عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

محسن الغالبي - السويد

حين تلفظني المدن


ما سر هذه العداوة ما بيني وبين المدن، أو بالأحرى ما بين المدن وبيني، فلطالما كنت لها ذلك العاشق الأحمق، أبدد الساعات والأيام، أبدد العمر في النظر فيها والتمعن. ناظرا فيها وناضرا منها. ثم ماذا؟ ما الذي جنت يداي أو عيناي منهن؟ كأنما دخلن حلفا وشددن أزرهن عليّ، حتى شرعن تلفظني الواحدة منهن تلو الأخرى.

أم لعلها الخطيئة الأولى؟ ما كان لي أن أهجرك طائعا أو مرغما. وكأنما ذاك هو جزاء الهجر الأول، هجر يتلوه هجر يتلوه هجر...يتلوه هجران. ما ضرني لو كنت التصقت إلى أحجار بعض زقاقك هناك لأغفو على إيقاع موسيقى الصفّارين؟ أعدو بضع خطوات عابرا ذلك الجسر إلى مدرسة لم تجرؤ السنون على هدّها. ما ضرني لو عانقت أعمدة الشارع القديم هابطا نحو الجنوب إلى اليمين قليلا نحو خلوة كموت عذب عذوبة الماء الهابط مع وقع أقدامي؟ في خلوة يحرسها صوفي شرب ماء الخلود فقر هناك بعدما لفظ المدن وطواها كمذنب دار أو قمر عاد كالعرجون القديم. أشار حارس الخلوة هامسا كي لا يجرح قدسية الخلوة تلك...إنه "فائق حسن ".

ما الفرق بين أن تهجر عشقك الأول طائعا أو تهجره مرغما؟ وهل يهجر العاشق معشوقه؟ أم هل يُهجر المعشوق أصلا؟ وهل يبقى من العاشق شيء لحظة الهجران سوى بعض فتات من الذاكرة، أو فتات هيكل إنما يخيل للمدن أنه هيكل؟ بعض هيكل لم تقو المدن على لملمته ولو كان بعض لبعض ظهيرا. حتى إذا استبان لها سره عبست شوارعها في وجهه متقيأة إياه منها وفيها.

ستة عشر عاما أجوب المدن مثل غجري بلا قيثارة، عابر سبيل بلا زاد أو دليل، حالم دونما متكأ يُسقط عليه رأسه المثقل بالأحلام والأوهام علّه يكمل بعض رؤيا، أو كموسى خارجا منها يترقب، ستة عشر عاما وما من شعيب يؤويني أو يقرضني بعض مأوى.

أهي الخطيئة الأولى؟ إذا أنا غارق فيها إلى أذني أو أكثر كثيرا، حتى إذا ما مددت يداي متضرعا لم يبن منهما شيئا، وأبحرت في الغوص حتى القعر، ها أنا الأمس القعر، هشا كان تماما كذاكرتي، فتفتحت حباته تحت أقدامي لتحفر لي مثوى أخيرا بعدما لفظتني المدن.

ما سر العداوة بين هذه المدن وبين هذا الوجه الأخرق؟ وكيف يتسنى لها أن تكشف هذا الحزن الجاثم فوق قسماته الثكلى حتى تسارع في الانطواء فتلفظني؟

لم تعد أرض الله واسعة كما كانت. وصارت المدن مقابر شتى، أمر فيها عابرا كي أموت فتلفظني إلى أخرى. عشقت مرة واحدة وولدت مرة واحدة، ولكني متّ مرات ومرات.

رغبة في البكاء جامحة تجتاحني فتجرح حنجرتي بحرقتها، أكاد أخفيها فلا أقوى. فأطلقها كطوفان، معللا ذاتي بأن بكاء الغريب وحيدا ستخنقه الجدران ثم تلفظه المدن.

JPEG - 40.5 كيليبايت
رسمة لمحسن الغالبي
D 1 شباط (فبراير) 2008     A محسن الغالبي     C 0 تعليقات