عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 
أنت في : الغلاف » أرشيف أعداد عـود الـنـد » الأعداد الشهرية: 01-120 » السنة 10: 108-120 » العدد 108: 2015/06 » الفوتوغرافيا التشكيلية وأسئلة التجريب

مبروكة بوهودي - تونس

الفوتوغرافيا التشكيلية وأسئلة التجريب


فوتو مونتاج نادية الجلاصيجاءت هذه الصورة تحت عنوان "شيشة بالهندي" للفنانة التشكيلية التونسية، نادية الجلاصي، وتنتمي إلى سلسلة أعمالها "فاتشاتا" (fatchata). وقد اعتمدت هذه الفنانة على تقنية الـ"فوتو مونتاج " والتركيب والتجميع في هذه الصورة. وتسائل فيها أوجه المدينة المختلفة في تونس، بجمالها، بقبحها، بنظامها، بفوضويتها، بألوانها، بسوادها، بحزنها وبفرحها (اضغط/ي على الصورة لمشاهدتها بحجم أكبر).

إن مسألة الفوتوغرافيا الفنية عموما تفرض علينا الانطلاق من الإمكانية التي يتيحها الحامل الضوئي لتوظيف الرؤية التشكيلية في إنتاجات تحظى بمشروعيتها الثقافية، فتصبح هذه الأعمال ذات قيمة فنية، تعكس دور المقومات الحسية ومؤطراتها الخلاقة في إعادة إنتاج الموضوع البصري وتشكيله، وفق رؤية فنية تستقي أساسها الإبداعي من الثقافة الفنية والقيم الجمالية.

ويرتبط مفهوم الفوتوغرافيا هنا في هذه الصورة الفنية بسيميولوجيا التحليل والتركيب، وتحديد البنيات العميقة الثانوية وراء البنيات السطحية المتمظهرة في المرئي. ونحن أمام هذه الصورة نلاحظ هناك تقسيم واضح للوحة، فقد جزأت إلى ثلاثة أقسام واضحة وبطريقة أفقية.

الجزء السفلي يحتوي على أيقونات مصغرة لصور أربعة أبواب مختلفة الألوان والأشكال. والجزء الثاني يجسد لنا صورا مختلفة (خضار، مقهى، محطة نقل). أما المستوى العلوي من اللوحة فقد تمثل في واجهة السماء الزرقاء.

لكن هذا التركيب الذي اعتمدته الجلاصي نحا بأشكالها القياسية والتكامل الثابت للأشكال الهندسية وأعطى الصورة قيمة أساسية. ومن الناحية الدلالية جعلتنا نتصور أننا لم نعش هذه الفوضى التي أعادت تنظيمها العديد المرات في باقي صورها.

مبروكة بوهوديوما يزيد هذه اللوحة ثراء وقيمة، تلك الخطوط العمودية والأشكال الهندسية المختلفة الأحجام والمقاييس. فعند تجريدها واختزال عناصرها التشكيلية نلاحظ ذلك الكم الهائل من الخطوط المتقاطعة، فهناك خطوط تنكسر بعد حركة مستقيمة ويختفي ثم يظهر على شكل شريحة مستطيلة في جهة اليسار.

لكن خطوط الأفق لا تنتمي إلى فكرة الخطوط المستقيمة (الواقعية). إنها تنتمي إلى صنف التحديدات اللونية التي تتداخل في تضادها مكونة تكسيرات في بنية الخطوط، وهي في الوقت نفسه تنمو وتضمحل في لعبة التداخل (أعلى-أسفل).

ربما نطلق عليها اسم الخطوط الافتراضية رغم واقعيتها وحضورها الواضح أمامنا. فضلا عن ذلك فإننا نسجل أيضا العديد من التكسرات داخل هذا البناء، فهي علامات تحكم في لعبة الأضداد بين الألوان والتكوينات الأخرى، بل هو تقسيم للعزل بين فضاء الصورة ووضعها داخل مفهوم "الأسطورة" التي تحتوي في حد ذاتها على العديد من الحكايات والمشاهد المختلفة من المدينة "الفاضلة".

ومن هذا المنطلق، يجدر التنبيه إلى أن التصوير الفوتوغرافي الفني لا يقتصر في إطاره التجريبي على توظيف الإمكانيات التقنية لآلة التصوير وخاصيتها التمثيلية فحسب، بقدر ما يحيل على بعده التشكيلي المتمثل في الاشتغال على الخصوصيات للوسيط الفوتوغرافي، نافيا بذلك حياده.

عند تأملنا في هذه الصورة عبر جميع الاتجاهات، كالاتجاهات الخطية، الأفقية، الرأسية والدائرية يمكن التعرف على النظام الذي تسير عليه تلك الصورة. فهناك المقدمة وهناك الخلفية. في المقدمة توجد واجهة الحائط/المدينة التي تسيطر على ثلثي مساحة الفضاء ككل. أما الخلفية فتظهر فيها زرقة السماء التي تشع بضوئها بعيدا عن اختناق المدينة.

وبالتالي فإن قيمة التشكيلية للصورة الفوتوغرافية تقترن في بعض الأحيان بالخطاب الذي يصوره حاملها، فإن هذا يعني أن إمكانية توظيف الحس الفني تخص الرسالة الفوتوغرافية، أكثر ما ستتناول الحامل في حد ذاته، فيصير الخطاب الفني مقترنا بأبعاد الترميز في الرسالة، وبالنسق الدلالي داخل خطاب الصورة.

ويدفع بنا هذا التقييم للبحث في الوحدات الأساسية ألا وهي: وحدة الفضاء المؤسسة على اللون الأصفر الذي يتحدد من الأسفل، والوسط ثم إلى الأعلى في انسجام تام لأن اللون يجمع ويوحد جميع عناصر اللوحة.

وإذا اعتبرنا التصوير الفوتوغرافي تقنية ضوئية تقدم إمكانية تمثيلية كبرى لنقل المواضيع وإعادة إنتاج الواقع البصري، وحددنا خاصية آلة التصوير في مبدأ الغرفة المظلمة، فهل نكون قد استبعدنا البعد الفني في الفوتوغرافيا بترجيح مبدئها التقني المحاكاتي، أي نكون قد أقصينا أهمية الحس الخلاق والرؤية التشكيلية التي تسخر آلة التصوير باعتبارها أداة فحسب؟ دون ذلك يصبح المجال مفتوحا لتأكيد القيمة الإبداعية للتصوير الضوئي، والحديث عن جمالية الفوتوغرافيا، وخصوصياتها التشكيلية والتواصلية.

نادية الجلاصياعتمدت نادية الجلاصي في هذه الصورة على تقنية الفوتو-مونتاج لتركيب صور فوتوغرافية مختلفة في صياغاتها التواصلية، حيث أعادت توظيف الصور اليومية (واجهات الشوارع، المحلات التجارية، الأبواب، الشبابيك، إلى آخره) لإضافتها إلى صور فنية صاغتها قصدا لإنجاز العمل التشكيلي، فتعيد تشكيلها في تركيبة بصرية، لا تستقي تناغمها من التماثل الواقعي، وإنما من إيقاع التنوع والتنضيد، وقيمتهما التشكيلية القائمة على وحدة السند. فمن خلال مزجها بين مقومات الفوتوغرافية في تمثيل المواضيع المستوحاة من الواقع المرئي، وبين ترتيب الواقع البصري كوحدات فوتوغرافية متفرقة، تنزاح في تركيبها آلة التصوير في تمثيل الواقع.

هكذا يصير الفضاء الواقعي، مدغما في التشكيل الفوتوغرافي الذي يتجاوز حدود النقل والتأليف الحرفي متيحا للخيال والخلق إمكانية تمييز مقومها الإدراكي، وذلك بإعادة إنتاج المرئي داخل وحدة تشكيلية متفردة.

تذكرنا عملية تجميع وتلصيق الصور الفوتوغرافية وتنظيمها في لوحة موحدة بمعالجة روبرت روشنبيرغ لأعماله التشكيلية، فهو يلزمنا بتغيير مسالك قراءته البصرية، فيجعلنا خاضعين لتعددية المنظورات في الانتقال بين مختلف الصور المشكلة للعمل الواحد، وذلك بقوة التجزيء التي يخضع لها الموضوع الفوتوغرافي في كليته، والتي تصل بفضائه إلى حدود الاندماج.

ويدلنا الحس التجريبي وإطار الرؤية الفنية في أعمال روشنبيرغ على الصياغة الإخراجية التي اعتمدها كل منهما، وأعمال "هوشني" في إنتاج المادة الفوتوغرافية، وتقديمها كأثر فني يستمد مقومه الخلاق من صياغات تشكيلية تركز على إثارة أبعاد العلاقة بين الفضاء والزمن، والاشتغال بها في إنجاز تركيبي ونهائي.

ويقدم الفنان عرضا تشكيليا مركبا من سلسلة صور فوتوغرافية ذات مواضيع تحيل، تكامليا، على أجزاء أو أوضاع لموضوع وحيد، فيصير العرض البصري منسوجا في وحدة تكاملية تفرض على المشاهد استرسال النظر، وذلك بالانتقال من صورة إلى أخرى داخل تقطعية الفضاء وحركات الموضوع المنساقة في كرنولوجية زمنية، تنتج عنها وحدة النظر والمشاهدة.

الجدار بين الفوضى والحضور الجمالي

منذ الوهلة الأولى، يقابلنا في هذه الصورة حاجز، ضمن حيز مكاني معين، كجدار حمام، أو مقهى، وغير ذلك، وواجهة الشوارع الفارغة والملأى. الجدار هنا اضحى كيانا بصريا يمتلئ بمعاني الدفء والحماية أو القسر والعزل.

وكذلك هو كينونة محسوسة للذات تولف نقطة التقاء أو انقطاع وجودي مع الآخر، فاكتسب بذلك معاني روحية وأصبح التعاطي معه يمر من خلال اعتماده علامة ترسم حدود دلالات عدة، فكانت تلك الجدران بكل ما تمثله وما عليها من صور مختلفة، عبارة عن خزين عاطفي وطاقة تعبيرية كامنة في ذاكرتنا الإنسانية وتداعياتها المنعكسة على مشاعر الآخر المخاطب ضمن فضاء كبير من التواصل والإعلان.

هذا الجدار يتميز بثرائه المادي والمعنوي، ويحمل في باطنه واقع المجتمع التونسي خاصة بعد الثورة سنة 2011. فاختلطت علينا الصور وتكاثرت، وامتلأت أفكارنا بأنماط جديدة من الحياة المعيشة.

ويخاطبنا هذا الجدار ويحرك فينا رؤيتنا لأنفسنا، ولحالتنا الاجتماعية، السياسية والاقتصادية. فهو لا يسكت ولا يصمت، بل يتكلم ويصيح لأنه ربما يمثل مطالب الشعب ولغته، فهو يمثل نقائص يعيشها المجتمع وهو أيضا نداء، وفي المقابل لا يخرس بل يتكلم وينقد وهو متحرر رغم أنف الجميع.

ومن بين هذه الصور المتلاصقة والمتراصة نلاحظ التباين في المصطلحات وفي المفاهيم. فربما قد اختصرت نادية الجلاصي فن الجرافيتي أو ما يسمى بفن الشارع في هذه الأجزاء من الصور. ونحن نعلم أن هذا النوع من الفنون قد جاء في الاصل من جذور الطبقة الفقيرة التي تهدف إلى التعبير عن نفسها أو للتمرد ضد السلطة وذلك عن طريق الكتابة أو الرسم على الجدران.

ولا نستثني عنوان هذه الصورة " شيشة بالهندي" من التأويل والتحليل نظرا لتوافقه مع الفوضى العارمة داخل جدران المدينة خاصة حين يتلاصق ويتراص بائع "الهندي"[1] حذو الرجل الذي يستعمل الشيشة، فكلمة "شيشة" لا تتلاءم مع كلمة "الهندي" نظرا لتنافرهما، سواء في المعنى أو في الوظيفة. فالصورة تبث فينا الألم بمضمونها السردي والحكائي خاصة وأننا أمام العديد من القصص والوقائع التي ترويها لنا هذه الفنانة عند ممارستها العمل الفوتوغرافي وهي تتنقل بين شوارع المدن.

تحبك نادية الجلاصي رؤيتها الواقعية، وتمنحها حقيقة ذات ملامح مسرحية لها طقوسها التعبيرية التي توحي بمعنى المشهد الذي يتخذ من المخيلة البصرية الحقائق الحسية، فهذه الصور الذهنية هي لون مختلف أو تفاصيل فنية تتخذ من انعكاساتها الضوئية دلالات ذات تحليلات سيميائية لها تحولاتها، وتغيراتها التي تتمرد على هذه الواجهات/الأوجه المختلفة، وكأنها تخلق لنا إيقاعات ذهنية تتغلغل في حواسنا، وتحاورنا لنبني منطلقات فنية تتنوع فيها الأشكال، والألوان، والكتل.

وتتسم هذه الصورة بمفهوم التضاد كلغة فنية تتشكل عن طريق الجدلية القائمة بين المكان والزمان، التركيبة واللون، الواجهات المتنافرة. وتنتقل الجلاصي بين الماضي والحاضر بقوة مما تترك المتلقي يتأرجح بين زمنين، وفي الحقيقة الزمن واحد.

لكن لعبة الصور المشهدية الموجودة على الجدار الذي أمامنا تتخذ من معنى الصورة الموحدة أسسا لها هي بمثابة نغمات ذات أبعاد خاصة، لان هذه "الأسطورة" الفنية قد تتراوح بين الذاتية والموضوعية، وبين التصوير والإيحاء الواقعي، المتخيل كمضمون تعالج من خلاله الفنانة قضية واقع اجتماعي نعيشه ونعايشه كل يوم في شوارعنا الممتدة اختزلته الجلاصي في صورة واحدة، ربما لا تكون كافية لاستئصال هذا "الورم" الذي ينخر مدينتنا "الفاضلة"، لكنه كفيل بإنشاء وقفة تأمل أمام هذه الأوجه المختلفة التي نشاهدها كل يوم أمام ناظرنا.

هذا الاختلاف في الواجهات والذي يشكل في حد ذاته صدمة جمالية نلاحظ من خلالها تمرد مطلق، عصيان تام، تخريب منظم، مزاج هزلي، عبادة العبث.

هذه هي الفوضى التي نشاهدها في هذه الصورة، فهي مقاضاة كل شيء، ونقد بلاغي حاد يحمل في طياته سخرية لاذعة من الوضع الذي يعيشه التونسي في خضم هذا التحول الصادم في المعمار الفوضوي الذي ينهش شوارع تونس وأحيائها وأزقتها.

فلم يعد الشارع يتسع للعامة وللتظاهر السلمي، فتستفز أبصارنا بإعادة البناء وترتيب الأشياء في أمكنة وأوجه في غير محلها. وبالتالي فإن هذا الجدار يصبح مفهوما نقديا عندما يرافقه نوع من التأويل، وتتحرر الكلمة (جدار) من إطارها التعريفي العام إلى اطار المكان الذي يحمل معنى فنيا، فالجدار بنية نحيط انفسنا بها أو نرنو الهيا من الخارج، نضع عليها تصوراتنا فتبدو عميقة بها وتنزاح من صمتها إلى نوع من السمة الإعلانية ضمن فضاء الشارع.

= = = = =

الهندي: ثمرة الصبارأو التين الشوكي.

JPEG - 36.6 كيليبايت
فوتو مونتاج نادية الجلاصي
D 25 أيار (مايو) 2015     A مبروكة بوهودي     C 0 تعليقات