عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

زكي شيرخان - السويد

تاريخ


زكي شيرخانبين مرحلة الدراسة الابتدائية والجامعة، مضت السنوات سِراعاً. التحقتُ بكلية الآداب فرع التاريخ. كان معدلي يؤهلني للدخول في كليات، من وجهة نظر الآخرين، أهم وأرقى، يمكن أن تمنح المتخرج منها مركزاً اجتماعيا مميزاً. كان هذا الرأي بالنسبة لي مجرد هراء ولا يستحق حتى الرد على مردديه. أمام إلحاح وإصرار والدي، كنت أزداد عنادا.

= «أبي، صراحتي معك لن تقلل من احترامي لك، ولن تمس مودتي تجاهك، ولن تضعف فخري بك. هذا مستقبلي، فدعني أمضي فيه على طريقتي. التاريخ هو اهتمامي الأول، ودراسته هو ما خططت له. أعدك أن تفخر بي ربما أكثر مما لو أكون طبيباً أو مهندساً، ولا أظن أني أعقك إن خالفت رغبتك».

= «لم أعهد فيك هذا العناد».

في الأيام الأولى لالتحاقي في الجامعة، لمحتُ فهمي العوّاد بقامته المديدة يسير بوقار في الرواق المؤدي لغرف الأساتذة. لم يطرأ عليه أي تغير البتة، كأن الزمن عفاه. ولج إحدى الغرف. تبعته. طرقت الباب ودخلت.

= «مرحبا أستاذي الجليل».

= «أهلا».

= «آسف على دخولي المفاجئ، لكن هل لديك بعض الوقت؟»

= «كم تريد منه؟»

= «لا أدري، حسب ما تمنحني».

ابتسم وهو ينظر إلى ساعته.

= «ربع ساعة قبل محاضرتي التالية. تفضل أجلس».

= «لا أظنك تذكرتني. مدرسة المأمونية الابتدائية قبل خمس أو ست سنوات...»

قبل أن أكمل.

= «هل أنت طالب في قسم التاريخ؟»

ولما أجبته بالإيجاب، قال:

= «عليك أن تكون دقيقاً. من يدري، ربما يوما ما ستصبح مؤرخاً. بين خمس وست، سنةٌ كاملة وفيها مات من مات، وحدث ما حدث. الدقة هي المعيار الحقيقي للتاريخ. كفانا ما سطّره الأولون من مبالغات وأساطير هي محض قصص خيالية وكأن من عاش في تلك الأزمنة هم ملائكة».

= «لكننا نجد في كتب الأقدمين العكس أيضاً. شخصيات مشيطنة. أحيانا نفس الشخص يحار المرء فيما لو كان صالحا أو طالحاً».

= «بيننا وبين الموضوعية خصام، هذه مشكلتنا. دعنا الآن من هذا الجدل. ستنفذ الدقائق. أنت كنت أحد طلابي؟»

= «هذا ما أفخر به. كنتَ أحد العوامل الأساسية في حبي لدراسة التاريخ. فقط أحببت أن أحييك، وأطمع، بين الحين والأخر، أن أتلقى بعض التوجيهات منك بخصوص المصادر والبحوث، لن أكتفي بمجرد دراسة الكتب المقررة.

= «على الرحب والسعة».

ودعته وأنا مغتبط. فيما بعد، علمت أنه أبتعث لإكمال دراسته فأنهى الدكتوراه بتفوق، وعين أستاذا للتاريخ المعاصر في الجامعة.

* * *

في المرحلة الثالثة لي في الجامعة، وفي صبيحة يوم خريفي، وكما تعود آباؤنا، ويبدو أنه علينا أن نتعود، حصل انقلاب عسكري. وتماما كما حدث في الانقلابات الخمسة الماضية، أذيع البيان رقم واحد. مُنع التجول في الشوارع. احتل الجيش العاصمة والمدن المهمة. انهالت برقيات التهنئة والتأييد. اعترفت دول، بعضها لا يُسمع باسمها إلا أيام الانقلابات ومن خلال برقيات التأييد التي يرسلها حكامها، بالنظام الجديد.

بعد أيام استتب الوضع، ولم يكن هناك ما يستوجب عدم استتبابه، كأن هناك اتفاقا غير معلن بين المُنقلبين وبين المُنقلب عليهم لمنحهم فرصة الاستمتاع بفترة حكم مستقرة بعد أن استمتع قبلهم الغير. عاد الدوام لدوائر الدولة والمدارس والجامعات. بوجهه البشوش، وابتسامته، دخل الدكتور فهمي العوّاد القاعة. حيا الجميع. على غير العادة، لم يفتتح المحاضرة بـ «أين أنهينا المحاضرة السابقة؟» التي صارت إحدى لوازمه.

= «ستكون المحاضرة خارج سياق المنهج. سنناقش الانقلاب العسكري...»

سارعت إحدى الطالبات:

= «ثورة، دكتور».

= «لن أضيّع الوقت في جدل عقيم بين الثورة والانقلاب. بيني وبينكِ التعريف العلمي لكليهما. وإن كنتِ لا تعرفين، وأنتِ في المرحلة الثالثة، تعريف كل منهما، فهذا يعني أن هناك خللا في المنهج التعليمي للقسم وعلينا أن نصححه. ما أريده منكم هو كتابة بحث بسيط تقيّمون فيه العهد السابق بكل ما له وما عليه. ما الذي استوجب أن يتم الانقلاب عليه. يمكن للبحث أن يُنجز بصفحة أو عدة. لا أقبل استخدام العبارات التافهة في الوصف سلبا أو إيجابا. اعتماد المصادر وليس قيل، وروي، وحدثنا فلان عن فلان، ويشاع. نحن أمام تقييم موضوعي ولا نعيد سرد المبتذل من ألف ليلة وليلة.

* * *

بعد أيام من انقطاعه، علمنا أنه تم إلقاء القبض عليه بتهمة موالاة العهد السابق والتحريض على الانقلاب، أو الثورة كما يحلو لهم أن يسموها».

= «لكن النظام السابق أودعه السجن عدة أشهر بعد أن رفض الاشتراك في لجنة شكلّت من هرم السلطة لإعادة كتابة التاريخ المعاصر للبلد منذ تكوينه بعد الحرب العالمية الأولى».

= «هذه هي طبيعة العقلية العسكرية، أما مدّاحا لهم في الجوقة، أو عدوا لدودا».

= «لم تمض إلا أسابيع على التغيير فكيف عرفوا عنه ما اتهموه به؟»

= «هو أصلا غير متحزب».

= «اتهموه بأنه شيوعي مُنَاوئ للأفكار القومية».

هذا وغيره ما دار بين الطلاب. عاد بعد أسابيع. دخل القاعة بنفس الوجه البشوش والابتسامة. حيّانا. بدا شيء من شحوب على محياه. جال بنظره بين الوجوه كمن يبحث عن الجاني بين مجموعة مشتبه بهم. ثم باشر المحاضرة.
بعدها، ذهبتُ إليه. هنأته على السلامة.

= «لا أدري إن كان يحق لي أن أسأل عن التهمة؟»

= «يبدو أن أحد الطلبة قد أوصل لشخص ما أني طلبت منكم تقييما للمرحلة السابقة».

بدون وعي، وبدون تقدير للعواقب، قلت:

= «أعرفها، إنها...»

= «لا أريد أن أعرفها. كيف عرفت بها؟»

= «لأنها حققت معي ويبدو بتكليف من حامد».

= «من حامد هذا؟ ولماذا حققتْ معك، وبأي صفة؟»

= «حامد هو أحد الضباط المنقلبين، والذي أصبح وزيرا. هو جار لنا. هذه الطالبة قريبته، وتدّعي أنه يزورهم كثيرا. يبدو أنها روتْ له موضوع البحث. ولصلتي الخاصة بك ظنتْ أني أعرف كل شيء عنك، فانهالت عليّ بالأسئلة. لكني أوقفتها عند حدها. لستِ جهة مخولة بالتحقيق، فلتستدعيني السلطات بشكل رسمي»، هذا ما قلته لها، وهددتها أن أفصح عن شكوكي تجاهها إن كررت المحاولة معي.

= «من المبكر عليك أن تقع في أيديهم. من المؤكد أنك، يوما ما، وطالما بقيت هذه الأنظمة متسلطة، ستعتقل، ويُحقق معك، وربما تسجن شأنك شأن أي مواطن. قديما كان يقال «سرْ جنب الجدار تسلم»، اليوم ليس هناك من يسلم».

* * *

بالتماس مني، أشرف الدكتور فهمي العوّاد على أطروحتي لنيل شهادة الماجستير، وكذلك الدكتوراه بعدها. عينت في نفس القسم. رغم أني صرت زميله في التدريس، لكني بقيت أخاطبه بـ «أستاذي الجليل». كان يضحك أحيانا:

= «متى تكبر وتناديني باسمي؟»

= «هيهات حتى لو كانت هذه رغبتك».

مضت السنين بثقل أحداثها، والمزيد من سوء الأحوال. أجيب طلبه بإحالته على التقاعد. تفرغ للتأليف. افتقده الجميع. لم تنقطع صلتي به. لم يشكُ يوما من زياراتي الكثيرة. شكواه الوحيدة كانت هي رفض كل دور النشر المحلية نشر كتبه مما يضطره لنشرها في الخارج. منع النظام دخول كتبه، لأنه يسرد تاريخ الشخصيات والأحداث خارج الموروث المتفق عليه والمحاط بهالة تقديس وهمية.

= «غريب أن نتمسك بروايات كتبتها حاشية الحكام بعد أن قبضوا، ونحجر على من كتب خارج دائرة السلطة»، هذا ما كان يردده.
بعد تقاعده بسنوات، وذات صيف، تكررت نفس الأحداث. البيان رقم واحد، منع التجوال، الجيش يحتل المدن، سقط الطغاة البغاة، عاش المجاهدون منقذو البلد من الكفرة الفجرة. الانقلاب السادس. هذه المرة ارتدى المنقلبون جُبَباً فوق بدلاتهم العسكرية. اعتروا العمائم، وأطلقوا اللحى. ألقي القبض على الدكتور فهمي. التهمة هذه المرة ازدراء الدين والتهجم على رموز الأمة. قال له المحقق في سَوْرة غضب مفتعلة ترهيباً:

= «أنت عَلماني».

= «الحمد لله أنك لم تتهمني بالردة والإلحاد».

= «وما الفرق؟»

أراد أن يقول له: إن كنت لا تفرق بين الملحد والكافر والمرتد والعاصي والمذنب والآثم، فعلى الدنيا السلام. لكنه تذكّر حكمة مناقشة العلماء والجهلة، فسكت. واكتفى بـ: «ليرحمنا الله برحمته الواسعة».

D 1 أيلول (سبتمبر) 2023     A زكي شيرخان     C 0 تعليقات