بلال عبد الفتاح - الأردن
اللغة والإنسان
اللغة كائن إنساني: تولد وتتوالد، تنمو وتتطور، تحاور وتجاور، تتأثر وتؤثر، تفصح وتضمر. تقرض وتقترض، وبما تأتيها العوادي فتنقرض، كل ذلك تعيشه حيناً من الدهر ثم تموت.
والإنسان كائن لغوي، تمتلكه اللغة داخلياً وخارجياً. داخلياً عن طريق التفكير فلا يفكر إلا من خلالها. وخارجياً لا يفصح التعبير إلا بحروفها. تمتلكه عقلاً: إذ لا يدرك المعاني إلا في ظلالها، ويجد مجتهداً في اقتناص شواردها، وتمتلكه يداً لا يسطر إلا حروفها، وتمتلكه لساناً لا ينطق إلا ألفاظها، وتمتلكه عيناً لا يرى إلا صورتها، وتمتلكه أذنا لا يفهم من الأصوات إلا أصواتها.
تمتلكه وهي تعكس صورته وجنسه ذكراً أو أنثى، وتكشف هويته ودينه، وتميزه طبقة وميولاً واتجاهات، تمكنه من التواصل مع الآخرين، تراود صاحبها، تغريه حيناً، وتتمنع أحياناً. تمكن صاحبها منها فيظهر فصيحاً، طليق اللسان، بليغاً، وتتمنع رغبة عنه، لتعلن فيه عجزاً وعياً.
تبيح جسدها لكل العلوم، حاملة من كل علم أجنة، دون اختلاط في الأحساب والأنساب، دون غيرة يقتتل دونها الآباء، بل تجمع الآباء للتحاور والتشاور في شأنها، فيما يجعلها أكثر إغراء وإغواء، فيما يزيدهم شهوة وقدرة للنيل منها، فيقابلون بينها وبين الأخريات من اللغات، يقابلون ويطابقون، ويحاورون ويقترضون لها ويقرضون، يمازجون بينها وبين مزايا الأخريات، يمدونها بما يجعلها حية في دمائهم، وعلى لسانهم، ترافقهم في حلهم وترحالهم، فتراها في أفكارهم، وفي أعمالهم المختلفة، وبيئاتهم المتعددة، فتجدها حاضرة في الفكر، والدين، والسياسة، والاقتصاد، وفي العلوم كلها.
تجدها مع همس المحبين، ونجوى العابدين، وثرثرة اللاهين، وفكر المتأملين، تجسد المعاني والمعنويات، وتطلق الألفاظ لمعان لا تنتهي، تقرب البعيد، وتقصي القريب، وتبقى محافظة على إغرائها، متجددة في إغوائها. وإليها يعود أولئك الآباء منتصرين وشاكرين.