غانية الوناس - الجزائر
قيود الانتصار
يستقبل صباحه كلّ يوم عبر ثقب في سقف زنزانة، تراه الشمس بخجل عذب، تراود سحره وتختفي بغنج الأميرات.
تحاول استمالته فيغار البهاء من نور فجره المطرّز بضياء الشّموخ. فلسفة الوجود تكسبه لون التفرّد، ويعبق من إطلالته عطر النّدى المبجّل. إشراقة في وجهه لا تفارقه. يتدلّى المجد بعنفوان من جبين عال ويعلو بالغا منتهى السماء.
في ملامحه لا وجود للبؤس مطلقا. هي العزّة تخط عبر كلّ عرق طريقة في الوجود المطلق، أسلوبا في الصمود ليس يفهمه كلّ البشر، وليس يتقنه سوى من يحترف الوجود، نموذجا في صنع الحياة بأبجديّات التوافق والاختلاف، الانسجام والتناقض، حياة تختزل كلّ المسافات والأزمنة في وجه وطن، في حفنة تراب معتّق بالفداء يعبق برائحة تنساب بين لحظة وأخرى كي تعلن للعالم ميلاد الشمس من جديد.
في حضوره لا شيء مهما مطلقا، لا ذكر يعلو فوق ذكره. هي طقوس التضحيّة لا يربطها بمجرد الحياة سوى خيوط مبعثرة، لا نراها بأعيننا، لكنّه يبصر من ثقب زنزانته كلّ التفاصيل المهملة، كلّ الأمور المدرجة في خانة النّسيان، وكلّ ما لا نراه نحن بحريّتنا المكبّلة.
في سجنه يمتلك مفاتيح قيوده، يملك شمسا تشرق في قلبه، وقمرا ينير عتمة ليله، وأميرات يحلمن بودّه، وهو الفارس لا يعرف الترجل مطلقا، يملك صورا للوطن القادم عبر صفحة صبح سوف يولد من رحم ثورة كي يرى النّور بلونه الحقيقي، بوجهه الحقيقي.
في سجنه يملك عمرا بأكمله يفرغه من كلّ ما لا يستدعي اهتمامه، ويملأه أحلاما وآمالا ليصنع به مجدا يهديه للأرض التي ربّته، للتراب الّذي اشتم رائحته، لذاك الهواء الّذي لوّثوه بوجودهم لكنّه أبدا ما بدّل عطره ولا لونه ولا بدّل يوما صّداه.
في سجنه مسكين ذلك السجّان بجبنه، كمْ ساذج وغبيّ ذلك الواقف خلف القضبان! يقف أمام صرح يخاله تحت أقدامه وهو يقف على مجرد دخان. كم أحمق أنت أيها الجلاّد! تحاصر بقضبانك صمودا لا تقهره مجرد قيود وأغلال. كم أحمق أنت أيها الاحتلال! ما زلت بسخفك لا تفرّق بين الحياة والموت. لا زلت تجهل ما تفعل، ما زلت برغم مرور كلّ هذي الأعوام بذات الغباء السّابق وذات الجهل السابق، وذات المرض الّذي لازمك ولا يزال.
لم تتعلّم شيئا من كلّ تاريخك الحقير ذاك، ولا من تاريخ أمثالك الغزاة. لم يعلموك برغم كلّ الترتيبات الدقيقة التي اعتادوا عليها واحترفتها بعدهم باقتدار. لم يبلغوك يوما أنّك زائل كما جميعهم زالوا ذات ثورة وذات انتصار.
لن تسعفك سطوتك ولا سلطتك ولا كلّ جبروتك في فهم كيف أنّ السجين يهزم السجّان، كيف القيود تكسر أقفال سجنك، وكيف الحياة عندنا تنتصر على موتك، وكيف الدم يملك القرار، يعلّمك الحياة التي لنْ تعرف يوما ويلقنك دروس النّهاية لعلّك تنتبه.
أحمق أنت. ولا زلت بجهلك المعتاد تحاول عبثا ردم ماض عريق بمجرد مكعّبات كريهة محشوة بسلالتك اللّعينة تلك، تحاول عبثا أن تبني حضارة، وتجهل كم من العمر تحتاج كي تكسب الخيار وتصنع مجدا، والمجد لا يصنع من بقايا الحثالة وأكوام العنصريّة وأبواق التهديد و الوعيد.
عذرا أيّها المحتل وإن كنت لا تستحق الاعتذار، فاحتلالك لن يصنع لك دولة ولا نصف دولة. سوف تخسر سنوات أخرى من عمرك التعيس، وأنت تحاول عبثا بذات الأسلوب المتعفّن أن تبحث عن معنى لما تفعل؛ عن مكان لوجودك المقيت في العالمْ، ولن تفلح في كلّ مرة ولو بعد عمرين أو ثلاثة منْ عمرك.
ستدور بذات المدار وتطوف بذات المسار لتعود كلّ مرة إلى نقطة بدايتك، نقطة نهايتك هي نفسها في كلّ مشوار حياتك، مهزوم أنت في كلّ مرة أمام سجينك، أمام جبنك أمام زيفك.
مهزوم بكل الأحوال، وأحمق سوف تظلّ، وفي نهاية الأمر ستعود إلى وعيك وستجمع حضارتك البالية ودولتك السخيفة، وكلّ كلابك ومخافرك. سوف ترحلْ لأنّ وطني أنا أبدا لن يرتضيك فوق أرضه.
◄ غانية الوناس
▼ موضوعاتي
2 مشاركة منتدى
قيود الانتصار, أشواق مليباري\ السعودية | 29 أيار (مايو) 2013 - 05:32 1
عزيزتي غانية
صدقت(مهزوم بكل الأحوال) أجل مهزوم حين ينتصر وحين ينهزم أو كما قال تميم البرغوثي:
لو صادَفَ الجَّمعُ الجيشَ يقصدُهُ, فإِنّهُ نَحوَ الجّيشِ يندفعُ,
فيرجع الجُّندُ خطوَتَينِ فَقَط, ولكِنْ القَصْدُ أنّهُم رَجعوا
أرضٌ أُعيدت ولو لثانيةٍ, والقوم عزلٌ والجيش مُتْدرعُ
شكرا لك غاليتي
1. قيود الانتصار, 30 أيار (مايو) 2013, 05:22, ::::: غانية الوناس. الجزائر
العزيزة أشواق،
قد صدق الشاعر المميز تميم البرغوثي فيما قال،
مشكلة الاحتلال أنّه أبداً لا يتعلم من دروس التاريخ،
ولو تمعّن قليلاً لأدرك أنّه ما من احتلالٍ دام إلى الأبد، وأن كلّ أرضٍ لابدّ أن تستعيدَ نقاءها وحريّتها.
شكراً لمروركِ وتعقيبكِ ،تحياتي لكِ
قيود الانتصار, أحمد الخلف - كندا | 31 أيار (مايو) 2013 - 20:44 2
كالعادة نكون على موعد مع الإبداع الأدبي الموجّه فكرياً لأمور هي في عقلنا الباطن تحاكي تصرفاتنا و أعمالنا, من غانية الوناس.
جميل الوصف و التشبيه و المقارنة بين الجتنبين. و كم من حر ظنّ أنه حرّاً و لم يكن ذلك إلا وهماً؟ و كم من أسير هو في سجنه أكثر حرية في عقله و روحه و مبدأه من ساجنيه؟ فذلك يوسف الصديق عليه السلام يقول بما رواه ربنا عز وجل: "ربي السجن أحب إلي مما يدعونني إليه". و كم كان في السجن السياسي بالذات و هو سجن أغلب المظاليم استراحة محارب و تجديد للمسيرة و وسام شرف في سيرة أي مناضل؟
لا شك عندنا في التحرير و التمكين بإذن الله, و ما مصير النبات الغير متجذّر في الأرض إلا الزوال و إن سُقي بالماء ليلاً و نهاراً.
أحسنتِ غانية, و ننتظر بإذن الله نصك القادم