عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

زكي شيرخان - السويد

خرابيشُ خطّ


زكي شيرخانلا أستطيع ضمان بقاء ذاكرتي على قوتها، التي أُحسد عليها، مع تقدم العمر فيما لو طال، ولو عندي شك بأنه لن يطول. لذا قررت أن أكتب. ما سيلي، ولست متأكدا كم سيكون، ليست مذكرات بالمعنى الدقيق للمفردة. هي خرابيش، سأتعمد أن تكون بطريقة سيّئة غير منسّقة أو منظّمة أو محدّدة الشَّكل، وغير نهائيّة، خوفا على رأسي من أن ينفصل عن جسدي. أدرك، جيدا، خطورة ما أنا مقدم عليه، لكن، وأتمنى، ألّا تكون مما يدينني، ربما لأنها لن تكون مفهومة. زيادة في التمويه، لن أدون تأريخ الأحداث. سأرقم هذه الأحداث تبعا لتسلسل وقوعها، معتمدا على ذاكرتي فيما لو أتيحت لي فرصة لإعادة كتابتها بالشكل الذي يفهمه من يقرأه.

تبدأ هذه الخرابيش يوم استدعاني مديري ليعلمني أن أمرا صدر بنقلي لدائرة أخرى خاصة، هذا كل ما أستطيع وصفها. لاحظ ارتباكي، والرعب الذي ارتسم على وجهي، على ما يبدو. يومها كنت مسؤولا عن قسم الأبنية التراثية في المدينة بموجب قائمة غير معروفة الجهة التي وضعتها، ولا الأسس المعتمدة في التصنيف. بسذاجة لا أتصف بها، سألته فيما لو أن هناك إمكانية لإلغاء الأمر. هذه المرة، ارتعب هو. «سيصدر أمر انفكاكك بعد قليل»، هذا كل ما قاله.

=1=

عدة أيام قضيتها في دار عادية في أحد الأحياء، تلقيت فيها تعليمات حول عملي، أهمها قائمة لم تنته بالممنوعات ابتداءً بالكتمان الشديد، وليس انتهاءً بعدم تناول المسكرات مع أحد مهما كان. التقليل من الالتقاء بالأهل والأقارب والأصدقاء إلى الحد الأدنى، والأفضل عدم لقائهم بالمرة. باختصار العيش منفردا بعزلة افرضها على نفسي.

=2=

ثلاثة أشهر مضت على بداية عملي الجديد. أجد صعوبة في التأقلم. مرعوب أنا، من كل شيء؟ بت أخشى أن أخطأ خطأ مهنيا يودي بي إلى التهلكة بسبب ما أعانيه من وضع نفسي لا أتمناه لأي أحد.

=3=

يبدو أني سأفشل في تمويه هذه الخرابيش على قارئها. مهما كان رصيدي من المفردات فلن تكن معينا لي في جعل الأمر مبهما. فكرت، فقط، في إيجاد طريقة لإخفائها عن الأنظار، إخفائها في مكان لا تصل إليه الأيدي فيما لو حصل ما أخشاه. لا أدري، هل سأنجح؟

=4=

لا أستطيع، ببساطة، أن اسميه مديري، أو رئيسي في العمل، أو حتى مسؤولي، لأن كل هذه المسميات تبدو مبهمة في هذا المكان. هو فقط من يكلفني بإنجاز ما هو مطلوب مني، مع التأكيد على سرعة الإنجاز، دون الأخذ بنظر الاعتبار الأولويات التي أجهلها تماما. هو رجل دمث الأخلاق عكس ما يبدو عليه من تجهم، وقسوة ترتسم على وجهه. أظن أنه تدرب كثيرا على أن يبدو كذلك، وعانى حتى وصل إلى الصورة التي هو عليها. اليوم، وهو يكلفني بمهمة، سألني فيما لو كنت مرتاحا في عملي، أو أعاني من شيء. «من المهم أن نكون جميعا مرتاحين في عملنا حتى يكون إنجازنا على أتم ما يكون»، مضيفا «الخطأ مكلف جدا، وأظنك أدركت هذا». لم أدر كيف أجيبه. اكتفيت بابتسامة جاهدت أن أظهرها.

=5=

واضح جدا، دون الإفصاح عنه، أن الولاء هو أهم ما يؤخذ بنظر الاعتبار هنا. الولاء لمن؟ لست متأكدا. ربما يوما ما، لحظة ما، بعد حدث ما، سأكتشفه. صحيح أن البحث، في كل مكان عن الكفاءات هو المُتّبع، لكن يمكن التخلص بسهولة ممّن لا ولاء له. التخلص، يجب أن يفهم بأقسى معانيه. ربما كانت مفردة (التغييب) هي الأقرب للشرح. لا أدري لم يُقضى على من لا ولاء له في هذا المكان؟ لِمَ لا يُستفاد من الكفاءات في أماكن أخرى؟

لا أدري بالضبط ما مهام هذا المكان. شخصياً، مهمتي هي أن أتأكد من سلامة التصاميم المعدة سلفا، لا أدري من قبل من. هذه التصاميم لا تتعدى أبنية. سأكتفي، الآن بتسميتها أبنية؛ ربما يوما ما سأخربش بوصف البعض منها. فعلا، أنا لا أعرف مهام هذا المكان. من أين لي أن أعرف؟ لا يباح لنا سؤال أي زميل عن مهامه، وما يقوم به. أغلب الظن، أن ليس الجميع مطلوب منهم ما يطلب مني. على الأقل هذا ما يبدو لي، أو هذا ما أخمّنه. لماذا أخمّن؟ لا أدري، مجرد أحساس.

=6=

لسبب عائلي، لم تستهوني السياسة لا ممارسة ولا نقاشا. ولأني لا أكتب مذكرات فلا أرغب في الدخول في التفاصيل. الرابط الوحيد لي بالسياسة هي الاستماع لنشرة الأخبار حتى لا أجهل ما يحدث على سطح أو أعماق أو فضاء الكرة الأرضية. لا احتمل نقاشاتها التي بمجملها تكون عقيمة، ولا تؤدي لنتائج يمكن الركون إليها لمعرفة الحقيقة. بكل الأحوال، ما دفعني للخربشة في هذا المجال هو ما تناوله الكل همسا على مدى الأيام القليلة الماضية. مجرد إشاعات تعودنا سماع الكثير منها، والكثير من هذا الكثير من اختراع أجهزة رسمية. قيل إنه تم القضاء على محاولة انقلابية. الآثار، وإن بانت، ولكن لن يكون بمقدور أحد التأكد فيما لو كان هناك مخطط انقلابي، أم هي مجرد حركة للتخلص من وجوه محددة. في الأثر، افتقدنا الكثير من الوجوه التي تعمل في هذا المكان، واستبدال عدد من الوزراء، ورؤساء مؤسسات أمنية.

=7=

افتقد كثيرا الجلسات مع الأهل والأصدقاء، بكل ما فيها من حميمية، ولو ليس دائما. الوقت الذي كنت أمضيه معهم بدأت، مرغما، على قضائه في القراءة. أصبحت أملك كمّا لا بأس به من المعرفة من دون تعمّق. هذه المعارف لا يمكنني استخدامها البتة في هذه الخرابيش للتحليل. تحليل؟ بالتأكيد سأكون غبيا لو حاولت خربشة ما بدأت أتوصل إليه. الغبي وحده من يلف حبل المشنقة لجريمة لم يرتكبها، ولا أظنني غبيا، وهذا ما لا يراني الآخرون.

=8=

طلبت من مديري، أو رئيسي، أو مسؤولي، لا تهم التسمية، أن التقي بمصمم بناء طُلب مني التأكد من سلامته. هب واقفا. وضع يديه في جيبي سرواله. وجّه لي نظرة تقريع، كانت كافية لأن أفهم أني ارتكبت خطئا فادحا لن يُغفر لي. النظرة بدت أبلغ من أي كلام. «إن كان هناك خطأ ما في التصميم» سكت برهة «أو أي شيء تريد الاستفسار عنه أكتب تقريرا». خرجت مرعوبا من نتيجة ما طلبته. وعلى ذكر الرعب، ترى هل هو مبرر؟ وهل هو انعكاس للواقع الفعلي لهذا المكان، أم تراه كان تغذية نفسية برعوا بزقّها فينا؟ على ذكر الأبنية، كما سميتها سابقا، سأصف آخرها. لا أدري ما اسميها، قصرا؟ حصنا؟ دار ضيافة؟ ملجأ؟ صَرْحا؟ حتى تبدو أحيانا كمعبد. التفاصيل داخل هذه البناية لا تشي بوظيفتها. قاعات واسعة، حمامات متعددة، صالات ألعاب رياضية، غرف عديدة، مطابخ، طابقان تحتها، مسابح، متنزهات واسعة، أحواض تربية أسماك، أوكار حيوانات، ومحاطة بسياج ارتفاعه سبعة أمتار. كم كنت أتمنى رؤيتها بعد انتهاء العمل بها.

=9=

مرت ثلاث سنوات على وجودي في هذا المكان. لم تتعد علاقاتي بزملاء العمل السلام، والسؤال عن الصحة، والعائلة، وما إلى ذلك بدون ود بيننا. «لا ود بين العبيد» عبارة أستعيرها من فلم سبارتاكوس، ولا أدري لم علقت هذه الجملة في ذهني رغم السنوات العديدة. ألسنا عبيدا أصبحنا للنظام، أو المنظومة، أو المنظمة، لا أدري ما اسميها، كلها تصف ما يدير الأمور؟ فقدتُ، خلال هذه الفترة، الكثير مما كنتُ عليه، حتى أظن أني الآن شخصا آخرا لا يحمل مما كان عليه إلّا الاسم الذي لم يبدلوه، ولا أدري لِمَ لَمْ يفعلوا؟ وكثيرا ما أتساءل، فيما لو تركت هذا المكان، هل سأعود كما كنت؟ لو سنحت الفرصة لأحد ما أن يطّلع على ما أخربشه، سيظن أني أبالغ، وله الحق كل الحق، ولا أستطيع أن ألومه لأنه لم يعمل في مثل هذا الجو، ولن يسعفه خياله حتى برسم صورة مقاربة لما عليه الحال.

=10=

نخضع لفحص طبي دوري كل عام في مستشفى عسكري. لماذا عسكري؟ لست أدري، علما أن مهامنا، على ما اعتقد، مدنية. قبل شهر كان آخر فحص لي. زرقت بحقنة. تجرأت وسئلت عنها، فأُخبرت أنها لقاح إنفلونزا. أمس صدر أمر نقلي لوزارة التخطيط، وفي نفس اليوم انفككت. أمامي ثلاثة أيام للالتحاق بوظيفتي الجديدة. بدل الفرح المفترض أن يغمرني، اجتاحني الرعب ثانية بعد أن كان قد هدأ قليلا بعد هذه السنوات التي قضيتها دون أن يصيبني مكروه، بل بالعكس حصلت على تكريم وتقدير أكثر من مرة. ربطي بين الحقنة ونقلي المفاجئ هو مبعث رعبي. هل زُرقت بمادة سامة ستقضي عليّ بعد أيام أو أسابيع؟ شائعةٌ هي الإشاعات حول موت أناس بهذه الطريقة من القتل. لم يعد الموت بسبب حوادث المرور أسلوبا متبعا للتخلص ممن يراد التخلص منهم. لم أكن شخصا مهما. لست مناوئا، لانعدام إمكانياتي. قبلتُ الواقع على مضض كما الآخرون. لا حيلة لنا في تغييره. لِمَ يُراد التخلص مني؟ أنا لم أطّلع إلّا على تصاميم لأبنية لا أعلم إن نُفذت أم لا. وإن نُفّذت فأين؟ وما الغاية منها؟ ترى أهو الخوف الذي زُرع بداخلنا عبر سنوات؟ أأنا رجلٌ بِهِ هَوَسٌ؟

سأتوقف عن الخربشة مؤقتا. وأرجو أن يكون مؤقتا. لو كان ما أعانيه مجرد هَلوَسة، فسأكمل ما بدأته بشيء من التفصيل، لا بل الكثير من التفصيل، عسى أن ... عسى ماذا؟

D 1 آذار (مارس) 2024     A زكي شيرخان     C 0 تعليقات