أشرف الخريبي - مصر
تقارير عن الحفل البهيج
الورقة الأولى
(1)
سألني إن كنت مريضا أو أشعر بأي آلام أو آمال في شيء. قلت إني أشعر بآلام مبرحة بمنطقة ما برأسي وأملي أن تقبل بحثي. وقلت إن البحث يعنى بتطوير الإدارة في قطاع الإنتاج والمقصود به...
لوح بيده شمالا ويمينا وجنوبا وشرقا وغربا وازّرق ثم احمر وانتفخت عروق رقبته على آخرها وخصم خمسة أيام. هز الورق في يده أكثر من مرة ولوح وعاد للشخط والنطر، تحدث كثيرا عن الالتزام بالمواعيد والالتزام بالدقة...أقصد التزامات كثيرة لا أذكرها. وراح ينفث دخان سيجارته ببطء، ثم أشار بيده ناحية الباب. شكرت سيادته على كل شيء تقريبا ومشيت.
(2)
جسدي الذي صار مأوى للطيور الخائفة والمكتوية بالبرد كي أجري مرتعشا، الآن هذه الطيور لا تجد لها عشا في صدري البارد جدا المرتعش الخاوي. دفست أصابعي في أعصاب رأسي الساخن، هاجمتني الضفادع والصقور والنسور والوطاويط. كل الطيور الجوارح هبت عليّ. ناوشتني. كانت الساعة هي الواحدة صباحا والمذيع يتثاءب وكنا في قلب الشارع والكلاب ملأت الحارة نباحا وزامت علي روح المرأة التي سمعنا الصراخ عنها قبل دقائق من موجز الإنباء.
مشيت في العتمة. كان في ذهني قراءة قديمة عن النماذج البشرية التي عاشت قبل الميلاد والتي لها تشريح بيولوجي خاص يختلف قليلا عن البشر الآن. أمام المقابر تماما توقفنا. أهل المتوفية أصروا على دفنها في هذا الوقت المتأخر. لم أعترض، لأنه لا يحق لنا الاعتراض، قالوا إن حادثة سيارة مسرعة هي السبب والمرأة ذاتها كانت ترغب في دفنها سرا لأن "الليل ستار". كان المساء أدعى للحزن من أي وقت أخر.
هاجت رائحة المقابر على أم انفي فكتمتها. كان وجه الرجل عنيفا وهو يشير لي ناحية الباب. سألت نفسي إن كان من حقي أن ألعن أباه أم لا. كانت الإجابة أنه لا، لكن من حقي أن ألعن الزمن الذي فيه نعيش على الأقل حيث الالتزام بالخوف والالتزام بالرعب والالتزام...
(3)
في جانب خال من مقهى قديم أمسكت الوطاويط التي تنقر في رأسي، وعرفت أن الوطواط لا يرى، ولذا فهو يخبط في جدران المخيخ. لكني أعرف أنه يحس. مددت يدي لرأسي. كانت أم كلثوم، وفريد، والكحلاوي يغني "لجل النبي"، ومطلوب القبض عليهم في قضية مخدرات وقضية أخرى لا يصح أن أذكرها.
أفكر أن أشد الكرافتة التي يرتديها المُذيع وأصلح له من وضعها ووضع الحروف في فمه والكلمات على لسانه وأرتب الجمل بين يديه.
اسمعني يا رجل.
سمعتك.
أرجوك.
أرجوك أنت.
ها أنا استمع إلى رجاءك.
كن أكثر صبرا. وأكثر أملا. وأكثر...
جلست على السرير يا عزيزي وسمعتك، كان الهواء مندفعا من مراوح السقف الذي يغزو العالم الصغير الذي يجالس الخرافة في زمن الخرافة.
(4)
العثور على جسد سيدة أجنبية في ثلاجة لحوم. قرر الطبيب الشرعي وفاتها منذ ثلاث سنوات. يقال إنها أميركية. تم نقلها لمستشفى أم المصريين. وقد ذكر التقرير أنها في الخمسين من عمرها ترتدي خلخالا في قدمها اليسرى، كما أن هناك ملاحظة غريبة حيث اكتشف الطبيب أن لها وجها في قفاها كانت تداريه بشعرها الأشقر الطويل.
كان زوجها محمد المهدي المصري الجنسية يصاب بحالة هستيرية وتشنج عصبي لمعرفة زوجته كيف أنه يُقبل الخادمة. لأنه وقت أن كانت تفتح باب الثلاجة في عصر ذلك اليوم وهي متجهة بظهرها إليه قالت له بلهجة عربية ركيكة "ايب كده يا مهمد." وشك في أنها تعرف الأمور التي تدار وراء ظهرها، فاضطر غير آسف لتأجير شقة مفروشة يزور فيها الخادمة التي أحبها والتي أتى لها بخدامة تخدمها، ولكنه كان يُقبل الخادمة الجديدة هذه المرة في أمان. حيث لم تكن الخادمة الأولي تراه في ذلك الوضع المؤسف.
في النهاية ترك كل الخادمات وقتل زوجته ووضعها في ثلاجة اللحوم حيث كان يعمل جزارا، ولكن رائحتها العفنة خرجت أثناء انقطاع التيار الكهربائي لمدة طويلة. وضعت يدي على أنفي، وسمعتك أكثر من ألف مرة.
(5)
الناموسة جاءت تمشي على استحياء في خط مستقيم في مواجهتي تماما. لم تعبأ بعيني التي رصدتها منذ خمس سنوات وهي تفعلها، حين تتحرك ناحيتي وتقف بكل كبرياء وجرأة فوق أرنبة انفي. ولم تأبه للفراعنة الذي تنتمي إليهم فصيلتي، ولم تسأل فيهم جميعا حتى ولو كان رمسيس الأول نفسه، إذ أنها لدغتني بكل ثقة ومضت معبرة عن قرفها من الطعم والرائحة وأداء الطقوس الفرعونية، مشمئزة من غرفتي ومن طريقة وضع الكتب والمجلات والورق والكلمات واسمك المكتوب بالخط العريض على حائط غرفتي.
كنت أنوي أن أتزوج، حيث أن هناء متزوجة من محمد منذ أربع سنوات. هناء تحب محمد منذ عشر سنوات. مع أن محمد رجل قوي كالثور إلا أن هناء هجرته لتعيش مع صديقتها سالي المخنثة في شقة مفروشة لمشاهدة أشرطة الفيديو الممنوعة صباح مساء، تاركة محمد يعاني الوحدة والكآبة. بيد أن هناء لم تسعدها سالي كثيرا، حيث أعلن شجر الموز في ذلك الوقت عن إضراب عام لأن الموز الأمريكي أطول وأكبر وأغلى من الموز المصري.
الورقة الثانية
رغم أن الأمور جميعها تسير في خط سيرها الطبيعي والمعتاد، ولكني غير مكترث بتصريحات جورج حبشي ولا حتى كاسترو. لقد فرحت بما سمعت وبما قرأت وبما رأيت، إلا أن آلما خفيفا كان يلازمني طوال فترة رقودي بالمستشفى، واضطررت لإعادة النظر في قصيدة أمل دنقل "لون الملاءات أبيض. بالطو الطبيب... أنبوبة المصل.. ولم أختلف معه في اللون ولكني أكدت على اللون الثاني، حاولت استحضار الزمن الذي أخفاه ببراعة.
وقلت لنفسي إن الوقت لا زال يتسع أمامي قبل أن أموت. كي أقول الكلمة الأخيرة وأن أواصل تحديقي في السقف كما أشاء وأوصي لأهلي ببقايا الأوراق القديمة، وأن أعّلم ابني الصغير حكمة الأجداد. وحينما رأيته يبكي أمامي في ذلة وانكسار، حاولت أن أبكي في قهر حقيقي ويرميني الشجن في متاهة العجز المستبد، لكني في اللحظة نفسها تراجعت. نعم تراجعت للخلف في هدوء. لأن الممرضة أزاحت كل شيء من أمامها بسرعة. ووضعت في فمي شيئا لامعا وفي يدي شيئا ضاغطا وعلى صدري شيئا مريحا جدا، ولكن دموعه التي سقطت في جوفي كانت ساخنة جدا، ورهيفة جدا كعمره الصغير. ورحت في إغماءة طويلة.
ولا زلت تجلس على السرير وحيدا. كل شيء يبدأ في الرحيل، عيناك المرهقتان ويداك المليئتان بوخزات المصل، وقدماك الذابلتان ورأسك المثقل بالأفكار. وحلقك المليء بدموع ابنك، وصوت الممرضة في الممر.
الورقة الثالثة
كان كل شيء طبيعيا، المرأة التي هي أمي حامل، والرجل الذي مازال حتى هذه اللحظة أبي يأتي بالخبز كل صباح ثم يذهب ونحن أطفال نروح المدرسة، والظهيرة هي الوقت المخصص لراحة أمي حتى يعود الزوج أبي فالعلاقة بين أمي وأبي هي العلاقة التي تكون بين أي زوج وزوجة. ولكن ما حدث قبل أيام لم يكن هو المعتاد والطبيعي، حيث خرج الرجل ولم يعد الذي هو أبي. نحن الأطفال عدنا إلى البيت نلتهم الطعام في نهم، بعد جوع طوال النهار أمي لم تأكل يومها معنا. وقالت:
"قلبي يأكلني عليه. أبوكم لم يعد."
تناولنا الطعام وانتهي الأمر، لكنها ظلت تحدق طوال الليل من فتحة الشباك المكسور في الشارع المظلم إلا من ضوء خافت. ظل يتلاشى، يتلاشى حتى نثار الضوء، راح مع الراحلين. ظلت مغروزة هناك، تنتظر قدومه، ثم نامت أمام الشباك سنوات طويلة دون فائدة. رغم أنه الرجل، الزوج، أبي ما زال يسكن برج الحمام. صوته وهديل غنائه وهو يفرش الموج بالشباك الكبيرة كي تقع الأسماك في الفخ وهو ينادي "واد يا حسن." ولكنه لم يعد.
وأمي قالت في نهاية الأمر: إنه لن يعود، ومضت يائسة بشكل محزن. نحن سألنا أمي إذا كان السمك لديه شباك يصطاد بها الرجال. بكت المرأة كثيرا ولكنها كانت، أو لعلها أصبحت لا تلين كالصخر، رغم محاولات العمدة المتكررة لينال رضاها. بعد سنوات طوال من الهجر لأن الكوابيس لا تترك لك فرصة للانهيار. ثم إنه الرجل الذي ما يزال حتى اللحظة أبي. يغفو على حجر أمي الواسع، في لحظة فاصلة.
الورقة الرابعة
الرحلة البعيدة للأطلنطي خاضها كثيرون. وما فعله الإسكندر، فعله هتلر وموسوليني واينيشتين واد جار ألن بو، كل على طريقته.
فلا تعبث بما بين يديك من مقدمات. وحاول بقدر الإمكان التوصل إلى نتيجة منطقية عن تقرير قيمة الاستهلاك، لان المدير في حاجة إليه، وستسمع كلمات لا داعي لها. وقد يتطور الأمر لنقلك لقسم آخر، وقد يتطور أكثر من ذلك فيلعنك المدير، وفي هذه الحالة سترد عليه وقد تسب أباه حتى تشفي غليلك من كل شيء، حيث أن
1+ 1 + 1 =3 + 2 = 5 + 7 – 9 * 6 = كلمات لا داعي لها.
س + ص + م = س2 + ص2 + م2 = صفر.
العمر كله في صفر = لا يساوي حتى واحد صحيح.
الجمعة
الحياة تأخذنا هناك بعيدا عن كل شيء، لا نعرف إلى أي شيء ننتمي. هكذا قال الرجل لزوجته، ثم أغلق التليفزيون وتثاءب بصوت مسموع ومضى متأرجحا وهي خلفه حزينة.
فوضى
الإفراج عن تجار السموم البيضاء والخضراء والعتبة والحمراء والصفراء والسوداء على اعتبار أنها تمثل روح العصر وتتماشى مع الموضة والإكسسوارات الحريمي الجديدة، وتعبر بصدق خالص عن التقاليد والإتيكيت، خاصة أن الدنيا تتجه نحو شيء غير واضح على الإطلاق فلا أحد يعرف علي وجه التحديد مَنْ يريد مِنْ مَنْ ماذا.
في ذلك العصر البمبي أو الرمادي أو الذي لا لون له حيث لم يستطع أحد حتى الآن أن يعطي لونا محددا للعصر. لذا نغفل هذه النقطة ونقرر أن لون العصر هي ألوان قوس قزح وما يتفرع منها أو عنها.
السبت
مظاهرة ضخمة تجتاح شوارع القاهرة، تحتل الكباري العلوية والإذاعة والتليفزيون والحدائق العامة والميادين والطرقات وتسد الحواري خاصة شارع الجيش و23 يوليو. يحملون لافتات تصور طلعت حرب وفي يده دولار.
مساء السبت
تنقر الصراصير في رأسي ويزن الناموس في أذني وتخبو الضفادع وتتلاشى، وثمة حيرة تنتابني لا أستطيع حصرها، ووجها أصفر ممتقع خارج لتوه من المقابر يجلس أمامي في المرآة بتحد بالغ، يشدني إليه فأتأمله بنهم بالغ.
فجر السبت
تعلن الشركة الشرقية للتدخين "إيسترن كومباني" رسميا أن مبيعاتها للسجائر في الخمس سنوات الأخيرة كانت ملوثة بالإشعاع الذري. ها ها ها ها ها.
الأحد
أصابني إسهال معوي حاد لم أستطع معرفة أسبابه. لذا تجاهلت الأمر تماما وكأنه لم يعد يعنيني.
الاثنين
أنطونيو تزوج مارلين مورنو بمعرفة الكومنولث، وظهرت السيدة العذراء بكنيسة القديس بطرس. المذيع لا زال يتثاءب، والسيد حسن يغازل مؤخرة السيدة الوقورة في الشارع دون حياء، والمطر يتساقط على إحدى الواجهات الكبيرة. الشارع كان خاليا تماما، وأرسطو يناقش هيجل في المسألة التحتية تاركين كل شيء لامرأة ترتدي البكيني وتغازل الرجال بوقاحة نادرة.
مساء الاثنين
انكسر العقل والمعدة والبنكرياس، وارتفعت صيحات الزائدة الدودية، وانشرحت تفاصيلي، والتفت أعمدة الكهرباء في مثلثات متداخلة، وسقط طنين في أذني لثلاثة أيام باقية في الأسبوع.
المفاتيح
- ◄ قصة قصيرة
- ● وماذا بعد؟
- ● النظّارة
- ● خرابيشُ خطّ
- ● بقرة حسين
- ● تاريخ