عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

مادونا عسكر - لبنان

نكتب لنحيّر العالم


الكاتب هو الّذي يرى بعين قلبه ما لا يراه العالم؛ كذا يعرّف العظيم ميخائيل نعيمة الكاتب. لا بل هو من يرى بعقله ما لا يدركه العالم. وبما أنّه يمتلك رؤية العقل والقلب، ويعي أنّ دوره هو تسليط الضّوء على ظلمات النّفوس، يسعى جاهداً لبث نور المعرفة فيها، فيحرّك عقلها، ويضرم نار العطش في قلوبها.

الكتابة سرّ، ولا بدّ أنّها سرّ الكاتب، ولكلّ كاتب بصمته في رسم الكلمات. ينتزعها من جمودها، يبثّ فيها بذور عقله وروحه ويمنحها الحياة. فالكتابة ليست تنسيق الكلمات وتجميل العبارات، هي أوّلاً إحياء العقول من موتها، وإنعاش النّفوس، وانتزاعها من الظّلام.

الكاتب أشبه بزاهد، اختار أن يتنسّك في معبد الكلمة، يستمدّ منها نور الحكمة، ونقاوة الرّوح. بين الكاتب والكلمة اتّحاد عميق، فهي انعكاس لفكره ومشاعره وآلامه. وهي شخصه المتنقّل بين الصّفحات وفي قلوب النّاس. وهي أحلام يقظته، يلامسها حقيقة ويحاول اقتحام واقع مرير بها.

ليس كلّ من رتّب كلمات وأتقن تجميلها كاتباً، وليس كلّ من تهيّأ له أنّه بإمكانه أن يملأ صفحات بكلام هشّ وسطحيّ، يمتلك الحقّ بالتّعريف عن نفسه بصفة كاتب. الكاتب الحقيقيّ يبقى تلميذاً في الكتابة حتّى تتغلغل كلماته في النّفوس، ويزرع جزءاً من شخصه في كلّ قارئ. وهو تلميذ، لأنّه يرتجف دوماً أمام ورقته البيضاء، كلّما هبّت عاصفة الفكر، فيطبع عليها الكلمات منتظراً بمسؤوليّة نقد القارئ، إيجابيّاً كان أم سلبيّاً.

لا يخطّ الكاتب سطوره ويرحل، بل يبقى قلقاً في كلّ مرّة يعرض فيها فكره، أو مشاعره، منتظراً حكم القارئ. فهو الحكم الأصدق، مهما كانت درجة ثقافته، لأنّه إن لم يدرك بعقله هواجس الكاتب، فسيحسها بروحه. ولا بدّ أنّ القارئ يميّز بين كاتب وآخر، ويفرّق بين ينبوع وآخر، فإمّا أن يعود ويشرب من ينبوع عذب، وإمّا أن يبحث عن آخر.

لا يدلّ هذا القلق على عدم ثقة بالنّفس، وإنّما هو ثقل المسؤوليّة واحترام القارئ، والتزام بقدسيّة الكلمة، وتوقير لنور الحكمة. فهل يعني هذا أنّ الكاتب لا يجد لذّة شخصيّة في ما يكتب، أم أنّه يكتب فقط ليتمتّع بإعجاب القارئ؟

يكتب الكاتب أوّلاً لنفسه، فالكتابة تمنحه قدرة على التّعبير عن نفسه، والتّفريج عمّا يخالج قلبه من آلام وأفراح. كما أنّها تجسّد خياله واقعاً، وتخفّف من وطأة واقعه. تمنحه الكتابة لذّة عميقة، إذ يسافر من خلالها إلى عالم يراه وحده في داخله، يسكن فيه ويتعايش معه. وهي السّلاح الوحيد المقاوم لحروب الذّات، كي لا يختنق في همومها، ويحترق بنارها الموجعة.

ولكن إن وقف الكاتب عند حافة اللّذة الشّخصيّة، سيندثر مع الوقت ويفرغ من داخله. فمهما كان ممتلكاً من مهارة وقدرة على التّعبير عن هواجسه، فهو بحاجة دائماً إلى عين ناقدة، تصوّب له نسج الحروف والمعنى، وتبدي ملاحظاتها فتبني شخصيته وتظهر فيها الأفضل. كما أنّه بحاجة إلى من يستفزّ ملكاته الكتابيّة، ليمنح العالم أفضل ما عنده.

يتطوّر الكاتب من خلال العيون النّاقدة والمحرّكة لوجدانه، ولا ينمو بقدراته الشّخصيّة فقط، وإلّا كتب لنفسه فقط وتوقّف هنا. إنّ الكاتب الّذي لا يرضى بالنّقد ولا يتقبّله برحابة صدر أشبه بإنسان يشرب من مياه راكدة ويوهم نفسه أنّها ماء عذب. النّاقد هو الحاجة الملحّة للكاتب، وإن أتى نقده لاذعاً، قارصاً. ولا ننتظرنّ المجاملة والمسايرة، فهما وإن دغدغتا مشاعر الكاتب، فلا تسهمان في تحفيزه ليكتب بشكل أفضل.

وأمّا الأفضل، فهو أن يقف العالم أمام ما يترجمه الكاتب من فكر ومشاعر، ويتحيّر، يندهش ويضطّرب. وليس الأفضل ترويج كلام استهلاكيّ، ينحدر بالقارئ إلى مستوى الجهل.

نكتب لنحيّر العالم وندهشه، لنتكلّم بلسانه ونخاطب عقله، ونرفعه من الجهل إلى نور المعرفة. ولا يجوز الخوف من كتابة قناعاتنا أيّاً كانت، فلا يمكننا الكتابة لإرضاء الجميع، ولا نكتب لإرضاء أحد.

نكتب ليسمع العالمُ صوته فينا، ويرى بعيوننا، ويتحرّر بكلماتنا، فنلمس جراحه، ونداويها. ولا يستخفّنّ أحد بمرهم الكلمة، فإن حلّت في موضعها، دملت جراحاً عميقة، وأيقظت أحلاماً كبيرة وألهمت نفوساً كثيرة لتحرّرها. ولا نكتب لنرضي الأذواق، فتنعم علينا بإطرائها ومجاملاتها، وإنّما لنحرّك سكوت ليلها الواجم، فتضطرب، وتنتفض وتطلق العنان لأفكارها الرّاقدة.

نحن لا نعرض كلاماً منمّقاً للبيع في معارض للحروف المزركشة والمنمّقة، بل نستفز ملكات القارئ الفكريّة والرّوحيّة، ونحرّك كيانه ليناقشنا وينتقدنا ويخالفنا ويوافقنا. فإن وافقنا دفعنا للاستمراريّة، وإن خالفنا ساهم في ازدياد ما نقص منّا.

الكتابة أشبه بالوحي، إن لم يلسع النّفوس بصدقه، انتفت عنه صفة الحكمة، وإن لم يحوّل العقول بنوره فقد قيمته الرّسوليّة.

D 25 تشرين الأول (أكتوبر) 2012     A مادونا عسكر     C 15 تعليقات

5 مشاركة منتدى

  • اشكر الاستادة المرموقة مادونا عسكر على هدا المقال الجيد وفي متناول الجميع كما ادعو القراء الاسراع لقراءة هدا النص الادبي الغني من بدايته ال نهايته بافكار جيدة وباسلوب راق.
    فالكتابة كما على جاء على قلم الاستادة الم وشكوى مما يثور في باطن وجداننا وكمتنفس واراحة الضمير .
    تحية احترام وتقدير .


  • لقد وصلت الكاتبة مادونا عسكر للذروة بقولها : "نكتب ليسمع العالمُ صوته فينا، ويرى بعيوننا، ويتحرّر بكلماتنا، فنلمس جراحه، ونداويها. ولا يستخفّنّ أحد بمرهم الكلمة، فإن حلّت في موضعها، دملت جراحاً عميقة، وأيقظت أحلاماً كبيرة وألهمت نفوساً كثيرة لتحرّرها. ولا نكتب لنرضي الأذواق، فتنعم علينا بإطرائها ومجاملاتها، وإنّما لنحرّك سكوت ليلها الواجم، فتضطرب، وتنتفض وتطلق العنان لأفكارها الرّاقدة" ، وطرحت بمقالتها الرائعة أبعادا جديدة لمغزى الكتابة التي تعتمد اولا واخيرا على القراءة التفاعلية ، وبهذا وضعت الخطوط العريضة لجودة الكتابة الابداعية ، والتي كادت تضيع في خضم الكتابات الاستعراضية والارتزاقية وتنميق وصف الجمل والعبارات بالاضافة للاطالة بلا معنى ناهيك عن صنوف الاستعارة والنسخ واللصق والسرقات الكتابية والسطو الفكري والتقليد ، كما الخوض في مجالات بلا تحضير واستعداد وجاهزية من منطلق الحسد والغيرة لا غير ! مقالة مادونا عسكر تحتاج لقراءة متأنية مكررة لكي نستخرج منها الحكم والعبر والجواهر ولكي تقودنا كخارطة طريق في رحلة الكتابة المضنية والممتعة في آن !


  • الكتابة تعني الانطلاق نحو الذات الانسانية بشمولها ورحابتها ، كما تعني عدم الانغلاق في حدود النفس والتجارب الذاتية الضيقة . يسعى الكاتب للارتقاء بكتاباته لآفاق انسانية والزامها بالصدق والاستقامة والاخلاص والشفافية ، وعليه ان يكون الراصد والناقد والمتعاطف والمتناغم مع الأحداث ونبض الحياة ، وان ينجح بالتعبير عن ما لا يستطيغ الآخرون ان يعبروا عنه ، والا تحولت كتاباته لخواطر ذاتية وصياغات انشائية مدرسية ،وأن يملك القدرة لتحويل العادي لاستثنائي ، منسلخا عن الذات ، متخاطرا ومتفاعلا مع الآخرين لآفاق راقية غير محسوسة ، وان يبتعد عن الانغلاق حتى لا يختنق القارىء ويشعر بالملل ، كما يهدف للانتقال بالقارىء لعالم أكثر رحابة وجمالا وقيما انسانية...والأهم أن يتفادى الكاتب ازدواجية المعايير ، وان لا ينجر وراء العواطف والرغبة بالتشفي والانتقام ، وان يبقى يفكر باسلوب منطقي عقلاني ....


    • الاستاذ مهند النابلسي

      عرفت الكتابة بأنها" تعني عدم الإنغلاق في حدود النفس و التجارب الذاتية الضيقة".
      في هذا المعنى أخالفك الراي، لأن الكتابة في حدود النفس و التجارب الذاتية الضيقة هو فن أدبي قائم بذاته يندرج ضمن كتابة السير الذاتية. وما يكتبه المرء من تفاصيل عن حياته اليومية يتراءى لنا عاديا ليس فيه من الأحداث الجسام التي تؤثر على سير العالم أو تغير من مصيره، لكن الانسان في حد ذاته شاهد على واقعه و حاضره، وهو بالتالي شاهد على زمانه و حامل بأمانه لبعد تاريخي دون أن يدرك. صحيح أن كتب التاريخ موجودة لكنها فقط لرصد الأحداث الكبرى، فهي لا تتحدث عن التفاصيل الحياتية الدقيقة التي عاشها أجدادنا، كيف كانوا يواجهون مصاعبهم، و يتفاعلون مع أفراحهم..؟ اشعر بالفراغ و أنا أذكر جدي و أقف أمام صورته. هناك عدم تواصل بيننا لأني لا أعرف تفاصيل كافية عن طريقة عيشه..
      فتدوين التجارب الذاتية هي رغبة في عدم الاندثار، و هي بيانات مع الصور للأحفاد في الزمن القادم. أرجوا أن تكون فكرتي قد وصلت. تحياتي

    • زهرة يبرم/الجزائر
      أستاذتي الكريمة،
      تبدأ الكتابة من الذات الإنسانية للكاتب لتنطلق إلى العالم الأوسع، وإن انغلقت في حدود ذاته الشخصية تموت مع الوقت بمعنى أنّ الكاتب سيحد نفسه بتجربته فقط دون ان يبحث باستمرار.
      والمعنى الأوضح أنه لا يحوز أن نكتب لأنفسنا فقط أو عن تجربتنا فقط بل يجب أن نكتب عن الآخر الذي يتوق إلى التعبير عن نفسه ولا يقوى على ذلك
      خالص محبتي واحترامي سيدتي، شاكرة لك مرورك الكريم

  • أجرت صحيفة المجد الاردنية الاسبوعية حوارا مع الكاتبة المبدعة مادونا عسكر ، وقد لفت انتباهي أربع مقولات هامة وريادية للكاتبة ، وأحببت مشاركة قراء عود الند ( لعدم وجود نسخة الكترونية لهذه الصحيفة المتميزة ):
    * نحن بحاجة الى ثورة فكرية وثقافية تصحح مفاهيمنا حول الحرية والقومية والمواطنية
    *ليس هناك ربيع عربي ...ما يحدث هو شتاء قارص وعواصف هوجاء تعصف بالمنطقة
    *المثقف العضوي هو من يشارك في صنع التغيير ويكون مع الناس وليس بعيدا غنهم
    *قراءاتي للقرآن وعلم الحديث والأدب واللاهوت فتحت لي آفاقا واسعة تعرفت من خلاله على الآخر
    طبعا أنا شخصيا أشاطرها معظم هذه الأراء "التنويرية " حيث ما أحوجنا كعرب للرقي بوعي مجتمعاتنا البائسة وتصحيح المفاهيم الخاطئة والكارثية ، ولتقبل الآخر بسماحة وانفتاح،وللمشاركة الفعالة بصناعة التغيير . أرجو ان يلقى هذا الملخص الصدى المطلوب ...


  • واالله استاذتنا احيانا نكتب فنحتار نحن...ففي قمة الرغبة بالبوح و الالم والوحدة ..لايسمعنا الا القلم ولا تتعاطف معنا الا الورقة ولا يخبيء سرنا الا القلب فما ان تخرج الكلمات على الورق حتى تكونين انت واكون انا وكأننا نتحدث امام الكون ولكن بلسان الابطال .حين اقرأ قصة في صفحات عود الند واستمتع بها يخالجني احساس بالذنب ..لاني اريد للكاتب ان يستمر بالكتابة ولكنه بالمقابل سيستمر بالالم فالكتابة وليدة المعاناة و نقرأ مانكتب ونتعجب..من كتب تلك الاسطر ؟


في العدد نفسه

تهنئة بعيد الأضحى

عن مبدع الغلاف

كلمة العدد 77: الديموقراطية وفرضها بالقوة

كتاب: المناهج التربوية بين الأصالة والمعاصرة

آسيا جبار: سردية القصة والفيلم