وهيبة قويّة - تونس
قراءة في ديوان للهكواتي
قراءة في ديوان "غدا موعد الياسمين" لسالم اللّبّان (الهكواتي)
كيف نتلو فصولَ الياسمين، في: غدا موعد الياسمين؟
بُشرى:
يقول الهكواتي[1] يتلو فاتحة ديوانه:
كان الغد لناظره قريبا
ما زال الغد لناظره قريبا
وسيبقى الغد
على عهدي
يبشّرني بموعد
مع الياسمين
لا ريب فيه[2]
وأقول: مرحى ببشرى غدنا، فإنّ غدا لناظره قريب. وإنّ فصول الياسمين تَتَفتّح رؤًى صافية، في صفاء الياسمين، ثابتة على العهد.
غدا موعد الياسمين: هكذا يبشّرنا الهكواتي في عنوان ديوانه، وهكذا ينبئ بالموعد؛ موعدٍ لا ريب فيه.
الياسمين في البدء. نَوْرٌ. بياضُ صفحات أشعّت بضياء الكلمات، وضياء الكلمات[3] عنوان السّلسة الّتي صدر فيها هذا المجموعُ الشّعريُّ الأوّلُ عن دار الجسر الصّغير للنّشر، وخامس مجاميع الهكواتي الشّعريّة[4] بعد فصوله الأربعة في نظم "الهيك"[5].
ومن ضياء الكلمات: "غدا موعد الياسمين" مغناة لموطن الرّبيع. ينشد أنغامها الهكواتي، سالم اللّبّان وقد صاغها إنشاءً، نظمًا، وألحانا، ونثرا، يبسط به رؤيته الإنشائيّة، وهي مشروع إنشائيّ كامل.
و"غدا موعد الياسمين" كما وصلني: (مشموم ياسمين) حاولت نظمه. هكذا بدا لي:
مشموم ياسمين بالخجلة[6]
في عشيّة صيف
منوّر على جبين ظريف
والخدّ نوّار عشيّة
والقدّ ممشوق
والشّفر شفيف
والنّظرة ساحرة فتّانة
والمزيانة
أرضي منبت الياسمين
"موطن الرّبيع"[7]
ومنبت الفكر الرّصين
غنّالها سالم[8] غنايات
وفتح في سماها باب[9]
ونوّر ما بين الأرض والسّماء
بكلمات
وألحان وحكايات وغنايات
وشقّ في أرضها السّندس
قصيدة خضرا[10]
سكنها الرّبيع
وموعد الياسمين
وصارت مغناة[11]
فصول البُشرى:
البُشرى مغناةٌ. دوح ياسمين: أوّل أفنانها أغنيات، موسومة بعنوان: "من أغاني الياسمين" تغنّت بها مجموعة الجسر الصّغير للبحوث الموسيقيّة والمشهديّة منذ سنة 2003، عبقت بنقاء الفكرة وصفاء الإيقاع ورقّة عطر الياسمين، وثاني أفنان الدّوح نظم: بعنوان "ملحمة الحرف". ثمّ يعبق الفننُ الثّالث بشذاه في: "كلم تفاعل" ضمّ زهرات ياسمين من قصائد عارض في اثنتين منهما الكلمات لمنوّر صمادح[12] والخمسون لسوف عبيد[13]، كما ضمّن هذا الفنن قصيدته ذبيح هوليود[14](عموديّة على بحر الكامل) وقصيدة هذا البلد[15](قصيدة نثر) وموطن الرّبيع[16] وهي قصيدة بلهجتنا العاميّة، فكان هذا الفنن، كهذا الدّوح، باقةً جميلةَ النّظم من شتّى ألوان الإنشاء.
وزاد الأفنانَ نُورًا نَوْرٌ من نثار الياسمين ونثره، أمّا النّورُ الأوّلُ فهو نثر يلقي صفاءه في فصل "قبل الغناء"، يتصدّر المغناة، وَسَمها الهكواتي بـــ: مكامن الشّعر بين توهّج الشّعور وأشكال السّطور[17]، وأمّا النُّورُ الثّاني فنثار ياسمين هو "ملحق"[18] وَشَى فيه الهكواتي بأسرار بعض القصائد وكان من جميل إشراق الوفاء. وما أجمل البوح، يوطّد علاقة التّواصل بين المنشئ، وقارئ الإنشاء، فلا أسرار بينهما وإنّما بوْحٌ صافٍ شفيفٌ، كما الياسمين.
تفاصيل البشرى:
نتصفّح البشرى: "غدا موعد الياسمين"، فيفوح شذى الياسمين في يد الهكواتي[19]. نصافحه في تعريف موجز. نمضي وقد غمرنا أرجٌ من أنسام رجل التّحدّيات، فتشرق الورقة البيضاء بشهادة الكلمات، من الكلمات لمنوّر صمادح: "شاهد أنت عليهم وعليك الكلمات"، شفعها الهكواتي بشهادة رؤى الياسمين. إذْ يقول: "لله كم تصدق رؤى الياسمينِ أحيانا". والرّؤيا، من إنشائه، يقول: "ولهدّ عرشه كم سعى النّمرود"[20].
إنّها رؤيا الفكر الثّاقب الحصيف. وإنّه الهكواتي: بفكره لا ينفكّ يراقب ما حوله من حادثات الزّمان، في موطن الرّبيع، ويصوغ أمانيه وأحلامه تفاؤلا، ويرى رؤيا لا ريب فيها: موعد ياسمين.
في الإهداء قيمة من نبيل القيم، يقول: "إلى السيّدة: ما زلت معك ثابتا على عهد الياسمين" و"ثابت على عهد الياسمين" هو عنوان رابع فصوله الشعريّة الصّادرة سنة 2005.
ما أجمل الثّبات على عهد الياسمين!
أظنّ أنّا بهذا قد عرفناه الفتى. وهل يخفى الهكواتي حافظا للعهد؟ فهنيئا للسيّدة.
تلوح لنا القصائد المتشكّلة، في المجموع الشّعريّ، إنشاءً من صفاء المشاعر والفكر، ونتطلّع إلى المنشئ الّذي شكّلها أنيقة في (مشموم) ونقرأ ملامحه: قبل الغناء في شهادته عن ممارسته الإنشاء، وهي -كما يفسّر لنا- شهادة عن تجربته الذّاتيّة بها يمكن للقارئ أن يستنير لقراءة إنشاء الهكواتي فى هذا الدّيوان أو في مؤلّفاته الأخرى الصّادرة في سلسلة مرايا الكيان عن دار الجسر الصّغير للنّشر: رواية سيدي النّا. والمجموعة القصصيّة: عنقود حكايا، وفي فصوله الأربعة، وفي ثلاثيّة دفاتر الرّحيل الصّادرة رقميّا وفي مختلف النصوص المنشورة على مدوّنته الإلكترونيّة.
قبل الغناء: فصل في تعريف الشّعر/بشرى الياسمين بموعد مع الشّعر:
يتحدّث الهكواتي قبل الغناء عن قصيدة النّثر منطلِقا من تعريفها وتعريف الشّعر ويقدّم لعبة سيجيب عن أسئلتها، الّتي تورّط القارئ في لعبة الشّعر وتجعله متفاعلا مع المنشئ وجزءًا من عمليّة الإنشاء.
انتبهوا، (استمعوا)، ومن وجد صعوبة في الأبيات التالية فعليه بشروح الهكواتي، فهي ستفي بالغرض: هذه الأبيات من ثلاثيّة "دفاتر الرّحيل"، ينشد:
قلفنت للمشقاط فطحة سُرْقُمٍ - - - ينشظّ من خرّ الشِّما متأسخرا
ومقعت ظرطاب الصّلاغم فاقعظى - - - وانعجّ مشفوخُ السّماقل عاجرا
يا مشقطا سَعَجَ الفقائق إن خدت - - - وتغافقت إنّ الفقائقَ عصدرا
لا تبحث كثيرا، فالهكواتي شرح لنا بعض ما عسر من ألفاظ هذه الأبيات.
المهمّ؛ ألا تلاحظون كم هو جميل إيقاع هذه الأبيات؟ إنّ جرسها يكتسب جماله من طول نفس الكامل مقياسِ فحولة الشّعراء، ومن الرّويّ: حرف الرّاء، مقترنا بالفتحة المشبعة فيرجّع الصّوت ترجيع أغنية. ولكن مثل كثير من القصائد تُلقَى على مسامعنا لا نكاد نعرف انتماءها إلى جنس الشّعر إلاّ بالوزن وجرس القافية.
صاغ الهكواتي هذه القصيدة: "تكادفًّا بتكادفٍّ"، كما قال في مقام آخر[21]، باعتماد ما تواضع عليه القدامى في تعريف الشعر من أنّه الكلام الموزون المقفّى، ويمكنك البحث ما شئت خارج قاموس الهكواتي فلست تظفر بواحدة من مفرداته. قد صاغها بجديّة يؤكّدها تدخّله لشرح قاعدة نحويّة (خبر إنّ المرفوع)، وشرحه غريب اللّفظ بجديّة ضروريّة في "لعبة الشّعر"[22].
قد أفلحَ الهكواتي. "وهذا أيضا عمود"[23]. هكذا الإنشاء في يد اللّاعب باللّغة الماهر في صياغتها. وهو كما يقول: "أكتب لأتدبّر الكتابة"[24]. وقد تدبّرها باستعمال المقياس الّذي حكّمه القدامى لمعرفة الشّعر وتمييزه عن النّثر، فكانت هذه الأبيات عمودا أيضا.
وإن لم يكن الشّعر وزنا وقافية (كما في تعريف القدامى) فما الشّعر؟
الشّعر كما يقول الهكواتي: "أعلى درجات الجودة الإنشائيّة في كلّ الفنون بلا استثناء. وكلّ إنشاء إلى الشّعر سموّه".
بل إنّ الشّعر عنده هو شاعر وكتابة وقراءة، وهي شروط يستقيم بها الإنشاء. (والإنشاء عند الهكواتي مفضّل على الإبداع مصطلحا).
"اللّعبة" مقصود بها معالجة قضيّة من أعقد قضايا الشّعر وهي مصطلح "قصيدة النّثر"، وطريقة الهكواتي لطرحها طريفة. فهو لا يبتكر بها منهجا للبحث فحسب وإنّما يصوّر القضيّة في تطبيق لتصل إلى الأفهام ببساطة وتترك أثرها في تفكير القارئ الّذي هو جزء من عمليّة الإنشاء.
انتبه (أيّها السّامع): يقول الهكواتي:
"عندما صغت هذا الكلام أردته موزونا ليظنّه شعرا جميع النّاس ولقد بذلت الجهد في جمع الحروف ورصفها دقّا على الأجراس الّتي تعوّد سماعها".
هذا الكلام الّذي نقرأه منثورا هو شعر موزون مقفّى، سينيّة على بحر الكامل[25].
أعتقد فهمنا اللّعبة: فليست العبرة بالأوزان ولا بالقوافي فليس الشّعر تركيب الكلام ورصفه على أنغام الأجراس وإنّما هو معنى وأسلوب وأداء جميل وتواصل وتفاعل. هو "ما يكون في الخطاب شاحذا لذائقة المتقبّل فيه إعادة خلقه" إنّه مرتبة يسمو إليها كلّ إنشاء.
رائع أن يلاعبنا المنشئ. ويشركنا معه في التّفكير والنّظر في مسلّماتٍ أربكها إنشاؤه.
موعد الياسمين بين الإنشاء (كيف نقول؟) والإخراج البصريّ للقصيدة (هندسة القصيدة):
ما نقرأه في فصل "قبل الغناء" ليس مجرّد محاضرة، وإنّما هي رؤية متكاملة للإنشاء، تطبيقُها كان على مدى قصائد المجموع الشّعريّ وأقسامه.
وهذه الرّؤية نجدها في هندسة القصائد (الإخراج البصري للقصيدة/في أشكال السّطور) كما في مضامينها، وفي لغتها والصّور المختلفة الحاملة لرؤية المنشئ: الهكواتي " للإنشاء" وقد صرّح:" لست صاحب نظريّة أدعو إليها بقدر ما أنا صاحب تجربة متواضعة أدافع عن صدق نيّتي في خوضها ونبل مقصدي منها". لذلك يجد المتصفّح للقصائد شهادةً تطبيقيّة لمفهوم قصيدة النّثر والقصيدة العموديّة وتذوب التّسميات ضمن مصطلح: الإنشاء بعيدا عن البحث في أجناس النّصوص المختلفة وبعيدا عن النمطيّة الّتي قد تقيّد الإنشاء وتحيطه بـــ"جدران عزل عنصريّ" فتغيب هندسة الصّدر والعجز عن القصائد الموزونة المقفّاة ليتمثّلها البصر كما يتمثّلها السّمع، حتّى أنّ المتلقّي يجد نفسه منخرطا ضرورة في سياق النصّ، يسمع معانيه و يرى صوره ويتلذّذ مضامينه ويتعطّر بطيوب الياسمين، لا على سبيل اختلاط الحواسّ وإنّما على سبيل تكاملها أثناء عمليّة تلقّي الإنشاء.
وفي كلّ هذا نجد الهكواتي متعدّد الأسلوب في ثراء يكسب الإنشاء جماليّة متجدّدة، جماليّة متحوّلة إلى حواسّ المتلقّي وفكره، ترقى به وبذوقه وتفكيره، في ثبات على العهد، هو عهد مع "موطن الرّبيع" وغدٍ سيّجه المنشئ برؤى الياسمين، وأطلقه في فضاء القصائد صورا بديعة في نقاء الياسمين.
إنّه "جوّاب" آفاق الإنشاء يشكّل النصّ تشكيلا تواصليّا/تفاعليّا، وهذا: منتهى الإنشاء.
ولأنّ الإنشاء عند الهكواتي هو: كيف نقول؟ فإنّه قد اختار كيف يقول: فكانت القصائد مغناةً، وكان المنشئ منشدا بامتياز .
ففي المجموع الشّعريّ نجد الأغاني والمعارضات والمطوّلات والقصيدة العاميّة و"قصيدة النّثر" والقصيدة العموديّة وقصيدة التّفعيلة. لا يوقف المنشئَ "طريق واعرة" حتّى تجاوز التّنظير في مقدّمته إلى فعل حقيقيّ تجلّى في شكل القصيدة وإخراجها البصريّ. وصاغ من طينة "الدرّة" النّادرة أرضا خصبة للياسمين وللأمنيات والمواعيد المتجدّدة، سارت بها "سواقي"، تبشّر بموعد مع الياسمين، (لا ريب فيه)، فرغم المصاعب هنالك أمل؛ رؤيا تستشرف القادم الجميل ياسمينا في موطن الرّبيع.
إنّ كيفيّة القول عند الهكواتي، كلمة، أغنية، تتنفّس من رئتي الحريّة، فالغناء: كلمة. وفي البدء كانت الكلمة تراتيل في سِفْر الإنسان الحرّ: " أغنّي لِئلاّ تموتَ الطّيور بداء الخرس"[26]. والكلمة حريّة تعبير، أنشودة جميلة على تفعيلة المتقارب مثلا،(في قصيدة: غناء) أقرب إلى إيقاع نبض القلب، وأقوى من إيقاع طبول الحريّة في أناشيد الثّورة، إنّها نبض الحياة في المنشئ. يتنوّع بتنوّع الإيقاع على نغمات الرّمل والمتدارك والكامل. وتتعدّد أناشيد الحياة.
إذًا، في فصل: "من أغاني الياسمين" تتجلّى لنا قيم إنسانيّة نبيلة لا تسمو فقط إلى الإنشاء وإنّما تتجاوزه إلى محراب صلاة توحّد الناس على اختلافهم وتحرّرهم وتدفع في أجسادهم الحياة؛ حياة متجدّدة صافية نقيّة مثل الياسمين.
يكفي أن نغنّيَ ونصلّيَ بكلّ اللّغات وأيّا كان الدّين: "هيّا نغنّيوْ غناية حبّ. غْنايةْ مستقبل وضّاح. هيّا. من أجل الإنسان. نْصلّي بجميع الأديان، ونْقولو: يكفي. وسْماح"[27].
هذا هو الهكواتي: إنسان يرقى إلى عالم الجمال والإنشاء. حرّا فكرا وتعبيرا. حريّة ترتفع بها أغنياته عاميّة وفصيحة ويرتفع بها اللّحن والصّوت شاديا. هو الإنسان: غدا عند موعد الياسمين.
فغدا موعد الياسمين، موعد في عالم من الجمال يدعو إليه الإنسان فارسا. نبيلا. نبيّا.
وتتوضّح المعاني أكثر في فصل "ملحمة الحرف" ويتجلّى الإيمان العميق بقيمة الكلمة والشّعر والإيمان بصمود الحقّ، ففي قصيدة "إصرار" يقول:" اُكتُبْ على سعف النّخيل قصيدة للشّمس. وافتح للمحبّة بابا"[28]، فيكشف الهكواتي عن دور الشّاعر ومصيره، فالشّاعر إمّا أن يُسمع فيُثاب، أو لا يُسمع فيرجَمُ.
ويظلّ الحرف نَورًا ناصعا مثل الياسمين. يقول في قصيدة "اختيار"[29]: "ما بهذا الكون من حرفٍ يجيرك من صراعْ. فاختر الصّدق إذًا. اختر العريَ إذًا. اختر الحبّ. وفجّر حلمك الأخضر. في كلّ البقاعْ. وارفع الأحرف رايات تنادي في بلادي. ذا زمانُ الأحرف الحبلى. فحيّ على اليراعْ".
كأنّي به يتلو مزامير من روح اليراع نايا وقلما لا تنضب كلمته. ألم تكن في البدء الكلمة؟ نعم. كلمة وأغنية.
وتتفتّح زهرات (مشموم الياسمين)، ونتقدّم مع الشّاعر في بيان دور الكلمة، والحرف وفي حسن توظيف الحرف: "سبّحْ أسماء طغاة الكون. وكلّ حقير مستنصر. واخفض للذّلّ جناح الحرفِ. وما بالقلب. فلا تذكر"[30]. الأسلوب ساخر موجع، ماكر، إذْ يُعرّي الحقيقة "وتسلّق ظهر بني جلدك"[31]، هكذا الحرف والشّعر عند البعض، تسلّق للمراتب على حساب الصّدق والقيم. ولا يمكن للشّاعر النبيّ إلاّ أن يفضح هذه الأقلام الّتي تحيد عن نبيل الإنشاء. وبُشرى: فغدا موعد الشّعر.
نعم، الشّعر "بالفلاّقي": وحسب الهكواتي: "الشعر/عزّ الشّعر/كلمة صْريحة/في مثيل قلاع الظّلم/تفني ريحهْ"[32].
يختار العاميّة لتعريف الشّعر، عزّ الشّعر، عاميّة تعلق بالسّمع وبالقلب معا، فيقدّم بلغة سلسة جميلة قريبة من كلّ نفس درسا عن مفهوم الشّعر وما وُضع له. عزّ الشّعر، هو ما نقرأه تباعا في ديوان الهكواتي.
تطالعنا القصائد بانفصال كلّ نصّ عن الآخر. وتنبئنا المعاني بأنّ هاجس الشّاعر هو صدق الكلمة وأن تكون عنده إنشاءً لا يحيد عن وظائفه الجماليّة والإنسانيّة. والهكواتي منذ نقرأ لك مقدّمة الدّيوان لا يحيد عن المبادئ الّتي رسمها عن مفهومه للإنشاء.
فطوبى لمن تنوّع القول عنده كيفا وبقيَ ثابتًا على القيم، ثباته على عهد الياسمين.
وإنّي، أرى الياسمين وموعده في إنشاء الهكواتي، "الأصل في الحبّ" حبّ البلاد، موطن الرّبيع، وبيت الرّبيع[33]، أرض البشرى مُلهمة الحرف والكلمة والشّعر. وما الحبّ إن لم يكن للبلاد. للسيّدة، الخضراء. حاضنة موعد الياسمين:
أقسم بهذا البلد
أنّي أحبّ هذا البلد
وأنّي لأنّي أحبّه
أبقى على العهد
أومن
بأنّ ليومه هذا غدٌ[34]
فارس الإنشاء، هكذا هو الهكواتي، وهكذا إنشاؤه: موقف ورأي ومشاعر ونبل. يحسن اختيار الموقف ويحسن التّعبير عنه في صياغة إنشائيّة فنيّة شتّى متعدّدة شكلا ومضمونا ولكنّها لا تحيد عن المنهج: أن يكون الإنشاء مسؤولا يتحمّل فيه المنشئ دوره كما يليق به ويليق بمن يحبّ:
الله يشهد يا أهلي ويا وطني أنّي لتونس حبّي
لا للذّاتي
حسبي بلادي
أنّي أهديك ما طاب منّي
ما فاح من عطر فنّي
وما يزين العقول[35].
ويصير الحرف (مشموم ياسمين) من حبّ البلاد، وخفقة قلب تتأسّى لما يقع في موطن الرّبيع (قبل الثّورة)[36] يعاين الوقائع وبكلّ حريّة ينشئها شعرا بأسلوب يدعونا إلى الوقوف كثيرا عنده.
فمن سمع اعترافات رصاصة تسقط شهيدة في جسم شابّ؟ ومن يستطيع أن يصوّر عناد طفل أمام جبروت قيصر ببراءة طفل وتفكير حصيف يقلقل كلّ فكر.
إنّ الإنشاء عند الهكواتي لا يقف عند حدود القول ولا كيفيّة القول، وإنّما يتجاوزه إلى عمليّة تفكير يشارك بها القارئُ المنشئَ. يتّخذ دوره في دورة تشكّل النصّ ويصبح جزءا من عمليّة الإنشاء.
بل إنّ المنشئ يدعو القارئ إلى هذه المشاركة ويتجلّى ذلك في آخر أقسام الدّيوان صراحة عندما يتحدّث عن ظروف بعض القصائد صياغة ونشرا[37].
وبتمام فصول المجموع الشّعريّ تتمّ شروط الإنشاء: شاعر، وكتابة، وقراءة. فنغلق صفحات المجموع الشعريّ ونحن مثل منشئه نحلم بالغد؛ بموعد مع الياسمين لا ريب فيه. ونرفع مثله (مشموم الياسمين) عنوانا للرّهان والإصرار على رفع التحدّي بالجمال والطيب وحده[38].
في حضرة الياسمين: كلّما قرأنا القصيدة حضر الشّاعر
= ثابتا على العهد: ماضيا (ثابت على عهد الياسمين)[39].
= ثابتا على العهد: حاضرا (الإنشاء في مجموعه الشّعريّ، ووفاؤه لرؤيته الشّعريّة نظريّا وتطبيقا)[40].
= ثابتا على العهد: غدا موعد الياسمين: رؤيا تتحقّق يوميّا.
موعد لنا جميعا: "غدا موعد الياسمين"، فكونوا في الموعد
لنرسم فوق تراب أخضر/حلما يكبر/وغدا/يثمر حلما أكبر
= = = = =
الهوامش
[2] فاتحة ص 13.
[3] وهو قسم من ثوابت سلسلة ضياء الكلمات، سنجده في الإصدار الثّاني لسلسلة ضياء الكلمات: سينيوريتّا لحبيب المرموش.
[4] خامس المجاميع الورقيّة. فقد نشر ثلاثيّة دفاتر الرّحيل رقميّا (ديسمبر سنة 2000).
[5] فصولي الأربعة: هي رباعيات – هيك. صدرت رقميّا يوميّا بين 9فيفري 2004 و8 فيفري 2005/ وصدرت ورقيّا: أوّل فصولي: نجمة للفجر (مارس 2005)- ثاني فصولي: عيون نداجة (جوان 2005) – ثالث فصولي: جنون لمواسم حكمتي: (سبتمبر 2005) – رابع فصولي: ثابت على عهد الياسمين (ديسمبر 2005).
[6] *مشموم بالخجلة: معروف في مدينة العالية، يتكوّن من مجموعة "غصون" فيها الكبير والمتوسّط والصّغير، (مجموعة مشاميم في مشموم)، وقصائد ديوان "غدا موعد الياسمين" شبيهة بهذه الأحجام المختلفة للغصون الّتي تؤلّف "المشموم".
[7] عنوان قصيدة من: "غدا موعد الياسمين" ص 117.
[8] سالم اللبّان صاحب المجموع الشّعريّ، الهكواتي كما يحلو لأصدقائه أن ينادوه.
[9] اقرأ قصيدة هذا البلد مثلا ص 131.
[10] قصيدة: موطن الرّبيع ص 117.
[11] عنوان المجموع الشّعريّ: غدا موعد الياسمين، مغناة لموطن الرّبيع.
[12] ص 93.
[13] قصيدة الخمسون لسوف عبيد ص 143 والمعارضة بعنوان من وحي الخمسين ص 113.
[14] ذبيح هوليود: الصّورة الحرام في اعدام الرئيس العراقي صدّام حسين ص 101.
[15] ص 131.
[16] ص 117.
[17] ص 15.
[18] ص 133.
[19] الصّورة المصاحبة لتعريف الهكواتي. في يده مشموم ياسمين، يقول في مقام آخر بأنّ المشموم:" عنوانا للرّهان والإصرار على رفع التحدّي بالجمال والطيب وحده".
[20] اقرأ قصيدة ذبيح هوليود ص 101.
[21] قصّة المحفوظات للهكواتي، منشورة على مدوّنته الإلكترونيّة.
[22] الإنشاء عند الهواتي: لعب جادّ، "أكثر جدّيّة من الجدّ ذاته" ص 35.
[23] هو عنوان القصيدة.
[24] ص 22.
[25] هذا الكلام أردته موزنا - - - ليظنّه شعرا جميع النّاس
ولقد بذلت الجهد في جمع الحرو - - - ف ورصفها دقّا على الأجراس
[26] قصيدة: غناء ص 49.
[27] قصيدة: سواقي ص 43.
[28] ص 53.
[29] ص 54.
[30] قصيدة تخطط ص 56.
[31] قصيدة تخطط ص 56.
[32] قصيدة بالفلاّقي ص 57.
[33] عنوان قصيدة للهكواتي، على ألحان الأوداجيو لألبينينو.
[34] قصيدة: هذا البلد ص 131.
[35] من قصيدة: الأصل في الحبّ ص 64.
[36] قصائد الدّيوان كلّها كُتبت قبل الثّورة.
[37] الملحق.
[38] الكلام للهكواتي من خارج المجموع الشّعريّ.
[39] عنوان مجموعه الشّعريّ نشر سنة 2005.
[40] من خلال "غدا موعد الياسمين".
◄ وهيبة قويّة
▼ موضوعاتي
1 مشاركة منتدى
قراءة في ديوان للهكواتي, نورة عبد المهدي صلاح\ فلسطين | 27 أيار (مايو) 2013 - 14:12 1
كل ما مر ببالي رائحة الياسمين أو أتى على ذكره أحد.. أستشعر كأن الألهة تناديني .. رائع
1. قراءة في ديوان للهكواتي, 4 حزيران (يونيو) 2013, 14:26, ::::: وهيبة قويّة من تونس
للياسمين مواعيد لا تخطئ أبدا، تظلّ سحرا يعبق في حياتنا. وهذا الدّيوان: "غدا موعد الياسمين" كان يتلو مواعيده وفاءً لأرضنا الخضراء ووفاء لقيم الإنسان الثّابت على عهد الياسمين.
ولمرورك عطر الياسمين البكر في بداية موسمه. فشكرا