عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

مادونا عسكر - لبنان

الحسد والغيرة


الحسد والغيرة هما من السّلوكيّات السّيّئة المتفشّية في مجتعاتنا اليوم، ونلاحظ انهماك الأشخاص بالسّعي الدّؤوب للحصول على كلّ الماديّات الّتي قد يكونون بحاجة لها، وربما لا يحتاجون إليها، ممّا يدل على عدم الاكتفاء والقناعة بل يدلّ على شراهة في امتلاك كل ما يغري العين بغض النّظر عن أهميّته أو منفعته.

وهذه السلوكيّات، والمقصود بها الحسد والغيرة، ناتجة عن أسباب عدّة، تبدأ من سوء التّربية وتنتهي بعدم اكتمال النّضوج العاطفي والفكري، لكي نشهد لاحقاً أشخاصاً لا تؤهّلهم خبراتهم إلّا لرؤية ظاهر الأمور وليس التّعمّق في ما هو جوهري وروحي.

أغلب ما نحصده من سلوكيّات تصرّفيّة في حياتنا تعود أسبابه إلى الجذور التّربويّة وبذلك يجب أن نولي أهمّيّة كبرى للتّربية ونشرح أسباب الحسد والغيرة المخبّأة في طيّات الطّفولة الأولى.

بعاطفة جيّاشة وليس عن سوء نيّة، يمنح بعض الأهل الكثير من الأمور الماديّة لأبنائهم ويؤمّنون لهم أغلب متطلّباتهم بدافع المحبّة المفرطة، معتقدين أنّهم يؤدّون واجبهم بشكل كامل. إلّا أنّ هذا التّصرّف يغذّي عنصر الأنانيّة في الطّفل، الّذي وفي طفولته يشعر أنّه محور الكون، والكلّ مطالب بتلبية رغباته. كما أنّهم يهتمّون بطفل أكثر من باقي الإخوة لسبب أو لآخر فيميّزونه عنهم ممّا يخلق هوّة بين الإخوة ويفقدهم حسّ المشاركة في ما بينهم، حتّى يخلق هذا التّصرّف نوعا من الغيرة بين الإخوة.

بالمقابل، وإن كان الزّوجان منفصلين، فقد يلبّيان رغبات الطّفل إمّا بدافع التّعويض، وإمّا بدافع كسب محبّته، وبذلك يزرعان في داخله المحبّة المشروطة والمرتبطة بالمادّية، من حيث يعلمان أو لا يعلمان.

والطّفل يتمتّع بذكاء خارق ويعلم كيف يستفزّ عاطفة الأهل، وتمسي طلباته لا تنتهي وإن رفضت فهو قادر على استخدام وسائل ضغط من أجل الحصول عليها، كالبكاء المستمرّ أو اتّهام الأهل بعدم محبّته. وبالتّالي ينشأ الطّفل على أنّ قيمة محبّة الوالدين له مرتبطة بالماديّة وليس بشخصه وبقيمته الشّخصيّة. ومتى فقد احترامه لقيمته الشّخصيّة وجعلها مرتبطة بالماديّات سعى لاحقاً لامتلاك كل ما يمتلكه غيره وبأي ثمن بهدف تحقيق قيمته، وتعويض شعوره بالنّقص.

والشّعور بالنّقص هو عدم الثّقة بأنّ الإنسان قادر على تحديد قيمته من خلال خلق أهداف والسّعي إليها، وافتقاره للطّموح العلميّ والفكريّ والرّوحيّ الّذي يعرّف عن إنسانيّته وجوهرها. فعندما يتعلق بالقشور الماديّة التي يعتبرها مساوية لقيمته، يتناسى جانبه الإنسانيّ الرّوحيّ فيصبح محدوداً بالمادة والمادّة فقط. وبالتّالي هو يحسد أي شخص على امتلاك أي شيء، مهما كان بسيطاً أو ثميناً.

ونجد الشّعور بالحسد والغيرة غالبا في الجانب الأنثويّ، إذ إن المرأة تُربّى على الدّونيّة في مجتمعات مسكينة ما زالت تحمل الطّابع الذّكوريّ. فنرى بعض النّساء يقلّدن بعضهنّ بشكل مفرط حتّى أنّه يتحوّل إلى هاجس عند بعضهنّ.

ولا يخلو الجانب الذّكوريّ من الحسد والغيرة أيضاً خاصّة إذا ما غلب عليه الاهتمام بالمظهر فقط. ولكم هو مفرط ومتفشّ حبّ الظّاهر في مجتمعاتنا بحيث أنّه يشكّل عنصراً أوّليّاً في سلّم الأولويّات، كما أنّنا نصبّ كلّ اهتمامنا في كيفيّة تحسين الظّاهر فينا وفي ممتلاكاتنا، فنشهد مجتمعاً يعتبر الكماليّات أولويّات والعكس صحيح.

المجتمعات الّتي ترتكز على حبّ الظاهر هي مجتمعات تفتقد لفضيلة مهمّة وأساسيّة، ألا وهي القناعة. ويفهم البعض من القناعة أنّها الاستسلام للواقع، والرّضوخ لظروف معيّنة والقبول المرغم على ما لا يمكن تغييره. إلّا أنّ القناعة، الّتي هي كنز لا يفنى، تؤسّس للطموح الهادف الّذي يبتغي التّغيير للأفضل والأحسن.

الشّخص القنوع هو من يقبل واقعه برضى حتّى يغيّره بسعيه ومجهوده، ولا يتطلّع إلى كنوز فانية، بل إلى كنوز تدوم ولا تتبدّل. والشّخص القنوع هو من امتلك كلّ شيء واستغنى عن كلّ شيء، بمعنى أنّه يجيد استخدام ماديّاته وإن كانت يسيرة بفرح دون تذمّر وتأفّف أو الشّعور بالنّقص، وذلك لأنه يعي أنّ المادة وإن دامت فهي فانية، وأنّ قيمته الشّخصيّة تكمن في ذاته وليس فيها.

متى قنع الإنسان أنّ الحياة بكلّ ما فيها من ملذّات ماديّة تخلص إلى الفناء، ومتى أدرك في عمق ذاته أنّه مهمّ لذاته وبقدر ما يحقّق إنسانيّته إنْ على الصّعيد العلمي أو الفكري أو الروحي، بذات القدر يتخلّى عن الشّعور بالنّقص الّذي يولّد في داخله الكثير من الحسد الّذي سينتج عنه حقد على الآخر إذا ما كان يمتلك الأكثر.

D 25 تموز (يوليو) 2013     A مادونا عسكر     C 10 تعليقات

5 مشاركة منتدى

في العدد نفسه

كلمة العدد 86: عن القانون واستقلال القضاء

تهنئة برمضان والعيد

الإيقاع في شعر الحمداني

اتجاهات فكرية في النظرية النسوية

بحث: جماعة الإخوان المسلمين ...