غانية الوناس - الجزائر
أحلام قيد الانتظار
أكذبُ على نفسِي وأكذبُ عليك، أخنقُ شوقِي إليكَ باستهتارِي واستهزائِي ولا مبالاتِي، أمضِي في خيبتِي السريّةِ غيرَ آبهةٍ بالوجعِ الّذي صار يتدفقُ في روحِي، دون أن أعِي أنّي إنّما أنتحرُ ببطءٍ شديدٍ، كمدمنٍ يحاولُ إقناعَ نفسهِ في كلّ مرّة بأنّها الجرعةُ الأخيرة وبعدها سيتوقّفْ.
يخيّلُ إليّ وكأنّي مهرّجٌ طاعنٌ في الحزنِ، يعلّقُ أوجاعهُ قبلَ كلّ عرضٍ على مشجبِ الانتظارِ في الكواليسِ، يرسمُ بالألوانِ ابتسامةً صاخبةً على وجههِ الحزينِ ذاك، ويرتدِي سعادةً باذخةً ليخرجَ إلى النّاسِ بكاملِ أناقتهِ في الفرحْ، ليصنعَ لحظاتِ سعادتهمْ ويهديهمْ دهشةً على مقاسِ وجعه.
يا لحظّكَ يا صديقِي المهرّجْ، ويا لحظّي معكْ، ويا لهذا القدرِ المجنونِ الّذي يجمعنا بالحزنِ رفيقاً، وبالخيبةِ أنيساً، وكأنّنا آخرُ أهليهما فوق الأرض، آخرُ عرقٍ في سلالتهما الممتدةِ في الأسى زمناً، أقرباؤهُما الوحيدونَ المتبّقون، وورثةُ أسمالهِما من البؤسِ والشّقاءْ.
ها أنا أستيقظُ منْ نومٍ أوهمُ نفسِي به، وأنا أدري بينِي وبين ذاتِي بأنّي ما ذقتهُ إلاّ سراباً خلّفتهُ لِي بغيابكْ، أرتدِي ثياباً لا أعرفُ كيفَ اقتنيتها، وأضعُ فوق رأسي حجاباً لا أذكرُ كيفَ اقتنعت بارتدائه، أحملُ حقيبةَ يدٍ لا تتسّعُ سوى لهاتفٍ صامتٍ أخرسٍ لا يرنّ، مفاتيحٌ تفتحُ كلّ شيءٍ عدا قلبِي المقفلَ على ذكراك، وحافظة لا زالتْ تتزيّنُ بصورتك.
أخرجُ من بيتٍ أسكنهُ ظلاًّ وطيفاً، بينما روحِي هامتْ منذ زمنٍ تبحثُ عنك، لمْ أعد أعرفنِي ولا أذكرنِي ولا حتّى ألتقينِي صدفةً في شارعٍ أو طريقٍ أو محلّ، حتّى ذلك المكتبُ الّذي اقصدهُ للعملِ لمْ يعدْ يتعرفُ إليّ.
أنسى نفسِي في العملِ لساعاتٍ وساعات ولكنّي أذكرك، أغرقُ في الكتابةِ لأنسى فأجدنِي أكتبك، كطفلةٍ صغيرةٍ أصبحُ لحظاتٍ وأنا أستعيدُ كلّ حديثك وكلامك، أرددهُ خلفك كأنّي أتعلّم النطق من جديدٍ على يديك، أتوقّف طويلاً عند جملةٍ كنتَ تقُولها لِي: "أنتِ أنقى منْ عرفتْ". وأنتَ أنقى منْ عرفت، لذلك يصعبُ عليّ الاستمرارُ دونك.
لذلك لا زلتُ أصارعُ الحياةَ الظالمةَ وحيدةً. تلك الحدود والمسافات التي تفصلنا، ألعنُ كلّ تلك الجنسياتِ والعرقيات والدولِ والأممِ والشّعوبْ، ألعنُ السياسة والسّاسة وأكفرُ بكلّ ذلك علناً. لستُ أؤمنُ إلاّ بك. تُرانِي أكفرْ حين أقول هذا؟ لا، أنا فقطْ أؤمنُ بك فإيمانِي بالله شيءٌ دينيٌّ فطريٌّ عقائديٌّ روحيّ لا يُناقشُ، وإيمانِي بك إحساسُ يتمازجُ مع العاطفةِ والحبّ والحلمِ والبهجةِ والأملِ والانتظارْ.
آه كم اشتقتك، كم اشتقتُ إلى صوتك، يا لصوْتكَ الآتيَ منْ كواكبَ بعيدةٍ عن الأرضِ سنواتٍ منَ الضوءِ والنورِ والسحرْ، كمْ زمناً بعدُ سيمرُّ ليصبحَ ذلك الصوتُ رفيقَ صباحاتِي؟ يا وطنِي الأجملْ، أنتَ كوكبِي العصيّ على الاكتشافْ، قبلكَ لا جزراً عائمةً فوقَ السّرابْ، وبعدكَ كلّ محاولاتِ الإبحارِ جنونٌ وعبثْ.
أنا معَ كلّ غيمةٍ أنتظرُ هُطولكْ، ما سئمتُ الانتظارَ يوماً، ولا كذّبتُ لحظةً همسَ الغيومْ. أحبّك أردّدها بيني وبين نفسِي، أحبّك ولستُ أقوى على خنقها في قلبِي أكثر، لستُ أقوى على الاستمرارِ في الكذبِ على هذهِ الحياةِ نفسها ولا التظاهرُ بأني قوية.
هذهِ أنا وهذا حبّي لك يعيشُ في داخِلي يتغذّى على أوصالِي، يسكنُ الرّوحَ والنبضَ والفؤادْ، يجرِي في مجرى الدمِ ولا يُبقِي لشيءٍ آخر من تواجدٍ في داخلِي، يُزاحمُ كلّ شيءٍ في كيانِي، يحتلنّي، يستوطنُ فيّ يمنحنِي الحياة، ويُبقينِي حيّة.
هذهِ أنا وهذا حبّي لك، وبقيّةٌ من كتاباتٍ تحفظكَ عن ظهرِ عشقٍ وشوقٍ وانتظار، هي تحفظكْ. وبرغمَ كلّ البعدِ الفاصلِ ما بيننا، لا زلتُ أستعدُ بكاملِ أناقتِي في الحبّ، بكاملِ تبرجِي في العشقِ، بكاملِ حضورِي وخجلِي براءتِي وجرأتِي فقطْ لأستقبلكْ.
◄ غانية الوناس
▼ موضوعاتي
9 مشاركة منتدى
أحلام قيد الانتظار, محسن الغالبي - العراق / السويد | 25 آذار (مارس) 2013 - 15:31 1
لله درك ياغانية، من اين لك كل هذه القدرة على ابتكار هذه الصور الادبية والشعرية ( وكأنّي مهرّجٌ طاعنٌ في الحزنِ، يعلّقُ أوجاعهُ قبلَ كلّ عرضٍ على مشجبِ الانتظارِ في الكواليسِ)، (أخرجُ من بيتٍ أسكنهُ ظلاًّ وطيفاً)، (أنا معَ كلّ غيمةٍ أنتظرُ هُطولكْ)و و و....
نص فيه عمق كعمق الوجع العربي
انت لست وحيدة ياغانية...انا شريكك في ذاك الكفر كله...وعلنا
محسن
1. أحلام قيد الانتظار, 26 آذار (مارس) 2013, 03:58, ::::: غانية الوناس.الجزائر
ربّما لأن الحزن قدرٌ عربيٌّ بامتياز يصرّ على مصاحبتنا في كل شيء،
ذلك الوجع الخفي نستحضره بالحروف أكثر من أي شيء آخر،
نحاول مع الكتابة أن نتغلب عليه ربما بذكره كل مرة يملّ ويضجر منّا فيرحل.
يسعدنِي ألا أكون وحيدة في هذا الكفر فكلما كنّا كثراً كلّما هزمنا كلّ ما يزيد انقساماتنا ومآسينا.
شكراً محسن على مرورك وعلى تعليقك الذي منحني دفعاً لكتابة شيء ما .
تحياتِي لك.
أحلام قيد الانتظار, أحمد الخلف | 29 آذار (مارس) 2013 - 20:21 2
نص رائع كالعادة يعبّر عن الكيرين. واقع مزعج يشوبه الروتين الممل في رحلة البحث عن الأمل على الصعيد الفردي و العام
لغة أدبية عالية و وصف مميز و كلمات فيها المزيج من الحزن و الشوق
هذا لنص يعبّر عن واقع أغلبنا مع الأسف
1. أحلام قيد الانتظار, 1 نيسان (أبريل) 2013, 14:54, ::::: غانية الوناس.الجزائر
سمة الواقع أنّه في الغالبِ يكون قاسياً، وعلى قدر قسوتهِ تتسّع الآفاق أكثر للتعبير عنه بالطريقة الأصدق والأقرب للقلوب والنفوس.
ومع ذلك تبقى الكتابة طريقة لمنح أنفسنا أملاً صنع واقعٍ أجمل ولو كان واقعاً مصاحباً للحروف، لعلّه يوماً يصبحُ حقيقياً وملموساً.
شكراً على مرورك أحمد، يسعدني كثيراً رايك ككل مرّة.
أحلام قيد الانتظار, يونس من الجزائر | 30 آذار (مارس) 2013 - 10:35 3
«« أجمل مافي مقالك أنه يضم كلمات نقية...
و جملا صافية ... تصل ّإلى القارئ بسلاسة...
وتتغلغل في وجدانه كما يتغلغل الماء بالأرض العطشانة...
ما شاء الله ، اتمنى لك التوفيق..»»
1. أحلام قيد الانتظار, 1 نيسان (أبريل) 2013, 14:41, ::::: غانية الوناس.الجزائر
بلغةٍ بسيطة يكفينا الصّدقُ لنعبّر عن أشياء كثير،
والصدق لا تليقُ بهِ إلا البساطة لتصل إلى قلوب الناس ويستشعروها.
شكراً يونس ، أشكركَ على مرورك .
أحلام قيد الانتظار, مهند النابلسي | 30 آذار (مارس) 2013 - 15:21 4
سرد رائع ينبع من القلب ويصل لتخوم الحب الروحي العميق ، لم أجد الا المقولات التالية لتستكمل الصورة "لحب جارف " :أنطوان دو سانت إيكسوبيري:“الحب ليس تحديق العشّاق إلى بعضهم، بل تحديقهم معًا نحو الاتجاه ذاته.”إي. إم. فورستر:“باستطاعتك تغيير اتجاه الحب، تجاهله، التشويش عليه، لكنك لا تستطيع أبدًا طرده منك. أعرف من خبرتي أن الشعراء على حق عندما قالوا إن الحب خالد.”بيرتراند رسل:“من بين كل أشكال الحذر، الحذر في الحب أكبر خطر يهدد السعادة الحقيقية"
1. أحلام قيد الانتظار, 1 نيسان (أبريل) 2013, 14:37, ::::: غانية الوناس.الجزائر
الحبّ هو أعظم مافي الوجود، لذلك الكتابة عنه تجعلنا نحلق في سماء الكلمات علّنا نجد ما يتناسب مع هذه العاطفة الساحرة.
ومهما كتبنا يبقى الحب دائما شيئاً أشبه بالسّحر نحسّه ونشعر به ونكاد نلمسه بايدينا من فرطِ من نؤمن به ونصدّقه.
شكراً أستاذ مهند، يسعدني مرورك وتشجعيك.
تحياتي لك.
أحلام قيد الانتظار, أشواق مليباري\ السعودية | 31 آذار (مارس) 2013 - 06:55 5
تحفظنا على عبارة (أؤمن بك) ربما يكون ناتج عن ترجمة غير دقيقة لعبارة
I believe in you
وهي لا دخل لها بالدين ولا بالإيمان الذي نعتقده، فهي تعني أحيانا أثق بك أو أعتمد عليك، أو أصدقك.
ربما أكون مخطئة، لكني أود لو أجد ترجمة أدق للعبارة..
عاطفة قوية صادقة، وعبارات مبتكرة، وصور جميلة
سلمت يمناك غانية
1. أحلام قيد الانتظار, 1 نيسان (أبريل) 2013, 04:23, ::::: وفا مدى
الترجمة المجازية الأكثر صدقا هنا هي : انا مقتنع بك
= = = = =
إضافة من هيئة التحرير: الرجاء كتابة اسمك بالعربية عند ملء نموذج التعليقات.
2. أحلام قيد الانتظار, 1 نيسان (أبريل) 2013, 10:22, ::::: أشواق مليباري
شكرا جزيلا أستاذ مدى
3. أحلام قيد الانتظار, 1 نيسان (أبريل) 2013, 14:27, ::::: غانية الوناس.الجزائر
الإيمانُ بالشيء هو التصديقُ به ، ولا يتعلق ذلك بالدين حصراً، حين نؤمن بشيء يعني أننا موقنون به ومصدقون به، لذلك نضعه في حيّز لا ندخل أليه الشكّ.
هي ليست بالضرورة ترجمة للغة أخرى، بقدر ماهي تعبير من الفصحى نفسها لأنها الأبلغ.
أشكركِ عزيزتِي أشواق على تعقيبكِ. وسلمتِ دائماً.
أحلام قيد الانتظار, راضية عشي / الجزائر | 1 نيسان (أبريل) 2013 - 05:21 6
ياااا رائـــعة... أمام حرفكِ لا يَسعني إلا أن أقول "والله أحبكِ في الله"... تَسكنين قلبي وكلما قرأت لكِ وجدتكِ تسكنين روحي أيضاً. شكراً
1. أحلام قيد الانتظار, 1 نيسان (أبريل) 2013, 15:00, ::::: غانية الوناس.الجزائر
صديقتِي،
أنتِ الأروع دائماً بصدقِ دعمكِ ، لذلك لا تحتاجُ كل كلماتِي استئذاناً
لتلجَ إليكِ،
فلديكِ دائماً جذبٌ معنوي لها.
شكراً لك عزيزتِي ، وسعيدةٌ بكِ دائماً.
أحلام قيد الانتظار, زعبار جمال الدين الجزائر | 1 نيسان (أبريل) 2013 - 15:49 7
ماشاء الله عليك يا شاويتنا الحرة زادك الله إبداعا
1. أحلام قيد الانتظار, 2 نيسان (أبريل) 2013, 15:32, ::::: غانية الوناس.الجزائر
شكراً جزيلاً على دعمكم جمال.
بكم جميعاً نرتقِي للأفضل بإذن الله.
شكراً لك.
أحلام قيد الانتظار, مدا وفا | 2 نيسان (أبريل) 2013 - 15:05 8
نص رومانسي جميل ولكنه ساذج وانشائي !
1. أحلام قيد الانتظار, 2 نيسان (أبريل) 2013, 15:31, ::::: غانية الوناس.الجزائر
لا أحد ولد عالماً أو كاتباً الكلّ يبدأ
بخطوة يتعلمّ في كلّ مرّة شيئاً جديداً.
السذاجةُ أيضاً تفتحُ طريقاً للتعلّم،والانشاءُ به تعلمتُ خطواتِي
البدائية في الكتابة، وفخورةٌ جداً بها.
شكراً على مرورك.
أحلام قيد الانتظار, زهرة يبرم /الجزائر | 9 نيسان (أبريل) 2013 - 16:44 9
أختي غانية الوناس
اسمحيلي أن أقول لك أن هذا الموضوع قد استهلك كثيرا وأخذ حقه منك. كلحمة طبخت في طنجرة ضغط وتعدت زمن نضجها، ستأتي حتما مهترئة فاقدة شكلها وطعمها أيضا.
حرام لهذه القدرة المحترمة على التعبير، ولهذه اللغة الجميلة أن تسجن قيد موضوع واحد حزين. كثور معصوب العينين يدور حول الساقية، يحسب نفسه منطلقا وهو لم يبرح دائرته الضيقة.
انطلقي بفكرك في الآفاق، فهناك أشياء جميلة تستحق من قلمك ولو قليلا من الإهتمام.
1. أحلام قيد الانتظار, 19 نيسان (أبريل) 2013, 15:22, ::::: غانية الوناس. الجزائر
العزيزة زهرة،
أشكر اهتمامكِ الدائم بكل ما أكتبه، ونصيحتكِ تأكدّي من أنِي سأعملُ
على العملُ بها دون شكّ.
سأحاول في كلّ مرّةٍ أن أتطرق إلى ما أجده مهماً.
شكراً لكِ مرّةً أخرى.