عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

د. أحمد قريش - الجزائر

الإرهاب في الرواية الجزائرية


الإرهاب في الرواية الجزائرية: رواية "خرفان المولى" (*) لياسمينة خضرة أنموذجا

(*) رواية بالفرنسية: les agneaux de seigneur

أحمد قريشلم تكن الأزمة الأمنية الجزائرية التي امتدت على مدار عشرية كاملة ظاهرة عرضية، وخاصة أنّها أقحمت تحوّلات عديدة في كيان المجتمع والدّولة، فاللاأمن واللااستقرار، وأسبابهما المتداخلة، فضلا عن الخسائر البشرية والمادية الناجمة عنهما، وما صاحبها من انعكاسات اجتماعية متفرّقة كالهجرة والنّزوح، استلهمت عدد قليل من الأدباء والمفكّرين والكتّاب، واستقطبت أقلام الباحثين والإعلاميين والسياسيين جزائريين وعرب وأجانب بشكل أكبر.

لا تمثّل "النظرة" الروائية إلى الأزمة الأمنية الجزائرية سوى قطرة في محيط لعدم اهتمام الروائيين الجزائريين بالحدث لأسباب تتفاوت وتتعارض من واحد إلى آخر، إلاّ أنّ الإعلام أجمع على أنّ الدافع المشترك في العزوف عن تناول الهمّ الذي ألمّ بالجزائريين ومعالجته معالجة فنيّة في قالب روائي هو ائتمان الجانب من الذين نعتوا بالدمويين[1] الذي استهدفوهم في أرواحهم على غرار جيلالي اليابس، وأبي بكر بلقايد، وعبد القادر علولة، أو تهجيرهم وخاصة الذين صنّفوهم بالمتغرّبين، كرشيد بوجدرة، ورشيد ميموني، وواسيني الأعرج، وأمين الزاوي.

ولمّا كانت علاقة التّأثير والتأثّر المتداولة من الواقع الاجتماعي والأدب عموما لا تحتاج إلى حجج وبراهين، كان لا بدّ – للعشرية السوداء– أن تحظى بنصيبها من هذا الأدب سواء أكان قصة أم رواية أم شعرا. فتحرّكت بعض الأقلام، وإنّ كان تحرّكهم متأخرا، إحساسا منهم بقدرتهم على نقل و تصوير جوانب متعدّدة من واقع الجزائر المحتوم الاجتماعي والسياسي وحتى التحوّل الثقافي الذي صنعه الظّرف، في أعمالهم التي أعطت لبعضهم فيها حرية التّعبير التي تأصّلت فيهم، فرصة الإبداء عن مواقفهم وآرائهم حيال هذا الظّرف بشكل صريح و جريء، أو بشكل ضمني بالنّسبة للذين لم يمتلكوا هذه الخاصية.

إن السجال القائم حاليا في تحديد مدلول الإرهاب لا يعود بالأساس إلى وجود التباس في العلاقة بين المعنى القاموسي والآخر الاصطلاحي، بل يتعلق الأمر كذلك في طريقة الاستعمال والتداول من بيئة إلى أخرى من حيث الوضوح والغموض، من حيث الدقة والشمول. فالعلاقة بين (المفهومين اللغوي والاصطلاحي) تفرض توضيحها المفاهيم، والسجال يمكن تجاوزه عندما يتضح موقف الاستعمال.

يبدو أن دلالة كلمة "إرهاب" في الفكر المعاصر أخذت منحيين: منحى ذو بعد سلبي، والآخر ذو بعد إيجابي، فالسلبي مستمد الفكر الغربي، وتتجلى سلبيته في أنه لا ينسجم مع هوى الآخر، ولا يعبّر عن مواقفه. أما الإيجابي: فهو حق مشروع في تطبيقه واستخدامه، ارتضاه الإسلام في مواقف معيّنة ومؤطرة، الهدف منه تخويف الأعداء كما ورد في قوله تعالى: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم"[2].

وما الدلالات القاموسية للمصطلحات الفلسفية المختلفة للفكر الغربي من الصعب إرساؤها على مدلول ثابت، فكلمة "الإرهاب" تقابل الكلمة الفرنسية (terrorisme)، التي شاع استعمالها خلال الثورة الفرنسية، تمّ اشتقاقها الكلمة اللاتينية (terrere) بمعنى "التخويف"، وذاع استخدمها في نعت الطرائق المنتهجة من قبل الساسة الفرنسيين.

ويبدو أنّ مرادفها الحقيقي والفعلي والسليم في نفس الوقت في اللغة العربية هو "الإخافة والإرعاب". وهي كلمة مشتقة من الفعل "أرهب"، ويقال: (أرهب فلانا) أي: خوَّفه وفزَّعه، و(رهب يرهب رهبة ورهبا) بمعنى: خاف، فيقال: (رهب الشيء رهبا ورهبة أي: خافه، والرهبة: الخوف والفزع). و(تَرَهَّبَ) فيعني انقطع للعبادة في صومعته، ويشتق منه الراهب والراهبة والرهبنة والرهبانية.

ويستعمل الفعل ترَهَّبَ كذلك بمعنى توعد فيقال ترهب فلانا: أي توعده وأرهَبَه ورهَّبَه: والاسم أخافَه وفزَّعه. والاسم الرَّهَبُ، كقوله تعالى: (مِنْ الرَّهْبِ) أي بمعنى الرهبة، ومنه: "لا رهبانية في الإسلام"... كاعتناق السلاسل، والاختصاء، وما أشبه ذلك مما كانت الرهابنة تتكلفه، وأصلها من الرَّهْبَنَةِ: الخوف، وترك ملاذ الحياة"[3].

والإرهابيون: (وصف يطلق على الذين يسلكون سبيل العنف والإرهاب لتحقيق أهدافهم السياسية)[4]. وفي المنجد كلمة الإرهابي تدل على كل (من يلجأ إلى الإرهاب لإقامة سلطة)[5].

لقد شكّل تعدّد التّجارب الروائية، التي نحن بصدد دراسة جانب منها، وتشبّعها إبّان "العشرية السوداء" التي حدّدها بحثنا هذا، عامل اهتمام لدراسة النظرة الروائية للأزمة الأمنية الجزائرية، لتكون فرصة لتحديد خطابات الروائيين الجزائريين واستخلاص رؤاهم ومواقفهم من تلك الخطابات.

ويقف في مقدمة هذه المجموعة من الروائيين ياسمينة خضرة في روايته "خرفان المولى" التي تناول فيها موضوع الإرهاب في الجزائر.

بيّنت الرّواية كيف استطاعت الحركة الجهادية الإسلامية في الجزائر السّيطرة على الوضع في مرحلة معيّنة، باستغلالها للمقهورين والمهمّشين والمتعسّفين من المجتمع. وأظهرت أيضا أنّ الصّراع عقائدي وثقافي أكثر مما هو حرب معلنة ضد المواطن والدّولة، كما ضد المدينة والمجتمع. ولذا فإنّ الطرح الرّوائي وأبعاده لا يخصّ مشكلة الإرهاب التي حصرها في أكثرية شخوص الرواية المنحرفة عن جادة الصواب بقدر ما يخصّ آفة أو ظاهرة متفشية أفرزتها البيئة الثقافية والدينية الرائجة بمرجعياتها ورموزها وتعاليمها وخطابتها وأحكامها وفتاواها، أي أنّ الكاتب شكلّ الوجه الآخر لثقافة أسهمت في إنتاج التحجّر والأحادية والعدوانية والاستبداد بالرأي، أنّها ثقافة قامت على خمس دعائم من حيث المبدأ والشّعار أو المنطق والمنهج والأداة[6].

المعتقد الاصطفائي الذي على إثره يتصوّر المؤمنين به أنّهم خلفاء الله، وسادة الخلق وغير النّاس، وملاك الحقيقة وحراس الإيمان، والسّالكون الطّريق المستقيم دون غيرهم، هذا ما يمكن استشفافه من حوار الرواية.

والخطّ الأصولي المتبنّى في الرواية يظهر بكلّ وضوح فكرة مفادها أنّ التّشريع القديم يتوافر على حلول وأجوبة للأسئلة والمشكلات الرّاهنة، لخّصه الكاتب في حوار " الداكتيلو" الكاتب العمومي المثقّف، الذي يُنظر إليه على أنّه مناهض لكلّ ما يمتّ بالإسلام، ومضايق بأفكاره وسلوكه لمنهج المسلمين.

أعطى الكاتب ياسمينة خضرة صورة عن نشاط حركة إسلامية سريّة في قرية صغيرة نائية غير بعيدة عن الجزائر العاصمة تدعى "غاشيما"، تشرف عليها سلسلة من الجبال أطلق عليها "جبال الخوف" يقطنها سكان، على أقليتهم، يختلفون في مواقفهم تجاه التّيار الذي داهم بيئتهم، ويتمايزون ثقافيا واجتماعيا وسياسيا وحتى عقائديا.

غلاف روايةأسّس الكاتب تناظرا فنيا بين حياة الفئة التي تمثّل الثّقافة الدنيوية التي يمثلّها "الداكتيلو" الكاتب العمومي الذي اغتالته الجماعة الإرهابية بسبب مواقفه الجريئة في مناهضة الحركة الأصولية، وبين الفئة التي تتبنّى الثّقافة الدّينية (الأصولية) التي يمثلها قادة هلال المعلّم الملقّب بالأفغاني، لأنّه ذهب إلى أفغانستان للجهاد قبل تأسيس الجبهة الإسلامية للإنقاذ "FIS"، ثم أصبح أمير لجماعة إرهابية، وبين فئة تمثّل الدولة "النّظام" يمثلها الشرطي علال سيدهوم اغتالته الجماعة الإرهابية وسبت زوجته "صارة" ابنة رئيس بلدية سابق، وبين فئة تمثّل اللاّموقف يمثلها "زان" القزم عميل الجماعة الإرهابية مقابل مكافآت مادية، وبين فئة تمثّل الذلّ والهوان يمثلها "عيسى" الملقب بـ "La hante" لأنّه كان وقت الاستعمار مخبرا للاستخبارات الفرنسية، وبين فئة عاطلة عن العمل "بطالة"، يمثلها جعفر وهاب.

ووظّف الكاتب هذا التّناظر لإبراز التّفاوت الثّقافي والطّبقي (الاجتماعي)، الذي ساد المجتمع الجزائري قبل الأزمة الأمنية، لكن دون الخطابة والدّعاية اللّتين تميزان عادة الأعمال الروائية التي تحاول رصد الظّواهر الاجتماعية انطلاقا من الجذور والأسباب الطبقية المعبّرة عن الرؤية المادية للكاتب. مع العلم أنّ رواية "خرفان المولى" لم تكتف بتبيان مظاهر الإرهاب الذي عانى منه المجتمع الجزائري، ولكنّها حاولت اختراق عمق الظّواهر للكشف عن مسبّباتها وحجم نتائجها. كما عكست العلاقة الجدلية بين ضياع المثقّف وشعوره بعدم الانتماء من جهة، وشراسة الإرهاب من جهة أخرى. وسار هذا التّناظر بين هذه الشّخصيات الفعّالة في الرواية من بداية نشاط الحركة الإسلامية السّرية إلى نهاية الرواية.

ولئن انحصر زمن الرواية بالوضع العام للجزائر، فإنّ زمن الوقائع امتد ليشمل فترة زمنية امتدت من أحداث أكتوبر 1988م إلى غاية فترة تأزّم الوضع الأمني.

ومما سوّغ امتداد زمن الوقائع وشموليته، عدم تمحوره حول الزّمن الخاص بالشّخصيات الفعّالة، أي شخصيات كلّ من الشّرطي علال سيدهوم، والمعلّم قادة هلال، والميكانيكي تاج عصمان، و"الداكتيلو" الكاتب العمومي، وجعفر وهاب العاطل عن العمل، وغيرها التي امتلأت بها الرواية، بل دورانها حول كافتهم، فالرواية لم تختصّ بشخصية واحدة، ولم تقم على حدث بعينه، ولم تقتصر على المعطيات الزمانية المكانية للأحداث[7]، فتداخل أحداث الشخوص وأزمنتها عبر التّداعي الذي تحمله البنية الدلالية، في لغتها الأصلية (الفرنسية)، الدائرية التي تبدو الأساس الثّابت والمستقر وكأنّها بنية اللاوعي الكامنة في خلفية ياسمينة خضرة الإبداعية. وهذا القالب الفني الموحي بوجود الحقيقة من جهة، وإبداء الكاتب حكما تقويميا للوضع من جهة أخرى، بدت أزمنة الشخصيات والأحداث أزمنة لاحيادية، بجعل الحوار يتمّ مداورة بينها.

ولعلّ زمن الخطاب هو أول علامة تلفت نظر القارئ، لكونه زمن ارتبط بالحياة العامة للجزائريين قبيل أحداث أكتوبر1988، ووقعها في نفوسهم، وتقاطعت فيه جميع الأزمنة الماضي والحاضر والمستقبل، وذلك بغية الإشارة إلى فظاعة وجسامة الأعمال الإرهابية بسقوط قرية "غاشميا" في قبضة تاج عصمان الميكانيكي الذي أصبح قائدا لكتيبة الموت، ناقما على المجتمع بسبب ما جناه أبوه عليه من مذلّة وهوان جرّاء مواقفه المعادية للثورة التحريرية الجزائرية، وموالاته للاستعمار، ومن مهنته التي ضاق ذرعا منها لكون تعبها فاق دخلها، وما اسم "ميكانيكي" إلا دلالة يوحي بها عن المستوى الثقافي.

واصطّف ماضي شخصيات الرّواية ليشير به الكاتب إلى عمق التّناقضات بين المثقّف وغير المثقّف، وبين الوطني وغير الوطني، كما هو مجسّد في "الداكتيلو" الذي قتلته الجماعة الإرهابية بسبب مواقف المعادية للحركات الأصولية، ودفاعه عن مَعْلَم حضاري من الآثار القديمة، حاولت الجماعة الإرهابية نسفه لإنجاز مسجد في مكانه. وعصمان "الميكانيكي" الذي أسندت له مهمة قيادة كتيبة دموية، وقادة هلال الملقّب بالأفغاني، وهو معلّم في القرية أصبح أميرا للجماعة، وبين علال الشرطي الذي يمثل النّظام (وهو طاغوت) في منظورهم، ضحّى بنفسه في سبيل الدّفاع عن قريته، وسُبيت زوجته سارة، وهو الاسم الذي ألهم الكثير من الشعراء الجزائريين وتغنى به المغنّيون، والحاج موريس فرنسي الجنسية متزوج من مسلمة، فضّل الإقامة بعد الاستقلال في الجزائر التي قدّم لها كلّ ما يملك من المعرفة، قتلته الجماعة لا لشيء سوى أنّه طاغوت أجنبي. وبين عيسى عصمان الذي يعمل "شاويشا" لدى رئيس المندوبية التنفيذية للبلدية، ولقّب بعيسى "لاهونت" لأنّه كان وقت الاستعمار عميلا لمخابرات الفرنسية.

فالتّماشي مع الحركة الإسلامية السريّة التي سبقت أحداث أكتوبر 1988م التي افتتح بها زمن الرواية، وانتهى بموت بعض شخوصها، وتداعي البعض، وانطلق بأحداثها نحو المستقبل، وكأنّ بالكاتب يشير إلى أن الماضي مسئول عن الحاضر.

وبهذا عبّرت البنية الدّلالية (الدائرية) التي تقاطعت معها الأزمنة في الرواية عن تواصل الماضي والحاضر والمستقبل الذي تركه الكاتب مفتوحا، بصفته محور الرواية المقيّمة للوضع، الدّاعية إلى استنكاره ونبذ صانعيه، انطلاقا من المسار الذي أخذته هذه الحركة الجهادية، على الرّغم من المنحى الحيادي للكاتب الذي عبّر عنه بطريقة الحوار.

الأزمنة من خلال المكان

من غير الممكن تشكيل صورة لخطّة خاصة من الوجود من دون إحلال هذه اللّحظة في سياقها المكاني[8]، وانطلاقا من هذا الرؤية فإنّ لكلّ رواية مكانا تتحرّك فيه الشّخصيات بالتّفاعل مع الأحداث.

مطابقة الرّواية للواقع ولتجربة الشّخصيات، أكسبت المكان ومختلف الصّفات الدّلالية المشيرة إلى الوضع الاجتماعي، والمهني، والطبقي. وإن كانت المظاهر المادية لا تحتلّ الصدارة مثلما تقتضيه الواقعية الغربية[9]، فالكاتب تعرّض إلى بعض جزئيات الماديات للدّلالة على الفوارق الطبقية والاجتماعية، كوصف المسكن، وأثاثه للدّلالة على الفقر والغنى مثلا.

ولم يعد المكان عند ياسمينة خضرة له دور تزييني بصفته ديكور الرواية، بل أحضره للدّلالة على الواقع العام، وإن كان لا يمثّله تمثيلا دقيقا فكأنّ الكاتب لا يعرف معلم حيّزه بدقة[10]، وفضاء الرواية "الذي تنضوي تحته مجموع أمكنة[11] قرية "غاشيما" دون الربط بالمكان الرئيسي، لأنّ القرية مدلول مخالف لمعناه الاصطلاحي، فهو رديف للوطن (الجزائر) وذاكرته، ويتيح قراءة الأزمة الأمنية على مستويات مختلفة، فالمكان الذي تقيم فيه الشخوص لا تكتسي ملامحه الوصف الدّقيق أو تجسيده الفني المباشر.

مكان قرية "غاشيما" الذي جرت فيه أحداث الرواية تجلّت مأساته في كونه معزولا تشرف عليه سلسلة جبلية أصبحت ملاذا للإرهابيين، وانطلاقا من طبيعة هذا المكان الإخباري الذي يستبدّ فيه الموت ويتربص بالنّاس، تحوّل إلى مكان نفسي[12] من خلال تجلياته، وما يحيط به من أحداث ووقائع، كالقتل والرّعب والتّرهيب، والذّعر، والسبي الذي عاشه المقيمون فيه.

وضمن هذا الإطار المكاني (غاشيما) يبدو أنّ الرواية حقّقت هدفها الدّال على حدّة التأثيرات السلبية لموقعه على الأشخاص ولكونه فضاء رعب وتقتيل وسبي.

بالإضافة إلى ذلك لم يتوان ياسمينة خضرة عن استحضار مكان أثري، الدّال على رصيد الدولة الحضاري والتاريخي، أرادت الجماعة المتعصّبة هدمه لإنجاز مسجد في مكانه الذي ترمي دلالته إلى هيمنة البعد الروحي والعقائدي.

وأخيرا فإنّ مقاصد الرواية ومراسيها اتّضحت بالأشياء الدّالة على تقابل العام (الجزائر) أو تناظره مع الخاص (القرية) في جهة أبعادها المأساوية.

الأزمنة من خلال الشخصية

ما يمكن ملاحظته على الرواية أنّ الكاتب تخلّى فيها عن الشّخصية النّمطية، فالشخصيات فيها دالة تعتبّر بشكل خاص عن أفكار من خلال مواقفها وأحاسيسها، فشخصيات الرواية إنّ عمدت إلى تصنيفها فهي تتشكّل من:

أولا: الشّخصيات الفعالة أو المحورية علال سيدهوم، فالبعد الدلالي للقب التفضيل أي "سيدهم"؛ قادة هلال معلّم، وتاج عصمان ميكانيكي، و"داكتيلو" كاتب عمومي يمثل الفئة المثقفة، الشيخ عباس 25 سنة من عمره كاريزماتي الشّخصية، و"زان" القزم ومهامه توحي بلقبه، بحيث كان عميلا للجماعة الإرهابية.

أمّا الشخصيات الثانوية فهي: عيسى عصمان يعمل "شاويشا" لدى رئيس المندوبية التنفيذية للبلدية، والملقّب بـ "لاهونت" اكتسب هذا لأنّه كان عميلا للمخابرات الفرنسية أثناء الثورة التحريرية الجزائرية. وجلول المختّل عقليا، هو الذي عثر على رأس الإمام المفصول عن الجثة داخل كيس بلاستيكي. والحاج موريس، فرنسي الجنسية متزوج من مسلمة.

ودلت السّمات الإيجابية على أنّ "الداكتيلو" الكاتب عمومي، هو بطل الرواية يتوافر على نصيب من الثقافة، اتّخذها وسيلة للكسب بتحولّه إلى كاتب عمومي، كما يتوفّر على جانب من الخلق، فرض بها على النّاس احترامه.

ولعلّ أبرز السّمات التي جعلت منه بطلا إيجابيا مسألة تحدّيه للوضع الذي آلت إليه القرية التي هيمنت عليها قسريا الأفكار الأصولية المتطرّفة، ومحاولة منه التصدّي، بكل ما أوتي من قوة، لهدم المَعْلم التّاريخي من قبل الجماعة الأصولية. وبيّنت أحداث الرواية تضحياته الجسام التي بسببها تمّ تصفيته.

وعلال سيدهوم الشاب الشرطي نعته الجماعة الإرهابية بالطاغوت، ولسببه أهدرت دمه، فلم يتخلّ عن وظيفته بالرّغم من التهديدات التي باتت تلاحقه، وفي النهاية تمّ اغتياله، وسبيت زوجته "صارة". والحاج موريس فضّل الإقامة بالقرية (الجزائر) التي قدم لها كلّ ما يملك من المعرفة، ولم يغادرها رغم التّهديدات التي تلقّاها، وكان مصيره التّصفية على يد الجماعة الإرهابية.

والشيخ عباس لا يتعدى عمره 25 سنة يتمتّع بشخصية كاريزماتية له تأثير كبير في المجتمع، ولا سيّما الشباب، كوّن الحركة الإسلامية السريّة في القرية قبل تأسيس حزب الجبهة الإسلامية للإنقاذ "FIS"، وسجن عدّة مرّات لخطاباته التّحريضية الدّاعية إلى الفتنة.

زان القزم: يمثّل دور المُخبر والعميل للجماعة الإرهابية، ينقل لهم الأخبار اليومية عن القرية مقابل مكافآت مالية، أظهر اللاانتماء للدوّلة كونه بطالا يعيش وضعا اجتماعيا مزريا، ولا هو مع الجماعة الإرهابية بحكم مواقفه التي كبتتها انتهازيته و سخرته للبحث عن دخل غير راض عنه باطنيا.

أمّا الشخصيات الثانوية فهي: (1) عيسى عصمان: مهنته "شاويش" في ديوان رئيس المندوبية التنفيذية للبلدية. لقب بعيسى "لاهونت" لأنّه باع وطنيته للاستعمار الذي جعله عميلا لمخابراته، عاش طول حياته شقيا مهانا؛ (2) جلول المختل عقليا هيامه وتنقلاته من مكان لآخر مكنته من اكتشاف رأس إمام المسجد مفصولا عن جسده داخل كيس بلاستيكي.

وأظهرت الرواية تفاعل النّص والقارئ الذي يجعل من القراءة واقعا معيوشا الذي انتظم حول الشّخصيات بصفة عامة. ونتج عن بناء الشّخصية السلبية، حسب التّصنيف السابق، قدرتها على تنمية الوعي النّقدي للقارئ، بحيث توصّل بحوار (نص) "الداكتيلو" إلى خطاب نقدي للوضع واتخاذ موقف شجاع، ممّا أعطى مصداقية للخطاب الروائي في مواجهة من تمّ تحميلهم المسؤولية المباشرة للفتنة والإجرام وحمل السلاح.

وخلاصة ذلك كله فإنّ زيف المشروع التّغييري العائد لأغلبية شخوص الرواية، أصبح لا مكان للسّلم والاستقرار فيه إلاّ بتغيير المجتمع الجزائري وفق منظور إسلامي، حتى ولو كان على حساب الرّصيد التّاريخي والحضاري الذي جسّده المعلّم الذي تصدّى "الداكتيلو" لمشروع هدمه، وإنجاز مسجد على أنقاضه، ومعارضة هذا المشروع انتهى بانتهاء الرواية التي سلّطت الضوء على دور الجيش في تطهير المنطقة من هذه الظاهرة بالقضاء على الجماعة الخطيرة التي زرعت الرّعب، وابتهج السكان بهذا المشهد (الجيش يقصف جبال الخوف)، وعودة بعض الشباب المغرّر بهم إلى جادة الصواب.

= = = = =

الهوامش

[1] أصبح المصطلح شائع في وسائل الإعلام الجزائرية المعرّبة.

[2] سورة الأنفال؛ الآية 60.

[3] لسان العرب لابن منظور (أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم)، دار صادر: بيروت، 1374هـ/1955م، مادة (ر ه ب).

[4] المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية، ط2، القاهرة 1972م، ص282.

[5] المنجد في اللغة، دار المشرق، بيروت، ط 29، 1986م، ص280.

[6] ينظر أزمنة الحداثة الفائقة – الإصلاح- الإرهاب الشراكة علي حرب المركز الثقافي العربي الدار البيضاء المغرب، ط1، 2005م، ص88.

[7] سويدان سامي: شعرية الالتباس مقاربة لأعمال خوري الروائية، مجلة الأدب، العدد 10، 1994، بيروت، ص23.

[8] رولان بارت وآخرون: الواقعية في قالبها الروائي، باريس، 1982، ص33.

[9] قاسم سيزا بناء الرواية الدراسة مقارنة في ثلاثية نجيب محفوظ، ط1، بيروت دار التنوير، 1985، ص139.

[10] مرتاض عبر المالك: في نظرية الرواية، ط1، المجلس الوطني للثقافة سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 1998، ص154.

[11] أطلق مصطلح فضاء على مجموع الأمكنة في الرواية. ينظر بنية النّص السردي لحمداوي حميد، ط2، المركز الثقافي العربي، بيروت، ص63.

[12] شاكر النابلسي، جماليات المكان في الرواية العربية، ط1، المؤسسة العربية للدّراسات بيروت، 1994، ص16.

D 25 أيار (مايو) 2015     A أحمد قريش     C 1 تعليقات

1 مشاركة منتدى

  • د.أحمد قريش كل الشكر والتقدير لإطلاعنا على هذه الرواية والتطبيق النقدي المفيد لاسيما إشارتك للمكان النفسي في الرواية .والتركيز على الفقرات التي أورد فيها الكاتب المناخ الاجتماعي الاقتصادي والثقافي للإرهاب وددت لوكنت أتقن الفرنسية التي تؤهلني لقراءتها باللغة التي كتبت بها .لاشك أن أزمة الأفق المسدود في بلادنا قد جعلت المهمشين الجاهلين يواجهون أزمتهم بسلطة الدين باسم الله بالإضافة إلى عوامل أخرى ((فقد انفلتت وحدة الأضداد ولم يبق سوى التناحر))


في العدد نفسه

كلمة العدد 108: دور النشر والجوائز

عن الهويّة العربيّة: طرح يستدعي الحلول

قراءة موجزة في رحلة الغفران

المقاومة في الأدب الجزائري أثناء الاستعمار الفرنسي/ج2

مظاهر التأويـل عند العرب