عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

سمر شاهين - غزة

غــزة: الحصار الخانق


مدينتي غزة تعيش الآن في حصار لا يرحم وأوضاع مأساوية تتفاقم كل لحظة حتى باتت الكارثة تلوح في الأفق والمدينة تقترب من الاحتضار. أما أهلها فالبحر من خلفهم وسياجات حديدية صنعها الاحتلال من أمامهم. ولا مفر لهم إلا الموت. (معذرة طارق بن زياد). في ظل الحصار المحكم، الشوارع خالية إلا من أفراد قلة دفعتهم الظروف للخروج من أسوار منازلهم علهم يجدون ما يبحثون عنه. كنت من أولئك الذين أصروا على الخروج للتنقل بين أزقة وشوارع المدينة لأرسم صورة الواقع المرير.

عندما خرجت من البيت انتقلت في لحظة إلى عالم آخر. الشوارع خالية. بدت المدينة وكأنها مدينة للأشباح. ونسيم الصباح في غزة يحمل رائحة الزيوت. كانت أولى المحطات صرخة الألم التي خرجت من صدور المارة الذين أصابهم الدوار جراء النسيم المعبأ بزيت الطعام الذي تحول إلى "بنزين نباتي" للسيارات، في ظل عدم توفر المحروقات لا سيما البنزين.

صرخة ألم مماثلة صدرت عن سيارات غزة التي باتت تئن من الاستخدام السيئ، وتبكي حال أصحابها الذين أصبحوا ضحية قبل أن تصبح سياراتهم وممتلكاتهم أيضا ضمن طابور الضحايا، فالتلف بات مصيرها، وعنوانها بات الأرصفة. أما الإسفلت فإنه أصبح طريق مشاة للمواطنين الذين لم يجدوا وسيلة نقل سوى (باص 11) * أي السير على القدمين.

أخذت أسرع الخطى علني أتمكن ولو للحظة من الهروب من تلك الرائحة التي تخنقني. اقتربت من الميدان المركزي لمدينة غزة فوقعت عيناي على العديد من السائقين الذين كانوا يسكبون زيت الطعام داخل أمعاء سياراتهم وهو يضعون الكمامات على وجوههم علها تنقذهم، ولكن هيهات.

للحظة شعرت بأن الكمامات هي الأخرى تصرخ، وفي كل صرخة كانت تحمل ثلاث رسائل: الأولى أنني لن أتمكن من إنقاذكم ما لم يسارع العالم لإنقاذكم وفك الحصار عنكم. والثانية أن بيئتكم أصبحت مريضة بفعل التلوث وأنكم عرضة لذات المرض. أما الثالثة فإني أوشكت على عدم مقدرتي على الحفاظ على نفسي فكيف لي بالحفاظ عليكم.

واصلت سيري ودموعي تسبق خطواتي، فلا بارقة أمل تلوح بالأفق، ولا أجد سيارة تقلني أو أجد من يشاطرني المشي، فالكل في الميدان يغني على ليلاه والمصير واحد.

استفقت من دموعي وتفكيري على صوت مولدات الكهرباء وهي تصدح في بعض الأماكن والمؤسسات التي أسعفها الحظ لكي تخزن ما يمكن تخزينه من كميات من السولار جاءت ضيفة على غزة في وقت مضى. ووقفت ذاكرتي في المحطة الثانية: انقطاع التيار الكهربائي.

لحظة واحدة كانت كفيلة بأن تذكرني بأني في طريقي إلى الموت لا محالة، فليلتي كانت ظلماء نتيجة انقطاع الكهرباء وغياب الشموع. كيف ولا والمدينة محاصرة ولم يعد فيها شيء من مقومات الحياة.

ليلة لم يعرف النوم طريقه إلى عيوني، فالظلام كان أقوى منا نحن الاثنين. وبكاء الأطفال كان يسمع من هنا وهناك ولا أمل بأن يحضر ذلك الضيف الذي غاب عنا في الشتاء. وها هو اليوم يغيب عنا في الصيف. إنها الكهرباء، ذلك المقوم الذي أصبح عزيز علينا، وفي حالات كثيرة بات يعادل فيها الروح. كيف لا وأطفال الحضانات ومن يعيش على الأجهزة يتربص به الموت لحظة بلحظة، فإذا ما قطعت الكهرباء وغاب الوقود فقد تغيب معهما الحياة.

حتى الكهرباء كنت استرق الاستماع إليها وهي حبيسة داخل الأسلاك الواصلة للمنازل ولسان حالها يقول: "لست السبب في آلامكم ومعاناتكم، فهذا مصيركم ومصير كل من يقبع تحت الاحتلال وجبروته." للحظة شعرت بأن الأسلاك فوق رأسي باتت تشاركني دموعي.

واصلت سيري والألم يمزق فؤادي، ودموعي تزداد غزارة، ولسان حالي يقول: "صبرا، صبرا، فالفرج قريب." وما أن وطأت قدماي السوق الذي كان يوما يعج بالناس حتى أيقنت معنى الحصار، فلا محال تجارية بقيت على حالها، ولا بضائع باتت تعرض، ولا أطفال يلتفون حولي لبيع ما تمكنوا من جلبه للبيع. المكان شبه خال إلا من بعض المحال التي فتحت بابا واحدا وأغلقت أبوابا. ومن يصل السوق يشاهد فقط ما تبقي من أشياء، ولا يجد مبتغاه لاسيما وأن الأسعار قد تضاعفت مرات ومرات، والأشياء فقدت وأصبحت لا ترى إلا بالأحلام.

تملك التعب مني، وقررت أن اجلس للحظة. العيون دامعة والقلب يعصره الألم. لا شيء يبشر بفرج قريب.

= = =

* باص = حافلة. تعريب للكلمة الإنجليزية (bus).

D 1 حزيران (يونيو) 2008     A سمر شاهين     C 0 تعليقات