ربا الناصر - الأردن
الواحة السوداء (*)
(*) أهدي نصي إلى كل متضرر جراء التلوث البيئي المحيط به. وأشكر من ألهمني الفكرة: الإعلامي أحمد الشريدة.
كانت بين الحشود المتزاحمة في الخيمة، تراقب من بعيد تلك السحب السوداء التي غطت الواحة، والتي بدت كوشاح أسود لف المكان. نظرت إليها بعينين دامعتين، متحسرة على بيتها الصغير الذي تركته، وفي الوقت ذاته قلقة على والدها الذي يعد في عداد المفقودين، فالناس يتزاحمون فوق بعضهم كأكوام من الرمل، يختزنون في قلوبهم أحزان عمر قضوه في الاقتناع بكفاف العيش وحب الحياة، بل حب السلام الذي تلاشى مع بزوج فجر ذلك اليوم.
كانت الشمس تشرق على الواحة، منيرة جمال طبيعتها، التي ينبثق من بين أراضيها الخصبة أقراط من أجود أنواع التمور وأطيبها تتدلى من على رأس النخل الشامخ. كانت التمور هي مصدر الرزق لكثير من أهالي الواحة الذين يلفهم السلام من كل صوب، متمسكين بكل قيم الحياة ومقتنعين بمكسبهم من تجارة التمر، رغم قلته في أحيان كثيرة.
كانت سعاد تعيش مع والدها، العم يونس، في بيت صغير، ضم بين جدرانه القديمة ذكريات قد ينسيها مرور الأيام، لكنها لا زالت عالقة في مخيلة هذه العائلة العادية. كان العم يونس يعمل مزارعا في إحدى الأراضي الممتدة من الناحية الشرقية حتى البئر المهجور منذ سنتين. نعم، فقد كان المصدر الأساسي للماء في الواحة، إلا أن قرب مصنع الإسمنت الواقع بالقرب منه، وانبعاث أدخنته الخانقة، حالت دون الاستفادة منه، وتلويث مياهه.
حتى الأرض الزراعية لم تسلم من مياه المصنع العادمة والملوثة بأكاسيد الكبريت والرصاص السامة. أقيم هذا المصنع منذ عشرين سنة في غياب رقابة بيئية وتكتم على حقوق أهالي الواحة المطالبين باستمرار في رصد حلول لهم، فهذه الأرض بالذات كانت منبتا لكثير من النباتات الصحراوية، كالسدر وهو نبات شجيري شائك.
كان أهل الواحة يقطفون ثمر النبق ويبيعونه في السوق لما عرف عنه من حلاوة المذاق. أما أوراقه وقشوره فكانت دكاكين العطارة تكاد لا تخلو منها، لما يستخدمونها في علاجات كثيرة. لكنها اليوم غدت طيفا من الماضي الذي طمس معالم هذه الأرض التي يعمل فيها العم يونس، وإن لم تكن أرضه، لكنْ ثمة تواصل خفي يربطه بها. لا يقدر أحد على تفسيره سواه.
وما يؤكد الأمر فرحته يوم حصاد التمر، فعندئذ يمارس أهالي عادات خاصة بموسم القطف، وقد جرت العادة في هذا اليوم أن تتزين أشجار وبيوت الواحة بالأوراق الملونة، ويتجمهر الأطفال الذين يرتدون ثيابا بيضاء رمزا لموسم جديد، كل يحاول تسلق شجر النخل، لعله يستطيع الحصول على حفنة تمر وسط فرحة تغمر قلوبهم البريئة.
كان المزارعون يحتشدون أمام الأشجار، ويتهيئون لقطف التمر وتجميعه في أكياس من الخيش. كانت التمور تقطف على دق الطبول وأهازيج من التراث البدوي، وسط سماء صافية، عُكست على وجه العم يونس الفرح بحصوله على ثمار تعبه، فبعد الانتهاء من تعبئة التمر، تقدم العم يونس نحو أكياس تمره، وتفقد أحدها، فمد يده ليقلب التمر بين يديه، وأمسك بحفنة تمر، وقربها من أنفه، ثم شمها طويلا.
كانت ابنته تراقبه في دهشة مما ترى، فقامت بهز كتفه، وأخرجته من حالة الهيام بثرى أرضه، فكثيرا ما كان يذهب مساء نحو البئر المهجورة، ملقيا فيها بعض التمر، وما أن يسمع صوت ارتطامها، بقاع البئر، حتى يرسم ابتسامة يتحدى بها خراب الأرض حوله، فعلى الرغم من جفاف هذه المنطقة إلا أن الحياة تدب في طرف آخر منها، يصارع خطر التلوث البيئي المتصعد فيها يوما بعد يوم، في ظل غياب نظام صيانة مجدول، وطمع مستثمرين في الاكتفاء بالحصول على الأرباح دونما التفكير في محاصيل أهالي الواحة المتضررة في الوقت الحالي نتاج طرح المياه المتأينة للمصنع في الأراضي المجاورة للمصنع. ولكن الأخطر اقترابها من الأراضي الأخرى، الأمر الذي دق ناقوس الخطر، معجلا بحدوث خطب ما، لا يستطيع أهل الواحة توقعه.
في الليلة السابقة لحدوث الكارثة، كانت سعاد تجلس قرب نافذة غرفتها، تستشرف منها رؤية القمر وهو يغطي وجهها بنوره الفضي، أما السماء فكانت صافية كما قلبها، يحمل حبا وتسامحا تجاه الآخرين. كانت تنظر نحو النخيل المتمايل برشاقة تارة وتنظر تارة أخرى نحو والدها الذي يرتشف كأسا من الشاي وقد بدت عليه علامات الجد وهو يتابع نشرة الأخبار. كان الوقت يمضي بسرعة، يسجل في كل دقيقة أحداثا ستكون ذكرى في الغد، فسعاد لم تتصور أنها ستشخص نحو سماء تخلو من القمر يوما ما، ولم يتصور العم يونس أنه سيكون حدثا تتناوله وكالات الأنباء في يوم من الأيام.
بعد لحظات معدودة، جلست سعاد بالقرب من والدها، الذي سرعان ما التفت حتى رآها تبتسم له، فلكزها مداعبا:
"أتذكرين يا سعاد عندما كنت صغيرة وكنت تحلمين بالمشي على قوس قزح؟"
فأجابته بسرعة: "أذكره بالطبع، ولا أخفيك سرا أنني لا أزال أحلم به. أحلم بمسك ألوانه وتحسس معانيها وإدراك مغزى كل لون اكتست به الطبيعة سواء بلونه الحقيقي أم بمزيج من ألوان متعددة، فأنا أتوق لمعرفة سبب اكتساء السماء باللون الأحمر عند الغروب، وسبب ارتدائها اللون الأسود في الليل."
نظر إليها العم يونس وهو يهز رأسه فرحا بنضج فكرها وبحثها عن فهم معانٍ لو عمل بها الإنسان لوصل إلى أعلى درجات الارتقاء الفكري، عندها يملك أكبر مفتاح للسعادة.
في تمام الساعة العاشرة، خلدا للنوم في سلام وهدوء واضحين، لكن الوقت في تسارع دقائقه كان يحمل تحت طياته الحرية لشبح الموت المسجون بين عقارب الساعة التي تتحرك نحوه كما اعتادت في كل يوم، تلتقي عند الثانية عشر، مطلقة دقات موسيقية متتابعة لكنها اليوم أطلقت صوتا مدويا اخترق هدوء المكان وأقض مضاجع أهل الواحة، فالمدخنة الرئيسية للمصنع انفجرت لعيب فيها، مخرجة دخانا أسود، منتشرا في كل مكان حتى حجب ضوء القمر. هرع أهل الواحة وقد كانوا يركضون في تزاحم شديد، فكل يحاول الفرار والنجاة بنفسه قبل أن يخنقه الغاز السام.
كانت سعاد تغط في نومها قبل أن يوقظها والدها فزعا ويأمرها بالركض وترك أمتعتها كما هي. الجميع كانوا يتراكضون نحو أطراف الواحة ومن بينهم العم يونس وسعاد. كانت سعاد تركض مسابقة انتشار الدخان الأسود. تعثرت بحجر فوقعت. عندما استعادت وعيها وجدت نفسها وسط خيمة تعج بالأهل الثائرين. لم تر والدها بينهم. وجدت نفسها مشدوهة تجاه هول المصيبة التي أمامها، فكانت مقلتيها تتراقص بين الناس وأيديها تتلمس الأرض برجاء العثور على أبيها، لكن دون جدوى.
هي اليوم تقف هنا، ولكنها تريد في قرار نفسها الوقوف هناك على أرض الواحة المنكوبة والبحث عن أبيها، لذا وفي لحظة طفقت تمشي وسط جموع شاطرتها نفس الرغبة في العودة والبحث عن حياة جديدة هناك، تولد من رحم كارثة لفت حياتهم وغيرتها.
وصلت سعاد الواحة بعد قطع مسافة طويلة، لكنها كانت مختلفة هذه المرة، فالسماء كانت ممتلئة بالغيوم السوداء المتداخلة، أما النخل فقد أنهكه ثقل الغبار المتراكم عليه، حتى الأرض كانت جافة، تتشقق من تحت قدميها في صورة كئيبة للغاية. كانت الجموع تتدافق، محاولة اختراق الغبار المتراكم في الجو والبحث عن أي شيء له علاقة بالماضي. ابتدأت رحلة البحث مع هطول المطر الذي كان غزيرا فأنصتت سعاد لصوت ارتطامه بسعف النخيل. حتى صوت تشرب الأرض له كان مسموعا. كان الجو دافئا، يعبق برائحة الدخان.
ظهر بعض الصفو بعد هطول المطر، الأمر الذي ساعد سعاد في البحث عن الأمل الذي ستنبض به هذه الواحة من قلب هذا الحدث. ظلت سعاد وغيرها يبحثون عن ذويهم طيلة تلك الليلة التي بزغ فيها القمر. كانت في قلوبهم ذكرى طيبة وأمل مرتقب، ربما تشهد عليه إشراقة شمس غابت أسابيع عديدة، أو ربما تظهر نجمة في السماء تحتضن في قلبها روحا طيبة كانت تعيش في الماضي هنا.
◄ ربا الناصر
▼ موضوعاتي