محسن الغالبي - السويد
وحل الوطن
= انظري؛ الثلوج تغطي الشوارع حتى يكاد يصعب المشي فيها.
التقطت صورة وأرسلتها على الفايبر. كنت أود أن أقول إن الحياة ليست بالصفاء الذي يتخيله سجناء الوطن.
قالت: "لا علم لي، أنا خبيرة بوحل الوطن لا أكثر. لا خبرة لي بالغرب". وأحجمت عن إضافة تاء التأنيث إلى الكلمة الأخيرة رفقا بي. أحسست بذلك رغم المسافات الشاسعة بيننا.
قلت: برغم كل السنين هنا ما زالت الغربة تحول بيني وبيني.
= تحاشيت مفردة الغربة أنا، فلم تعيد أنت ذكرها؟
= من أدمن الغربة يدمن ذكرها، ثم تداركت: إن في الوطن غربة أخرى. ألم يقل القاسم: "يفرقنا العالم اليعربي، ويجمعنا العالم الأجنبي، ونبقى أجانب في العالمين"[1].
= تالله تفتأ تذكره حتى تكون حرضا[2].
= ذكرتني وما نسيت عهودا = = لو سلا المرء نفسه ما سلاها[3].
صمتنا لحظة، لا أدري أين شطحت بأفكارها وأين شطحت بأفكاري. ما كنت متيقنا منه تلك اللحظة أن أفكارنا حلقت صوب سماء لا أفق لها، رحيبة رحابة الوجود الآخذ في الاتساع، رحابة خالقها؛ رحابة العشق.
أقفلت هاتفي وأكملت مسيرتي الثلجية،أحسست بالتشنج يسري في عضلات ساقيَّ يصاحبه أحساس موجع بالوحدة اذ يُجبر المرء على السكن في نزل قد خُصص معظمه لإيواء اللاجئين الجدد وبعض المدمنين والعاطلين عن العمل، في وقت كنت أكملت فيه سنتي الخامسة عشرة في بلد أمسيت فيه أدور حول نفسي تماما كثور المطاحن، ويصاحبه أحساس مقزز بالعار ذلك أن البيت الذي كنت أسكنه يقبع هناك على مسافة ميلين فقط، لكنني لا أملك الحق في طرق بابه خشية أن تقبض عليّ شرطة المدينة بتهمة التحرش.
هكذا كانت بلاد الغربة: تحفظ لي ماء وجهي الذي أنقذته من بلدي الذي مرغ وجهي بالتراب وبالرماد، فكنت "كالمستجير من الرمضاء بالنار"[4].
أمسيت هكذا ككرة البندول بين بلد أحبه ولا يحترمني، وبلد أحترمه ولا يحبني. يجذبني الحنين إلى الأول وأقرف فيه من كل شيء، وتنحرني الغربة في الآخر وتشدني إليه غربتي عن الأول. فلا أنا لذاك ولا أنا لهذا.
لطالما حاولت أن أشطر نفسي بينهما، فاستحلت إلى شطرين لم يجتمعا قط. ربما كان عليَّ أن أنسى نفسي شطرا من العمر أو ما تبقى منه، وأنى لي ذلك.
صرت أجوب الطرقات كتائه أو مشرد أنصت في أذني اليسرى إلى موسيقى نيكوس[5] "الحب السري" (Secret Love) أعيدها مرارا وتكرارا. وترن في الأذن الأخرى كلمات نزار : "إني مرساة لا ترسو = = جرح بملامح إنسان"[6].
هجرتُ المنزل متجها صوب المدينة، كانت خاوية من سكانها كأنما "أفنتهم أيدي الزمان"[7]، وقفت وسط ساحتها المركزية؛ كانت مهجورة وواسعة إلى حد يكاد يخنقني، لم يكن هناك من أحد قط سوى فتاة بسن ثلاث سنين وشعر مجعد مبعثر بشكل رائع، رمقتني بعينين عسليتين ومدت يدها تطلب يدي، وشرعنا نرقص.
كانت بالكاد تمس أقدامنا أحجار الساحة، كنا نطوف كما تطوف النجوم حول مداراتها، وحين أسرعنا الطواف بدت تحوم حولي كأنما تطوف فوق ماء . حاولت الإمساك بيدها خشية الإفلات لكن أناملها كانت رقيقة فخشيت أن اخدشها.
أفلتت مني واختفت بردائها البنفسجي تاركا وراءها هالة بلونه ما زالت تصيب عيني بالعشو في كبد النهار.
جثوت على ركبتي وسط الساحة منهكا. كنت وحيدا، أضارع وحشة الفراغ هناك فتصرعني.
رأيت الهاتف يومض تاركا رسالة منها:
"أنا وطنك
العشق هو الوطن الوحيد الذي يجمعنا
وكل ما عدا ذلك يفرّق.
هـ ."
= = =
=1= من قصيدة للشاعر الفلسطيني سميح القاسم ألقاها في دمشق عام 1998 كنت حضرتها.
=2= الكلمات مقتبسة من الآية 85 سورة يوسف: "قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين".
=3= من قصيدة للشاعر العراقي كاظم الأزري.
=4= مثل عربي شائع.
=5= نيكوس: موسيقار يوناني معاصر يعد من أحذق عازفي الكمان.
=6= من قصيدة "نهر الأحزان" للشاعر نزار قباني.
=7= من خطبة لللإمام زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب.
◄ محسن الغالبي
▼ موضوعاتي
- ● لقاء
- ● ضباب
- ● ما حدث معي هذا الصباح
- ● شيء من العذاب
- ● شمس
- ● هوس شرقي
- ● فراشة
- [...]
1 مشاركة منتدى
وحل الوطن, هند كامل العراق | 21 آذار (مارس) 2016 - 14:58 1
حروفك أكتست حللا .. و أنشدت كلماتك ترانيم مقدسة .. فتحول الحوار سمفونيات شغف .. تتغنى بهوى أثنين هما في أصل كينونتهما واحد متوحشان لا وطن لهما الا هما .. و تراقص زهرة جميلة أتمت ربيعها الثالث بهالتها البنفسجية فتضع يديها في يديك و توثق قبضتها لتبقى زهرتك تنث عبيرا مع كل أبتسامة بريئة من عينيها و تكبر معك و تبقى أنت رياضها .. دمت موطن