)

بل إنَّ مرض سرطان الثدي كان هاجساً عند رهام من قبل، فقد :"غدت على يقين من أنَّ هذا المرض سينال من جميع نساء الأرض، إنها مسألة وقت لا أكثر، وعلى جميع النساء انتظار أدوارهن برباطة جأش. لسوء الحظ، أو لسبب آخر يصعب فهمه، حان دورها بأسرع مما توقعت. ورغم التحصينات التي أحاطت بها نفسها طيلة هذه السنين لمواجهة أي ضعف أو انهيار في حال إن وقع عليها الدور، إلا أن حالة من الجزع اجتاحت كيانها."(19). وعندما أخبرها الطبيب عن احتمالية إصابتها بسرطان الثدي، ولكن ذلك لن يتأكد إلا بعد أجراء الفحوصات اللازمة "عادت إلى المنزل ماشية وظنونها تكاد تشل قدميها. ألقت بنفسها على أول مقعد وأجهشت بالبكاء. تلفتت حولها وكأنها ترى المكان للمرة الأولى، ما عادت الأشياء على حالها، كل الأشياء اكتسبت معاني جديدة."(61). وهذه الجملة الأخيرة جملة فلسفية بامتياز، وهي تعبر عن حقيقة يعيشها كل من أصيب بمرض لا نجاة منه، مرض يقود إلى النهاية الحتمية، فالحياة بعد المرض تختلف عما قبله جملة وتفصيلاً!

وبجوار معركة رهام مع المرض، ومعركة غزة مع عدوها الغاشم، تبرز معارك أخرى، لا تقل أهمية لأطرافها، فهناك معركة والدي رهام بعد أن تزوج والدها من أخرى. ومعركة إلهام وزوجها لطفي في سبيل الحصول على حق اللجوء إلى بريطانيا. والمعركة الأكبر هي معركة الشرق مع الغرب، هذه المعركة التي بدأت مع الاستعمار ولم تنته بعد، وتتمثل في الرواية ببريطانيا الدولة الأعرق استعمارياً، والأكثر دماراً وتأثيراً فيما تركته من شرور وآثام ما زالت تتفاعل في الشرق العربي، وأهمها دولة الاحتلال الصهيوني في فلسطين.

وتتجلى المفارقة في الصراع بين الشرق والغرب في مواقف كثيرة في الرواية منها موقف والدي وليد :"منذ أربعة عشر عاماً، وأبي وأمي يبنيان السدود والحواجز التي تحول بينهما والعالم الخارجي في هذا البلد. بيتهما حصن منيع في مواجهة الغرباء."(33). والجمعيات العربية في بريطانيا التي تغلب عليها ثلاث سمات حسب وليد: "التقوقع على ذاتها وعدم الاندماج مع المجتمع المضيف. كراهية الذات وانعدام العمل الجماعي، بمعنى أن العرب لا يحبذون التعامل مع العرب. وأخيراً، الكذب على الذات، تسمعينهم يئنون بالحنين إلى بلدانهم، ويتغنون بحب أوطانهم، بينما هم يتشبثون بالحياة في الغرب بأظافرهم وأسنانهم."(169). وموقف الهام وزوجها العراقيين الذي يعبر عنه وليد:" غريب هذا التناقض، يخافون على طفلتهم من الانحلال، وينتقدون القيم الغربية المنحلة والحضارة المشوهة، ثم يتمسكون بالحياة هنا رافضين العودة إلى نعيمهم المفقود!"(194).

ويبرز رأي رهام ببريطانيا صارخاً واضحاً، فهي لا تبرأها من جرائمها، رغم الحرية والحياة الكريمة التي توفرها لجميع من يلجأ إليها من مهاجرين ولاجئين، فرهام ترى أننا كعرب بالنسبة للبريطانيين: "متخلفون أو رعاع! لم ننضج بعد، وعلينا البقاء تحت وصايتهم إلى أن نتعلم كيف نصبح مثلهم، نحن بالنسبة لهم أحرار فقط عندما يتعلق الأمر بتقليدهم."(41). وفي تفسيرها لسياسة بريطانيا المنفتحة على المهاجرين تقول: "أنا أعتقد أن هذه الدولة تكّفر عن ذنوبها تجاه الأمم التي استعمرتها ونهبت خيراتها يوم أن كانت أراضيها لا تغيب عنها الشمس."(121). وتؤكد على جريمة بريطانيا مخاطبة زوجها وليد: "أليست هذه الإمبراطورية وراء كل ما يجري ويجري في بلادنا من فتن طائفية، وحروب أهلية قذرة؟ أليست هي من فتتت وطننا إلى دويلات عاجزة وتابعة؟ أليست هي من فرقتنا إلى طوائف، وقبائل متناحرة؟ أنظر ما حلّ بالعراق، ولبنان، والصومال، والسودان... متى تفهم التاريخ؟"(149)

وتؤكد الرواية من خلال تجربة الناشطة الأميركية "لورا" التي فشلت في مشروعها للتعايش السلمي بين الأطفال العرب واليهود، أن "لا سلام مع مثل هذا الكيان الهمجي"(71)، بعد ما شاهدته وعانته بنفسها من بطش هذا العدو ودمويته تجاه المواطنين الآمنين العزل.
ولا تتغاضى الرواية عن نقد السلوكات العربية السلبية، وبعض أمراض الدول العربية، وتفككها وتفرقها وخذلانها لأهل غزة، وتجاهلها لحقوق العرب فيها، وقمع الحريات، وغير ذلك مما لا يجهله أي متابع، ولا يخفى على أي مراقب.

وبعد، ... فإنَّ رواية "في البال" رواية جميلة، هادئة، سلسة، تحاول أن تعيد صياغة العلاقة بين الشرق والغرب، أو على الأصح تكشف حقيقة العلاقة بين الطرفين، ودور كل طرف ومسؤوليته عما يحدث، وتعري الضعف والتخاذل العربي إن على مستوى الفرد أو الدولة، وهي رواية تستحق القراءة للمتعة، والقراءة للدراسة.

====

(*) صدرت الرواية عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 2010.

D 25 آب (أغسطس) 2011     A موسى أبو رياش     C 4 تعليقات

1 مشاركة منتدى

  • "في البال"
    قراءة موسى أبو رياش
    ألوضوح في نقل الفكرة، هي السمة المميزة التي يتقنها موسى أبو رياش حينما يبدي رأيه في الكتب التي يتناولها.. يتراءى لي وأنا لم أقرأ "في البال" موضوع حديثه، أنني شممتُ بدوري رائحة المعاناة، التي عاشتها الكاتبة في حالها وفي غزة.. غزة الغنية عن الشرح والتوضيح، لكن التكرار في تسليط الضوء عليها، يأتي ليوقظ الغافل من غفوته.

    هاجس الخوف والمرض.. لا يبدو أنه يؤرق "رهام" أو الكاتبة فحسب..؟ بل هو هاجس البشرية جمعاء.. ومن يرفض الاستمرار في العلاج من الأمراض..؟ إنما لا يحسن ولا يستطيع الانتظار..! "روسو" ألكاتب الفرنسي الشهير كان يسخر من قدرة الأطباء في المعاملة مع الأمراض، فيوصيهم أن يحسنوا إلى المرضى فيساعدوهم لكي يموتوا في سلام.

    والسرطان لم يغزنا بالصدفة، بل هو وليد المدنية التي ننعم بها وتفتك بنا في القالب الآخر، كالهر يلحس المبرد ولا يدري أن الدماء التي تسيل إنما هي دماؤه.

    أما تعليل السبب في انفتاح بريطانيا على المهاجرين فليس تكفيراً عن آثامها بحقهم..! لكنه توبة العجوز التي أعياها عمرها من ممارسة الرذيلة والبغاء.

    جملة القول أن موسى أبو رياش قاريء لمَّاح وكاتب مقتدر وشهادتي المتواضعة في كلمات قليلة.. لا تفيه حقه.


في العدد نفسه

لعنة البريد الإلكتروني

كلمة العدد 63: دراويش محمود

أنثى فوق الغيم: نسخة إلكترونية

عن مبدع الغلاف

مختارات من عود الند