عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

هدى أبو غنيمة - الأردن

مختارات: الثقافة حصننا الأخير


الموضوع أدناه مقتطف من كتاب عنوانه "أرق الشوراد" للناقدة الأردنية هدى أبو غنيمة.

هدى أبو غنيمةإن التنمية الثقافية، وتحصين الذات تستدعي مناخا حرا عقلانيا يحترم الاختلاف في الرأي. وروح النقد تستدعي إفساح المجال لثقافة تقاوم الاستيلاء والهيمنة، وتقاوم إشاعة اليأس والاستسلام لما يفرضه الآخر الذي يسلب الثروات المادية كما في الأيام الاستعمارية البائدة فحسب، بل يدمر القوى الفكرية والثقافية والروحية.

إن الأمن الثقافي يرتبط بثقافة تسند أحلام الناس وتطلعاتهم، وتنحاز إلى معاناتهم وهمومهم، وتحترم عقائدهم وأفكارهم في زمن تستهدف فيه أيديولوجيا العولمة الأمة والدولة والوطن.

لا تنفصل العولمة كنظام اقتصادي عضويا عن وسائل الاتصال التي تنشر ثقافة الاختراق [1]. إن من آليات أيديولوجيا العولمة إقصاء كلمات ومصطلحات لا تتفق مع العولمة ومقاصدها، مثل الذاكرة الوطنية والتاريخ والوعي بالتفاوت الطبقي، وبالانتماء الوطني والقومي. وهكذا تحل مصطلحات مثل ثقافة الانفتاح أو ثقافة التعدد والاختلاف، أو ثقافة التكيف، بدل ثقافة التحرر والوحدة.

إن ثقافة العولمة ليست شيئا آخر غير ربط الناس اقتصاديا وسياسيا وثقافيا بوطن جديد خارج الوطن، وخارج التاريخ، وطن بدون حدود وبدون ذاكرة وبدون تراث. إنه الوطن الذي تبنيه شبكات الاتصال الإلكترونية، ويسود فيه مبدأ البقاء للأصلح، والأصلح هو الناجح في كسب الثروة والنفوذ وتحقيق الهيمنة [2].

ترى ماذا يتبقى من الدولة والوطن والأمة غير القيام بدور الدركي لنظام العولمة؟ مما يؤدي إلى متاهات الفوضى والتطرف والإرهاب في ظل غياب السياسة وتلاشيها في سيولة أيديولوجيا العولمة.

إن تنمية الأمن الثقافي يعني حماية السياسة والدولة، والأمن الثقافي يستدعي دعم ثقافة ذات بعد إنساني.

لا تعني ثقافة المقاومة أن يكون "صراخنا أضخم من أصواتنا، وسيفنا أطول من قاماتنا" كما قال نزار قباني، بل مهمتها الأولى أن تعيد إلى الكلمات سمعتها وتأثيرها بعد أن كادت الأحداث تشوه هذه السمعة.

إن ثقافة المقاومة تتجاوز الهتاف، والتقريرية والمباشرة إلى إبراز مخزون الذاكرة الشعبية الجمعية من القيم الوطنية والإنسانية، والارتقاء بالتعبير عن معاناة شعوب هذه المنطقة، لتصبح مرادفا إنسانيا لمعاناة كل الشعوب المضطهدة في العالم، فالمقاومة في جوهرها إنسانية، بل كل إنتاج إبداعي إنساني هو في جوهره نشاط مقاوم للزمن والموت، هاجس البشرية الأزلي.

الآن ونحن نواجه اجتياحا ثقافيا لا قبل لنا به وقد أصبحت "أقل كلمة تزن أثقل من دمعة" يزداد شعورنا بالظلم الشامل وتزداد حاجتنا إلى ثقافة المقاومة لنقول للعالم إننا جزء من هذا العالم. بل نشكل بشعوبنا وقوانا ثلثه، ومن حقنا أن نثريه بخصوصيتنا وبإنسانية هويتنا. من حقنا أن نقول:

إن الإرهاب العسكري والاقتصادي والثقافي قد أفقدنا بهجة التمتع بزهور بلادنا لأن رؤية دحنونة حمراء تستدعي إلى أذهاننا دم الشهداء والضحايا، ورؤية اللوحة الفنية، أو الإصغاء إلى قطعة موسيقية يثيران في نفوسنا الأسى أكثر مما يرتقيان بحواسنا لأننا لا نكاد نحيا بالخبز وحده.

أليس من حقنا أن نطالب بالفصل بين الحداثة والتغريب في وسائل الإعلام كافة؟ أليس من حقنا أن نقاوم اليأس والإحباط والتخاذل ونطالب بتحصين هويتنا الثقافية بثقافة المقاومة التي تستنهض الذات الحضارية الجمعية وتطهرها من العنصرية والطائفية والنفعية، وتوجه طاقاتنا توجيها يحمي الأمة والدولة والمجتمع ويشحن الوجدان بالثقة في إمكانيات الأمة وقواها الراسبة في الأعماق؟

إن الأمن الثقافي مرهون بتخلي المثقفين عن النخبوية المتعالية، وتحررهم من وهم التوجه إلى مراكز السلطة كوسيلة وحيدة للتغيير، وإدراكهم بأنهم يمثلون سلطة أخلاقية وثقافية عليا تحملهم مسؤولية تاريخية كبرى أمام شعوبهم وتجعلهم قادرين على المساهمة الفاعلة لإخراج السياسية العربية من أزمتها.

ولا يحتاج ذلك إلى قرار سياسي أو مؤتمرات أو قمم ثقافية، بل يحتاج إلى إيمان المثقفين والمبدعين بأنهم بتضامنهم، وتوحيد رؤاهم عضويا في إطار الهوية القومية والحضارية وجهودهم، يضعون أهم دعامات الأمن الثقافي للدفاع عما اصطلح على تسميته بالروح والفكر، أو الوجدان وهو جوهر الحضارة والإنسان والتاريخ.

ولذلك لا بد أن يبدأوا من قلق أسئلة الروح الجمعية المعلقة في فراغ الصدى. هل الحركة الثقافية بحجم الملايين الذين يمثلون هذه الأمة. هل هي بحجم طموحاتهم؟ هل تكفي للصمود وغرس الأقدام في الأرض في عصر يكتسح كالطوفان كل شيء؟ وهل ألغى الغرب فكره ودينه ومواقفه حينما أخذ عن العرب ما أخذ؟ والإجابة عمل صامت يشبه صمت البحر.

= = = = =

الهوامش

[1] محمد عابد الجابري. 1999. المسألة الثقافية. سلسلة الثقافية القومية، 25. قضايا الفكر العربي، القسم الرابع، في الاختراق الثقافي. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.

[2] محمد عابد الجابري. 1997. قضايا في الفكر المعاصر.بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية. ص ص 150-152.


هدى أبو غنيمة. أرق الشوارد. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2011، ص ص 262-264.

JPEG - 25.7 كيليبايت
غلاف كتاب هدى أبو غنيمة
D 25 آب (أغسطس) 2014     A عود الند: التحرير     C 6 تعليقات

3 مشاركة منتدى

  • الأستاذة الناقدة هدى أبو غنيمة ، أثرت هنا موضوعا عميقا يرتبط بالخطر الذي يهدد ثقافتنا ، بالاجتياح الذي يحاول طمس الهوية ، هي حداثة بطعم التغريب ، وانفتاح يحاول أن تنصهر فيه المعالم والملامح ، ليكون الاستعمارالإعلامي قد حقق هدفه .
    هي أسئلة استدعت القلق ، لتعمل جاهدة على أخذ الحيطة والحذر، وكما تفضلت وأن قلت –المساهمة في إخراج السياسة العربية من أزمتها.
    هي هذه السياسة العربية الممزقة الأوصال ، المتشعبة ،المزروعة بآلاف الألغام ، ومحاولة إحصاء كم الطموحات التي سنشمر لها سواعدنا لكي نؤمن ثقافتنا من أي فيروس سيفتك بها
    ناقدتنا الرائعة ، دمت فكرا نيرا، ودامت غيرتك على هويتنا العربية.محبتي وباقة ورد تليق بشخصك ا


  • "التنمية الثقافية وتحصين الذات تستدعي مناخا حرا يحترم الاختلاف في الرأي". أين نحن مما تقولين يا سيدتي؟ نحن في فترة تحوّل مخيفة في تاريخ حضارة البشرية، ستقضي علينا إن لم نتدارك أنفسنا بالتفاهم كعامل من عوامل بداية الإصلاح لهذه الأمة المنكوبة؟ أرأيتِ يا سيدتي ما آلت إليه أحوالنا؟ عاد بنا الزمن إلى يوم انطلقت سفينة نوح لتنجو بمن فيها، أو كاليوم الذي صُلِبَ فيه يسوع المسيح. أرأيتِ أولئك من يبيحون لأنفسهم نحر الناس بإرادة من السماء؟ شكرا لك سيدتي الكريمة. أنا معجب حقاً برصانتك وتجردك في النقد والتعليق.


  • هدى ابو غنيمة
    سيدتي
    برايي المتواضع ارى العولمة مزيجا من نظام اﻻقطاع لكن بدون ابتﻻع اﻻراضي بل دول باكملها واﻻستعمار القديم الذي عمل المستحيل ﻻطفاء قناديل هويتنا وانفﻻقا نوويا، بشوه كل ما هو جميل في حياتنا.
    تناولك للموضوع سيدتي ، وكما دابت دوما في منتهى الموضوعية والرقي وﻻ يخلو من البحث في تفاصيل المشاعر اﻻنسانية.
    دام قلمك الذي يضفي دوما مﻻمحا انسانية لكل شيء .
    سلمت اناملك يا حنان عود الند المعبق ثقافة
    اعذري عدم تواصلي ﻻعطال قي الشبكة
    هدى الكناني


    • عزيزتي أ/هدى الكناني تحية طيبة وكل الشكر والتقدير لرأيك هي حقا تشبه النظام الإقطاعي ,ولكنها أكثر توحشا لاسيما ونحن نعاني أزمة حضارية مركبة ,ونوغل في دوامة العنف .الشكرالجزيل لكلماتك الرقيقة ,ودمت كاتبة متألقة ببوحك الجميل .أرجو لك أياما أجمل مما مضى لعل الدمع المترقرق بين سطورك يجف .أثق بأنك رغم قسوة المعاناة قوية العزيمة عصية على الانكسار ياابنة الرافدين العريقة

في العدد نفسه

كلمة العدد 99: عام دراسي جديد: نحو الارتقاء بمستويات التعليم

الجرجاني وتحليل النص

التواصل الحضاري في عالم متغير

مفهوم الأدب والأديب عند الرافعي-ج2

الفلسفة في قصائد النثر في غزة