عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

د. أمينة طيبي - الجزائر

الصوائت في التراث العربي


اللغة العربية واحدة من اللغات السامية، جذورها ضربة منذ الأزل ولا تزال، كيف لا وقد صانها وحفظها القرآن الكريم، حتى وصلت إلينا على ما هي عليه الآن، والبحث فيها بقدر ما هو شاق، بقدر ما هو ممتع وشائق، ذلك في مختلف مستوياتها: الصوتية والصرفية والنحوية، والدلالية.

بذل القدامى جهدا لا يقدر في المجال الصوتي، ومع ذلك فقد كان بحاجة إلى من ينتشله من تلك الوضعية ليرقى به بعيدا ويصل به إلى ذروته، وهذا ما حقّقه له التطور العلمي، حتى أصبح كل شيء يدرس بالآلات ويُرى بالأجهزة الخاصة.

ولعل الدراسة الصوتية من أهم المجالات التي خاض فيها القدامى كغيرهم من الأمم الأخرى، خدمة للقرآن الكريم، لكنهم بزوا في تناولهم لمثل هذه الدراسة الأمم المجاورة لهم، معتمدين في كل ذلك على الذوق والحس المرهف، فأضحت كتبهم، وما تحويه من درر نفيسة، المصدر الأول، الذي لا يمكن للباحث المحدث لاستغناء عنها، لما لها من فضل السبق في البحث عن الظواهر الصوتية والقوانين النطقية التي يعمل الباحثون المحدثون على تطويرها بفضل معطيات العلم الحديثة من آلات وغيرها. إذ أن معظم الظواهر الصوتية تطرق إليها القدامى في مباحثهم الصوتية، ومن بينها تفصيلهم بين الصوامت والصوائت.

هذا التمييز الذي أنكره الكثير من الدارسين العرب المحدثين، فالقدامى برأي هؤلاء لم: "يقدموا لنا أي تعريف علمي لهذه الحروف، واكتفوا بالإشارة العارضة إلى وظيفة صوتية-صرفية من وظائفها. هذه الوظيفة، بحسب ما قرروا، هي كونها المادة الصوتية التي تتألف منها أصول الكلمات مهما اختلفت صورها وصيغها الصرفية"(1). لكن القدامى كما سنرى أدركوا الفرق بين الاثنين، واعتنوا بالحركات، أي الصوائت، أيما عناية معتمدين في ذلك على ذكائهم وفطنتهم فقط.

مفهوم الصوت الصامت

هو الصوت الذي ينحبس الهواء في أثناء النطق به في أية منطقة من مناطق النطق، انحباسا كليا "فلا يسمح له بالمرور لحظة من الزمن يتبعها ذلك الصوت الانفجاري"(2) أو جزئيا، أي يضيق "مجراه فيحدث النفس نوعا من نوعا من الصفير أو الحفيف"(3).

لم يغب هذا المفهوم عن القدماء إذ يقول ابن جني: "وسبيلك إذا أردت اعتبار صدى أن تأتي به ساكنا لا متحركا، لأن الحركة تقلق الحرف عن موضعه، ومستقره، وتجتذبه إلى جهة الحرف الذي هي بعضه ثم تدخل عليه همزة الوصل مكسورة من قبله، لأن الساكن لا يمكن الابتداء به فنقول: اك؛ اف؛ اج. وكذلك سائر الحروف، إلا أن بعض الحروف أشد حصرا للصوت من بعضها، ألا تراك تقول في الدال والطاء اللام: اد؛ اط؛ ال. ولا تجد للصوت منفذا هناك، ثم تقول : اص؛ اس؛ از؛ اف، فتجد الصوت يتبع الحروف، وإنما يعرض هذا الصويت التابع لهذه الحروف ونحوها ما أوقفت عليها، لأنك لا تنوي الأخذ في حرف غيرها فيتمكن الصويت، فيظهر، فأما إذا وصلت هذه الحروف، ونحوها، فإنك لا تحس معها شيئا من الصوت، كما تجده معها إذا وقفت عليها"(4).

الملاحظ هنا أن ابن جني بتذوقه للحروف، استطاع أن يميز بين أنواع الصوامت، أي تلك التي ينحبس معها الهواء معها انحباسا كليا، ما يعرف عندنا بالأصوات الشديدة، ممثلا لها بالطاء والدال واللام، أو تلك التي ينحبس معها الهواء انحباسا جزئيا، ما نعرفه اليوم بالأصوات الاحتكاكية، ويمثل لها بالصاد، السين، الزي، والفاء، معبرا في كل ذلك عن الهواء، بقوله "صوت"، كما يفهم من سياق كلامه.

كما أن الطريقة التي نص عليها في قوله، لمعرفة مخارج الأصوات، يوافقه عليها أكثر الدارسين المحدثين، إذ صرح أحدهم أن الوسيلة السريع لمعرفة مخرج أي صوت هي أن نأتي بهمزة قبله ثم نأتي به ساكنا أو مشددا فحيث ينقطع الصوت يكون مخرج الحرف (5)، وإن كان إبراهيم أنيس من أن يؤتى لصامت بألف وصل، لأن الصوت في هذه الحالة لن يتحقق فيه الاستقلال الذي هو أساس التجربة الصحيحة(6).

ومع ذلك فقد خص القدامى الصوامت، أو الحروف كما كانوا يسمونها، بدراسة عميقة مميزة، لم تحظ بها أصوات أمم أخرى، وبخلاف ذلك كان اهتمامهم بالحركات-الصوائت، كونها علامات "حديثة نسبيا، إذ هي من ابتكار الخليل، وليست لها بالطبع في نظرهم أهمية الحروف المستقلة. وهذا في واقع الأمر منهج خاطئ إذ هم في ذلك متأثرون بالكتابة على حين أن الأساس هنا هو النطق"(7)، فكيف نظر القدامى إلى الصوائت يا ترى؟

مفهوم الصوت الصائت

الصوائت أو الحركات، هي تلك الأصوات التي يندفع الهواء عند النطق بها "من الرئتين مارا بالحنجرة، ثم يتخذ مجراه في الحلق والفم في ممر ليس فيه حوائل تعترضه فتضيق مجراه كما يحدث مع الأصوات الرخوة، أو تحتبس النفس ولا تسمح له بالمرور كما يحدث مع الأصوات الشديدة. فالصفة التي تختص بها أصوات اللين هي كيفية مرور الهواء في الحلق والفم وخلو مجراه من حوائل وموانع"(8).

إذن الصوائت بخلاف الصوامت هي أصوات أُخْلِي سبيل الهواء أثناء النطق بها، الأمر الذي جعلها تتميز بمجموعة من الخصائص من بينها: (أ) الوضوح التام بحيث لا تخفى عند النطق، وتسمع بكامل صفاتها؛ (ب) تشيع في اللغات، كما أن أي انحراف عن أصول النطق بها يبعد المتكلم عن الطريقة المألوفة بين أهل هذه اللغة؛ (ج) مجهورة دائما(9).

وهي ستة في العربية، ثلاثة طويلة سماها القدامى "حروف المد" (الألف؛ الواو؛ الياء)، وثلاثة قصيرة (الفتحة؛ الضمة؛ الكسرة).

الصوائت الطويلة

تكون هذه الأصوات صائتة إذا سكنت وجانست الحركة السابقة لها، كقولنا: بَاع، يِبيع، يقُول، فكل من الألف، والياء، والواو، وردت ساكنة بعد حركة من جنسها، أما الألف فلا تكون إلا صائتا طويلا، بعكس الواو والياء، اللذين يتخذان في حالات معينة شكل الصوامت، فالواو، في قولنا مثلا: وَلَد، يَوم، والياء في قولنا: يَلبَسُ، يُسافر، بَيْتٌ.

لعل أول إشارة إلى هذه الأصوات كانت مع الخليل بن أحمد الفراهيدي، الذي خصها بالدراسة دون الحركات "ولعل ذلك راجع إلى أن الخليل قد نظر إلى هذه الصوات على أنها أجزاء من أصوت الألف والواو والياء"(10)، وربما كون الخليل كان يقدم لمعجمه "العين"، مستندا "في إيراده لكلمات العربية إلى جذر الكلمة تقليباته، وهو أمر لا دخل له لأصوات المد القصيرة فيه"(11).

حين تحدث الخليل عن أصوات اللغة العربية ميز طائفة من الأصوات وهي: "الألف والواو والياء، حيث أطلق عليها مصطلح الحروف الهوائية أو حروف الجوف"(12)، واعتبرها هوائية ليس لها حيز تنتسب إليه، فكثيرا ما تجده يقول: الياء والواو والألف هوائية في حيز واحد إلا أنها لا يتعلق بها شيء، وأيضا قوله إنها سميت هوائية لأنها تخرج من الجوف فلا تقع في مدرجة من مدارج اللسان ولا من مدارج الحلق ولا من مدارج اللهاة، وإنما هي هاوية في الهواء، فلم يكن لها حيز تنسب إليه إلا الجوف، وكان يقول كثيرا: الألف اللينة والواو والياء هوائية(13).

ويسوق لنا ابن منظور قول الأزهري حول وجهة نظر الخليل قوله: "يقال للياء والواو والألف أحرف الجوف، كان الخليل يسميها الحروف الضعيفة الهوائية، وسميت جوفا لأنه لا أحياز لها كسائر الحروف التي لها أحياز، إنما تخرج من هواء الجوف فسميت مرة جوفا ومرة هوائية وسميت ضعيفة لانتقالها من حال إلى حال عند التصرف باعتلال"(14).

هذه الأصوات مما سبق تخرج من الهواء دون عائق، والخليل أيضا عند ترتيبه لحروف المعجم، ترك الألف والواو والياء في الأخير، مما يدل على وضعها الخاص الذي خالفت به سابقيها "فعدم وجود مخرج لهذه الأصوات بعبارة علماء الصوتيات اليوم أنه لا أثر للاحتكاك في إصدار هذه الأصوات، وأن قوتها التصويتية كان بسبب من خروج الهواء وفي الحق هذه هي الميزة الأساسية التي تمتاز بها أصوات المد"(15).

كما لاحظ الخليل أن للواو والياء حالتين مختلفتين هما: (أ) حال المد الكامل، وعبر عنها بمصطلحي "الواو الساكن بعد الضمة والياء الساكنة بعد الكسرة"(16)؛ (ب) حالة الواو والياء إذا تحركتا أو جاءتا بعد فتحة وهي الحالة التي "أطلق فيها على الواو والياء مصطلح نصفي مد"(17)، وهي الفكرة نفسها التي أيدته الدراسات الصوتية الحديثة(18).

وتنبه الخليل إلى علاقة أصوات المد القصيرة بأصوات الألف والواو والياء والتأثير فيما بينها أثناء التصريف ومن ذلك ما لاحظه من "أن الواو والياء إذا جاءتا بعد حركة قويتا، وكذلك إذا تحركتا كانتا أقوى"(19)، أما إذا سبقت بصامت ساكن فإنها تسقط "ومن تبيان ذلك أن الألف اللينة والياء بعد الكسرة والواو بعد الضمة إذا لقيهن حرف ساكن بعدهن سقطت كقولك عبد لله ذُو العمامة كأنك قلت ذُل، وتقول رأيتُ ذَا العمامة فكأنك قلت ذَل، وتقول مررتُ بِذِي العمامة، فكأنك قلت ذِل ونحو ذلك في الكلام أجمع"(20).

عالج الخليل الكثير من القضايا المتعلقة بأصوات العلة، لا يسع المقام لذكرها لاسيما ما تعلق منها بالجانب الصرفي، إذ حذا نحاة العربية حذوه من بعده، فأخذوا عنه أكثر وأضافوا إليه.

يعد سيبوسه على رأس علماء النحو الذين أخذوا غزير المادة عن الخليل، بل نجده يتفوق عليه في الكثير من قضايا العربية، فكانت ملاحظاته حول صوات المد جليلة، معتمدا في ذلك على معيار تحكم جهاز النطق بالهواء الخارج من الفم حيث قسم الأصوات اللغوية إلى عدة أقسام منها: الشديدة، الرخوة، المجهورة، المهموسة، اللينة وغيرها.

عد سيبويه الأصوات اللينة (الألف والواو والياء)، ومعها أصوات المد القصيرة أصواتا "غير مهموسة وهي حروف مد ولين ومخارجها متسعة لهواء الصوت: وليس من الحروف أوسع مخارج منها ولا أمد للصوت، فإذا وقعت عندها لم تضمه بشفة ولا لسان ولا حلق كضم غيرها"(21)، وفي قول سيبويه حقيقة كون هذه الأصوات مجهورة.

على خلاف أستاذه الخليل، يخرج سيبويه الهمزة من مدارج أصوات اللين، إلا أنه يجعلها والألف من أقصى الحلق(22)، كما تفطن على ازدواجية الواو والياء في الخصائص والوظيفة واختلافهما عن الألف لأن "الألف لا تتغير على حال، لأنها لو حركت صارت غير الألف، والواو والياء تحركان ولا تتغيران"(23).

وتحدث سيبويه عن مخارج هذه الأصوات، فالألف حرف لين "اتسع مخرجه لهواء الصوت، ومخرجه أشد من اتساع مخرج الياء والواو، لأنك قد تضم شفتيك في الواو وترفع في الياء لسانك قبل الحنك"(24).

في كلام سيبويه مساس بحقيقة مخارج هذه الأصوات، كما يدل على ذلك علم الصوتيات الحديث، بل إن الإضافات في هذا المجال من إفرازات التطور التكنولوجي الذي مكننا من معرفة حرك اللسان داخل الفم مع تلك الأصوات، "فأقصى ما يصل إليه اللسان متجها نحو الحنك الأعلى بحيث لا يحدث الهواء المار بينهما أي نوع من الحفيف، يعد موضعا مضبوطا بين أصوات اللين، وهو ما يشبه الكسرة الرقيقة في اللغة العربية حين يكون قصيرا، ويشبه ما يسمى بياء المد حين يكون طويلا"(25).

وإذا هبط اللسان إلى "أقصى ما يمكن أن يصل إليه في الفم، بحيث يستوي في قاع الفم، مع انحراف قليل في اقصى اللسان نحو أقصى الحنك، ما يشبه الفتحة المفخمة في اللغة العربية حين يكون قصيرا، ويشبه ما يسمى بألف المد المفخمة حين يكون طويلا"(26). أما الواو أو الضمة فتحدث بأن يصعد "أقصى اللسان نحو الحنك الأعلى، ...، ليكون الفراغ بينها من لسعة، بحيث لا يحدث الهواء أي نوع من الحفيف"(27).

إلا أن سيبويه قد قسم أصوات المد إلى ضربين: (1) مرتفعة وتضم كل من الواو والياء والضمة والكسرة. (2) مستفلة وتضم الألف والفتحة، مميز بين النوعين بفكرة الاستعلاء والاستفال، المرتبطة أساسا عند اللغويين العرب بارتفاع اللسان وانحطاطه داخل الفم أثناء النطق بالأصوات اللغوية(28). وتحدث سيبويه عن صوات اللين في مواطن كثيرة، مفردا لها باب خاصا، عند حديثه عن الإعلال.

ومن علماء العربية الذين، أرسوا دعائم الدراسة الصوتية من بعد سيبويه، وعالجوا هذا النوع من الأصوات معالجة دقيقة، اتفق عليها علماء الأصوات المحدثون، أبو الفتح عثمان ابن جني، الذي فرق بين هذه الأصوات قائلا:

"إن الصوت الذي يجري في الألف مخالف للصوت الذي يجري في الياء، والواو والصوت الذي يجري في الياء مخالف للصوت الذي يجري في الألف والواو، والعلة في ذلك أنك تجد الفم والحلق معها منفتحين غير معترضين على الصوت بضغط أو حصر، وأما الياء فتجد معها الأضراس سفلا وعلوا قد اكتنفت جنبتي اللسان، وضغطته، وتفاج الحنك عن ظهر اللسان فجرى الصوت متصعدا هناك، فلأجل تلك الفجوة ما استطال، وأما الواو فتضم لها معظم الشفتين، وتدع بينهما بعض الانفراج ليخرج فيه النفس، ويتصل الصوت فلما اختلفت أشكال الحلق والفم، والشفتين مع هذه الأحرف اختلف الصدى المنبعث من الصدر، وذلك قولك في الألف: (أا) وفي الياء (أي) وفي الواو(أو)"(29).

كما أنه قال عنها موضحا: "فإن اتسع مخرج الحرف حتى لا يقتطع الصوت عن امتداده واستطالته استمر الصوت ممتدا حتى ينفذ (...) فيفضي حسيرا إلى مخرج الهمزة، فينقطع بالضرورة عندها، إذ لم يجد منقطعا فيما فوقها. والحروف التي اتسعت مخارجها ثلاثة الألف ثم الياء ثم الواو"(30).

ويؤكد ابن الجني هذه الحقيقة عندما يعقد مقارنة بين الجهاز الصوتي والناي: "فإن الصوت يخرج فيه مستطيلا أملس ساذجا، كما يجري الصوت في الألف غفلا بغير صنعة. فإذا وضع الزامر أنامله على خروق الناي المنسوقة وراوح بين أنامله، اختلفت الأصوات وسمع لكل خرق منها صوت لا يشبه صاحبه. فكذلك إذا قطع الصوت في الحلق والفم باعتماد على جهات مختلفة، كان سبب استماعنا هذه الأصوات المختلفة"(31).

ويؤكد فكرة اتساع مخارج أصوات المد في كل مرة كقوله: "والحروف التي اتسع مخرجها ثلاثة: الألف، ثم الياء، ثم الواو وأوسعها وألينها الألف، إلا أن الصوت الذي يجري في الألف مخالف للصوت الذي في الياء والواو، والصوت الذي يجري في الياء مخالف للصوت الذي يجري في الألف والواو، والعلة في ذلك أنك تجد الفم والحلق في ثلاث أحوال مختلفة الأشكال"(32).

كما أثار ابن جني قضية الألف المفخمة في قوله: "وأما ألف التفخيم فهي التي تجدها ما بين الألف والواو ونحو قولهم سلامٌ عليك، وقام زيدٌ، وعلى هذا كتبوا الصلُوة والزَّكُوة والحيُوة بالواو ولأن الألف مالت نحو الواو"(33)، لكنه مع ذلك لم يشر إلى مخرجه والذي يحدث بـ"أن تستدير الشفتان قليلا مع تساع في الفم نتيجة لحركة الفك الأسفل، ثم يرتفع مؤخر اللسان قليلا، فيصير الفم في مجموعة حجرة رنين صالحة لإنتاج تلك القيمة الصوتية المعروفة بالتفخيم"(34).

وجاء في قوله أثناء حديثه في مسائل علم التصريف: "فجميع الحروف صحيح إلا الألف والياء والواو اللواتي هن حروف المد والاستطالة (...) إلا الألف أشد امتدادا وأوسع مخرجا وهو الحرف الهاوي"(35)، فالصوامت كلها صحيحة، لا تقبل الإعلال إلا أصوات المد.

إن جهود ابن جني في مجال الصوتيات جبارة، تميزت عن غيرها بالدقة والتفصيل، بما فيه ذلك دراسته للصوائت العربية، لا سيما عندما تطرق إلى قضية الإعلال(36).

إن هذا التفصيل بين الصوامت والصوائت لم يقتصر على اللغويين فحسب بل تعداه إلى الفلاسفة، فابن سينا مثلا تميز عن غيره بتسمية هذا النوع من الأصوات بـ"المصوتات". وهذا المصطلح لا يزال متداولا إلى يومنا هذا عند بعض الدارسين العرب(37)، ويسمي الواو والياء غير المديتين بـ"الصامتة"، فابن سينا في ترتيبه لأصوات العربية يبدأ بالصوامت ثم أشباه المصوتات، ثم المصوتات. والجدير بالذكر أنه لم يضع مخرج الهمزة مع الألف، كما فعل اللغويون(38).

أما الياء الصامتة فـ"إنها تحدث حيث السين والزاي، ولكن بضغط وحفز للهواء ضعيف لا يبلغ أن يحدث صفيرا"(39)، وتحدث الواو الصامتة "حيث تحدث الفاء، ولكن بضغط وحفز للهواء ضعيف لا ينافس في انضغاطه سطح لشفة، ثم يتم هيئته بقلع أيضا للمقدار المنطبق من الشفة في الفاء"(40).

وفي حديثه عن الصوائت، يفصل في مخرج كل واحدة من الثلاثة، فيقول عن الواو المصوتة أولا: "وأما الواو المصوتة وأختها الضمة فأظن أن مخرجها مع إطلاق الهواء مع أدنى تضييق للمخرج وميل به سلس إلى فوق"(41)، وأما الياء المصوتة "وأختها الكسرة فأظن أن مخرجهما مع إطلاق الهواء مع أدنى تضييق للمخرج وميل به سلس إلى أسفل"(42)، وأخيرا يصف مخرج الألف المصوتة فيقول: "أما الألف المصوتة وأختها الفتحة فأظن أن مخرجهما مع إطلاق الهواء سلسا غير متزاحم"(43).

إذن الصوائت أو المصوتات كما يسميها ابن سينا هي الألف والواو والياء، وقد دعاها أيضا بالكبريات، أصوات انطلاقية، لا انحباس فيها.

ومن الفلاسفة، يطل علينا الفارابي دائما بدراسته في هذا المجال، ويمكن القول إنه فصل في الصوائت، لأنه تناول الدراسة المقطعية التي ترتبط أساسا بالصوائت، أو كما يسميها هو المصوتات.

[يتبع في العدد القادم]

= = = = =

الإحالات

(1) علم اللغة العام -الأصوات، كمال بشر، دار المعارف، مصر، ط6، 1980، ص76.

(2) الأصوات اللغوية، إبراهيم أنيس، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، مصر، 1992، ط3، ص26.

(3) سر صناعة الإعراب، أبو الفتح عثمان ابن جني، تحقيق هنداوي، دار القلم، دمشق، سوريا، 1993، ص6-7.

(4) فقه اللغة، علي عبد الواحد وفي، ص160.

(5) الأصوات اللغوية، إبراهيم أنيس، ص20.

(6) علم اللغة العام- الأصوات، كمال بشر، هامش ص76.

(7) الأصوات اللغوية، إبراهيم أنيس، ص26.

(8) المرجع نفسه، ص29.

(9) في الأصوات اللغوية، غالب فاضل المطلبي، دائرة الشؤون الثقافية والنشر بغداد، دط، 1984، ص3-4.

(10) المرجع نفسه، ص70.

(11) تهذيب اللغة للأزهري، تحقيق عبد السلام هارون وآخرين، القاهرة، 1384هـ-1964، 1/48.

(12) العين، الخليل بن أحمد الفراهيدي، مطبعة العاني، بغداد، 1967، 1/64.

(13) لسان العرب، ابن منظور، دار صادر، بيروت، لبنان، ص3.

(14) في الأصوات اللغوية، غالب فاضل المطلبي، ص70.

(15) تهذيب اللغة للأزهري 1/51.

(16) المصدر نفسه، ص52.

(17) ينظر مثلا الأصوات اللغوية، لإبراهيم أنيس 42-43، أو علم اللغة العام – الأصوات، لكمال بشر، ص83 وما بعدها.

(18) تهذيب اللغة للأزهري 1/52.

(19) لكتاب، أبو بشر عمرو بن قنبر سيبويه، مطبعة الأميرية، بولاق، مصر، 2/285.

(20) الكتاب، سيبويه، تحقيق عبد السلام هارون، دار الجيل، بيروت، ط1، 1411هـ ـ 1991، 4/433.

(21) الكتاب 2/167. ينظر أيضا 4/75-193، و 3/469، حيث فصل في الياء والواو أشباه الصوائت.

(22) المصدر نفسه 2/392.

(23) الأصوات اللغوية لإبراهيم أنيس، ص31.

(24) المرجع نفسه،ص32.

(25) في الأصوات اللغوية، غالب فاضل المطلبي، 80، نقلا عن لطائف الإشارات 1/198.

(26) سر صناعة الإعراب، ابن جني، 1/8-9.

(27) المصدر نفسه 7-8.

(28) سر صناعة الإعراب1/7-8.

(29) المصدر نفسه 1/6.

(30) المصدر نفسه 1/50.

(31) العربية، معناها ومبناها، تمام حسان، دار الثقافة، الدار البيضاء، المغرب، دط، دت، ص53.

(32) سر صناعة الإعراب 1/65.

(33) ينظر المصدر السابق، ص50 وما بعدها.

(34) مثلا: حسام الدين النعيمي في كتابه "أبحاث في أصوات العربية".

(35) الأصوات اللغوية، إبراهيم أنيس، ص89-90.

(36) رسالة أسباب حدوث الحروف، ابن سينا، تحقيق محمد حسّان الطّيان ويحيى مير علم، تقديم ومراجعة شاكر الفحام وأحمد راتب النفاخ، مطبوعات مجمع اللغة العربية، دمشق، ط1، 1982، ص84.

(37) المصدر نفسه، ص124.

(38) أبحاث في أصوات العربية، أحمد حسام الدين النعيمي، دار الشؤون الثقافية العامة، آفاق عربية، بغداد، العراق، ط1، 1998، ص86.

(39) كتاب الموسيقى الكبير، الفارابي، تحقيق غطاس عبد الملك خشبة، القاهرة، ص1072.

(40) كتاب الموسيقى الكبير، ص1075.

(41) الرعاية لتجويد القراءة، مكي بن أبي طالب، تحقيق أحمد حسن فرحات، الأردن، ط2، 1984، ص108-109.

(42) التعريف في اختلاف الرواة عن نافع، الداني، تحقيق التهامي الراجي الهاشمي، المغرب،1982، ص261.

(43) الرعاية لتجويد القرآن، ص109.

D 25 نيسان (أبريل) 2014     A أمينة طيبي     C 0 تعليقات